تكسير أكشاك شارع المعرض ليس آخر دورات العنف الاقتصادي
يشير ابن خلدون في مقدمته إلى أن “زيادة الجبايات على الناس من طرف السلطان المتغلب بعصبيته تؤدي إلى فساد الرعية وانصرافها عن الصنائع وانتشار الفتور والوهن واليأس بين أفرادها فتكون الدولة مهددة بالانهيار مع أول عدوان عليها حيث أن الناس سيغلبون بالعصبية الجديدة على السلطان الجائر”.
ترصد المقولة الذهبية لابن خلدون دورات العنف الاقتصادي التي قد تمارسها الدولة على مواطنيها، وتحذر من العواقب التي ستجنيها الدولة من تلك الممارسات التي تبدو قديمة قدم فكرة الدولة نفسها.
وتثبت الحوادث منذ إضرام البوعزيزي في تونس العام 2010م، النار على جسده، مهراً للثورة التونسية والربيع العربي، صدق مقولة ابن خلدون أعلاه.
منذ يومين بدأت حملات ولاية الخرطوم بتكسير أكشاك تجارية ومحلات غير ثابتة لبائعات الشاي، بشارع المعرض وما جاوره بضاحية بري بالخرطوم، ومازالت آثار التكسير باقية دليلاً على روح التشفي التي صاحبت تلك الحملات.
ظلت الدولة السودانية تحافظ على دورة العنف تلك، وهي دورة بدأت في السودان، منذ سيطرة الجبهة الإسلامية على مقاليد السلطة، بتخريب المقدرات والمجالات الإنتاجية الحيوية، مثل الزراعة والصناعة والثروة الحيوانية، إضافة إلى تدخل الدولة مباشرة في النشاط الاقتصادي بوصفها “تاجراً” ومنافساً في السوق الحر، ثم ضعف التنمية في أقاليم السودان، وموجات الجفاف والتصحر، فضلاً عن الحروب الأهلية التي لم تخمد في أطراف السودان منذ استقلاله.
كل ذلك، أدى إلى نزوح وهجرة المواطنين، ليس من الأرياف إلى الحواضر فحسب، بل من القطاعات الإنتاجية الرئيسة في السودان: الزراعة والرعي، إلى النشاطات التجارية الطفيلية. وقد أتاحت السلطات ذلك، بتراخ مقصود، لتنشب مخلبها كلما عَنَّ لها إظهار آلة عنفها تجاه المواطن المغلوب.
في ظل الأزمة السودانية الشاملة، لم يستوعب جهاز الدولة التغير السكاني والاقتصادي، في العاصمة، ليدخل فئات مثل الباعة وأصحاب الأكشاك وبائعات الشاي والقهوة في المظلة الضريبية مثلاً، ولم يجد تعريفاً لمثل هذه الفئات في سياق تنظيمه للعمل في الأسواق مما جعل تلك الفئات عرضة للابتزاز.
وللمفارقة، إن كانت مثل تلك الحملات هي أحد وجوه نظام الإنقاذ، ومن بعده انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر 2021م، فإنها لم تتوقف حتى في ظل الفترة الانتقالية المغدورة التي استخدمت سلطاتُها مخالب النظام الذي بدا أنه لم يَبِدْ بعد الحادي عشر من أبريل 2019م.
تقول إحدى بائعات الشاي والقهوة بمحيط شارع المعرض، إنها لا تعرف لماذا تركتها السلطات تعمل لفترة من الزمن، ثم دمّرت مظلتها المُنشأة من أعواد الشجر والجوالات، لكنها سمعت بأن والي الخرطوم لا يريد أن يرى مثل هذه المشاهد على الشارع العام!
كما أنها لا تعرف أنها بعدما شادت مظلتها مرة أخرى، هل ستأتي لودرات المحلية مرة أخرى؟!
وإليكم إجابة بحسب فرضية هذا المقال: لا تكتمل دورة العنف الاقتصادي – وهو نتاج أزمة أحكمت وثاقها على سودان ما بعد الاستعمار – إلا ببروز أنياب الدولة وهي آخر علامات وجودها في السودان: الرصاص ضد المتظاهرين، ولودرات المحلية المُستأجرة ضد ضحايا ضعف التنمية التاريخي.
