صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

لماذا لا يمكن بناء الانتقال على الركام

شارك هذه الصفحة

تحاول هذه الأسطر أن تكشف ملامح من العملية السياسية التي تشكلت وفق شروط لحظة 2019م التي شكلت الاعلان السياسي و الوثيقة الدستورية ومن ثم وثيقة اتفاق جوبا 2020م ، وبعدها 25 أكتوبر 2021م (انقلاب البرهان)، والإدعاء الذي تقدمه هذه المقالة أننا لا يمكن أن نقرأ جميع هذه اللحظات من بعضها البعض، وتتخذ هذه المقالة منهجية أستاذ العلوم السياسية (دانكورات رستو 1924-1996) خلفيتها النظرية.

في ربيع العام 1970 نشر المفكر الألماني دانكوارت رستو  (Dankwart Rustow  ) على صفحات مجلة Politics      Comparative مقالا بعنوان (Transitions to Democracy: Toward a Dynamic Mode) ربما تكون قد مضت عقود على مقالة رستو ، الا أنه من خلال إلقاء الضوء على فحوى هذه المقالة يجدر بنا كمنشغلين في الوقت الراهن بالانتقال الديمقراطي في السودان وخصوصا بعد لحظة (2019م ) أن نطرح الأسئلة الصحيحة حول مقولة الانتقال الديمقراطي، خصوصا وأنه أصبح الرماح التي  توضح في أسنتها مقولات الخطاب السياسي التي يلقي بها جنرلات ونخب سياسية حول مسامعنا يوميا.

بإختصار ما يحاول أن يقوم به (رستو) في مقالته هو أنه يمكن للديمقراطية أن (تتخلق) وهو ما يجب الاهتمام به بدلا من البحث عن امكانيات الاستمرار أو البحث في شروط الانتقال الديمقراطي  أن التعقيد الذي قام به من خلال نقد المدارس النظرية في مفهوم الانتقال يمكننا أن نستفيد منها في نقد الممارسات التي قامت بها مكونات السلطة طوال أربع أعوام .

إن الإدعاء الذي قدم في أبريل 2019م بأنه لابد من شراكة دستورية بين مكونات القوى المدنية (قوى إعلان الحرية والتغيير) مع (المجلس العسكري)، هو أن هذه الشراكة (ضرورية) للانتقال الديمقراطي، ولكن حسب دانكوارت فأن الطريق نحو الديمقراطية قد يغوي متملق غير ديمقراطي (سلطوي) وهو ما سينتج عنه أزمة شرعية سياسية (دستورية)، وهو ما يعاد إنتاجه الآن بصورة تجعل من الاستحالة الحديث عن انتقال ديمقراطي في ظل أزمة دستورية نشأت وتعقدت نتيجة لطموح الفاعلين، وهو ما جرى في 17 نوفمبر 2021م عندما اتفق رئيس الوزراء المستقيل (عبد الله حمدوك ) والقائد العام للقوات المسلحة (عبد الفتاح البرهان) حيث انهار الاتفاق نتيجة لغياب الشرعية السياسية.

ان كانت الشرعية السياسية هي التي جعلت وعجلت من انهيار اتفاق (حمدوك-برهان) فإننا أمام تعقيد آخر شهدناه في ثلاث مراحل من عمر الفترة الانتقالية، الأول في 2019م وهي اللحظة التي خلقت شرطا سياسيا أصبح جميع الفاعلين يدورون في فلكه، والثاني لحظة 2020م باتفاق سلام جوبا، الذي جعل من المستحيل استمرارية الفترة الانتقالية في ظل شروط وممارسات سلطة مختلة المكونات و الشرعية، والثالث لحظة 25 أكتوبر 2021م، ولا يمكن أن نفصل هذه الفترات والمراحل عن بعضها البعض.

بالنظر إلى المراحل التي تحدث عنها (روستو) في مقاله فإن الانتقال الديمقراطي يمر بمراحل، أولها الصراع بين النخبة الحاكمة والنخبة المعارضة. في سياق السودان وقبيل الثورة، كانت النخبة الحاكمة والمعارضة (السياسية) قد توصلت إلى اتفاقات ضمنية بقبول الوصول إلى تسوية سياسية كانت قد بدأت في العام 2014م، وظهر دخان في الأفق يشير  إلى تواصل التفاهمات مراحل متقدمة وهو ما نتج عنه مصطلح الهبوط الناعم (Soft landing) والذي بدده حراك 2018م، لترفع النخب السياسية المعارضة ذات الشعارات التي حملتها الفئات الاجتماعية التي خرجت عشية ديسمبر ، إلا أنها لم تكن تحملها وفق بردايم سياسي بل جاءت مع موجة طموحاتها.

بعد العام 2019م المرحلة التي يجب أن تكون مرحلة توافق واتفاق على خطوط عريضة للفترة الانتقالية، ظهرت طموحات أخرى لدى جميع تكوينات السلطة، والمعارضة التي مثلتها بقايا النظام السابق وبعض الذين كان النظام يمثل لهم الحفاظ على مصالحهم. لتنعكس المواقع وتظل المواقف ثابتة. ونجد هذه المقاربة عند (رستو ) في المرحلة الثانية للانتقال الديمقراطي، وهي مرحلة الاختيار (الاتفاق أو عدم الاتفاق) على قواعد اللعبة الديمقراطية، ونجد أن المكونات السياسية (جميعها) لم تتفق على هذه القواعد مما عجل بالانهيار في 25 أكتوبر.

إن المرحلة التي أطلقنا عليها الانهيار حسب (روستو) هي متوقعة طالما ان (الإرادة السياسية) والارادة (الوطنية) نحو الانتقال لم تتخلق عند هذه القوى، لذلك يمكن لنا أن نقرأ 25 أكتوبر ضمن هذه المقاربة، فحسب الخطاب الذي خرج به القائد العام للقوات المسلحة في مؤتمره الصحفي بتاريخ 26 أكتوبر كان يدعي فيه اكمال هياكل السلطة الانتقالية، المحافظة على أمن السودان ولكن شيء لم يحدث أو يتغير بل تصاعدت الوتيرة بشكل مقلق، سواء بفعل فاعل أو تناقضات ظلت تتشكل طوال هذه المدة (الفترة الانتقالية).

إن الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن يتشكل ما لم يكن خيارا في الممارسة وقدرة وفق إرادة سياسية واضحة من قبل مكونات العملية السياسية، وليس ادعاء يقدم، فالأحزاب السياسية قد تحولت إلى مجموعة من البؤر التي تبحث عن السلطة وفق خيارات لا ديمقراطية، مما ينتج عنه فعل وممارسة سياسية تعجل من انهيار الانتقال.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *