صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

ما الذي تفعله (لجنة التفكيك) من أجل السياسة؟

شارك هذه الصفحة

 في 25 أكتوبر من العام الماضي نفذ قائد الجيش في الخرطوم انقلابه على حكومة الفترة الانتقالية برئاسة د. عبد الله حمدوك، وبذلك قطع الطريق أمام تجربة أفريقية واعدة للانتقال الديمقراطي. وبقرارات متسارعة أعلن قائد الانقلاب عن تجميد عمل لجنة تفكيك تمكين نظام الثلاثين من يونيو، وهي المؤسسة الأهم في عملية الانتقال، وقبض على قادتها وأودعهم المعتقلات، ثم واصل في نقض قراراتها تباعا.

نشأت اللجنة في نوفمبر 2019 بموجب قانون (تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 وإزالة التمكين)، لمهمة محددة، هي تنظيف الحياة السياسية من حركة الأصول والأموال التي نهضت مع انقلاب الإنقاذ، وكان يديرها أعضاء حزب المؤتمر الوطني المحلول، الذين أصبحوا يتصرفون في أموال الدولة وسلطانها وأجهزتها دون محاسبة أو مساءلة، وذلك لتسخير وشراء الولاءات والتحالفات السياسية، أو صرف تلك الأموال في المشاريع البذخية. ومن هذه التصرفات تضخمت بشكل لافت أكبر شبكة للسوق السياسي للثلاثة عقود الماضية تحت رعاية حزب المؤتمر الوطني ورئيسه عمر البشير.

في الواقع، ومنذ سبعينيات القرن الماضي كانت السياسة في السودان خاضعة لمنطق (سوق سياسية) فعالة كما يسميها إليكس دوال. وفي هذا السوق تقع عملية تبادل الأموال والثراء في الصميم من الأهداف السياسية، أكثر من الاهتمام بتطبيق القانون وبناء المؤسسات وتمتين الديمقراطية وحقوق الإنسان.

ساعدت على فاعلية هذا السوق الكاسح وجود حكومات دكتاتورية فاسدة ومضاربة، وسخية في تغذية نشاطه ببيع النفوذ وشراء الولاءات السياسية (النفوذ المالي يقود إلى السياسة، والعكس صحيح أيضا).

 ففي الأعوام من 1972 إلى 2011، بدا هذا السوق في الظهور بشكل يدلل على نضجه واستفحاله (إليكس دوال 2019)، حيث تحولت الوظائف والخدمات العامة، والولاءات السياسية، إلى سلع تباع، ويتم تبادلها بين الحكومة وزبائنها، وزادت من وتيرة هذه السلع، بطريقة مباشرة، عائدات متدفقة من القروض في السبعينيات، وتدفقات النفط في عهد حكومة الإنقاذ، ثم عائدات الذهب والأحلاف الإقليمية السخية في السنوات الأخيرة.

هذا الوضع المتأخر لنشوء السوق السياسية، جاء على العكس مما كانت عليه أحوال السياسة السودانية في فترة الستينيات من القرن الماضي، إذ كانت تسيطر على الاقتصاد السياسي كتل سياسية– اقتصادية تتمثل في حزبين طائفيين كبيرين يعتمدان على مصالح فئة الأعمال المرتبطة بالتجارة والزراعة… إلخ. وفي ذلك الوقت، كانت السياسة تتسم بالمؤسسية وقوة التوجه الأيديولوجي، ولم تكتسب طابع السوق بعد، وحينها لم تكلف الحكومة الانتقالية لثورة أكتوبر 1964 سوى تكوين لجنة ذات مهام محدودة، هي (لجنة التطهير) لتعاقب من تقاعسوا عن أمانة الخدمة العامة طوال سنوات حكومة إبراهيم عبود.

بعد الاستيلاء على السلطة في انقلاب العام 1989، عمل الاحتكار الثنائي لعمر البشير وحسن الترابي على قمع المعارضة، وتفكيك النقابات والاتحادات المهنية، وكذلك إضعاف القواعد الاقتصادية للأحزاب الطائفية والأرستقراطية الريفية، وكان ذلك تمهيدا للتمكين والمحسوبية لأعضاء وحلفاء الانقلاب.

بناء على ذلك، نجح الإسلاميون في خلق (السوق السياسية) بشكل أكثر فاعلية ووضعوا تسعيرة لسلعة السياسة. وبغرض إدارة البلاد بحد أدنى من الميزانية، أنشأ نظام الإنقاذ شبكة واسعة من التمويل الموازي. وفي الواقع، ومن عدة منطلقات عمل نظام الإنقاذ على اكساب الساحة السياسية طابع السوق بشكل كامل، وما برح أن وصل هذا السوق إلى ذروته القصوى حتى انفصال جنوب السودان، إلى أن تضاءل الوضع الإداري لـ (ضامن السوق) فسقط بثورة سلمية في 2019.

كان الثوار وقوى الحرية والتغيير بعد الثورة يتطلعان إلى سودان يخرج من السوق السياسية كُليا ويصبح دولة ديمقراطية تتسم بالمؤسسية وسيادة حكم القانون، ويغلق إلى الأبد النفاج المفتوح ما بين النفوذ المالي والسياسي، وينهي الوضع الشاذ الذي يحوِّل الوظائف العامة والولاءات السياسية، إلى سلع.

الآن عادت لجنة تفكيك التميكن للعمل مجددا، لكن من غير ضمانات واضحة بعدم الاعتراض عليها وعرقلتها من قبل قادة الانقلاب كما فعلوا في المرة السابقة، لكن، ومع ذلك فإن المطلب في الفقرة أعلاه هو ما يتعين عليها أن تقوم به بكفاءة.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *