صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

الجبهة الإسلامية: خمرٌ قديم في قنانٍ (قديمة)!

شارك هذه الصفحة

محمد القاضي

الخطاب الجبهة الإسلامية الإنقاذي السائد أيامنا هذه، مازال على ذات نهجه القديم في اجترار المقولات القديمة، من شاكلة: استهداف الإسلام؛ والهيمنة الغربية، إلخ. ويبدو جليا عجز أصحابه عن اجتراحِ خطابٍ جديدٍ، يواكب مرحلة ما بعد سقوط مشروعهم السلطوي. وفي ظني، أنهم ما زالوا تحت تأثير صدمة سقوط النظام، التي تدفعهم إلى إنكار أن هناك ثورة شعبية أسقطت مشروعهم السلطوي؛ ليس في وجوده المادي؛ لا بل على مستوى مشروعيته الفكرية والأخلاقية، والتي سقطت، وأسقطت هيبة النظام، نتيجة الفساد العظيم الذي تولد عن استبداد رعاته.

بدا لي ذلك الأمر واضحا من خلال مقولاتهم وتحركاتهم الماثلة، وكتاباتهم التي من بينها ما خطه، العبيد أحمد مروح، أحد الذين حملوا لواء خطاب الجبهة الإسلامية لعقود. ففي مقال له بعنوان: احتدام الصراع حول مستقبل السودان، ذهب إلى تدوين تحليل للمشهد السياسي الماثل، قائلا: “إن الصراع بلغ أشواطه الأخيرة”. في مقدمة مقاله قدم سردية، طرح من خلالها رؤيته المفسرة لكيفية سقوط نظام الإنقاذ، قائلا: إن هناك عدة أطراف قد ساهمت في اسقاط النظام. ولم يأتِ أبدا على ذكر الثورة الشعبية الواسعة على النظام، إطلاقا، من قريب ٍ أو بعيد! وتحدث في سرديته المطولة عن تاريخ تأسيس نظام الإنقاذ، والحرب التي واجهها النظام من قِبل المعارضة المتحالفة مع الغرب. والغريب- ضمن ما ذكره من أحداث- توقفه عند مسألة عزل النظام عن محيطه العربي، بُعيد أزمة الخليج؛ فأرجع ذلك بصورة أساسية للتجمع الوطني المعارض! والذي استغل موقف الحكومة من غزو العراق للكويت، تسعينيات القرن الماضي. ولم يشرح لنا كيف قامت المعارضة بذلك. وتغاضى عن ذكر تلك الوقائع المحلية، وسياسة النظام آنذاك التي تمت إبان الأزمة، من توجيه التظاهرات المؤيدة لصدام، وزيارة حسن الترابي للعراق، ثم خط النظام المستقطب للحركات الإسلامية، عبر (المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي). وكذلك تصنيف الكويت للدول الداعمة للعراق أو التي اتخذت موقفا سلبيا بدول الضد. ونسي أو تناسى، تلك الزيارة التي قام بها وزير الخارجية وقتها، مصطفى عثمان للكويت ١٩٩٨، طالبين فيها الصفح. وقد صرح الوزير في مؤتمرٍ صحفي بأنهم قد أخطأوا. فيا للعجب، كل ذلك تغاضى عنه مروح ونسب أمر تلك العزلة لفعل المعارضة! حقيقة هنا يعجز المرء تماما عن تفسير هذه الحالة! واستطرد شارحا ما تعرض له نظام الإنقاذ من ضغوط- زادت من محاولات عزله- ما قاله بنصه: “الاتهامات بالضلوع في محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك”. إذاً هي مجرد اتهامات، وليست حقيقة واقعة! ويعلم القاصي والداني ما تم في تلك الواقعة، وما تبعها من تداعيات إقليمية ودولية، وداخل النظام أطاحت بالعديد من مناصبهم. وما تم على إثرها من تصفيات طالت بعض المشاركين فيها. وهو ما أفصح عن بعضه عراب النظام، بعد الانقلاب عليه، في لقاء لشهير مع (قناة الجزيرة)، وتم بثه بعد وفاته.

نحن هنا أمام حالة إنكار تام للوقائع. وأضاف: “إنه خلال العقود الثلاثة التي حكمت فيها الإنقاذ، لم يغب هدف إسقاطها عن خصومها الذين يرون فيها نظاما إسلاميا”. وهنا مربط الفرس، نحن هنا أمام خطاب الإنقاذيين المعتاد، اجترار وهم استهداف الإسلام ممثلا في المشروع السلطوي لجماعتهم، الذي يحاربه الغرب! ثم يوالي مروح سرديته الإنكارية، ويقول: “المشروع الذي أسقط الإنقاذ إذا ليس ملكا لجهة واحدة؛ بل هو مشروعٌ فيه شركاء كُثر، لم يجمعهم سوى كرههم لنظام يرونه إسلاميا. وكان مشروعا بلا محتوى للحكم، اجتمع فقط حول شعار (تسقط بس). هنا ودون أن ينتبه جاء على ذكر الثورة وإن لم يسمها! الثورة التي أنكر وجودها؛ ذلك أنه لا يستطيع، أو بالأصح، لا يرغب في مواجهة فكرة فقدان نظامهم لشرعيته، عبر ثورة رفعت شعار: حرية، سلام، عدالة. وهو يعلم أن (تسقط بس) لم يكن شعار الثورة الرئيس، بل كان واحدا من شعارات تكتيكية، رافضٌ لأي مساومة تُبقي النظام وتضمن استمراريته بأي شكلٍ آخر. هذا هو حال الإنقاذيين الآن: الإنكار والكذب على النفس؛ فهم لا يستطيعون رؤية الجموع التي خرجت عليهم. والحق أن هذه الجموع ما انفكت تسعى في الخلاص من مشروعهم السلطوي والمتدثر بالإسلام، منذ اللحظة الأولى لميلاد النظام، عبر انتفاضات متصلة، بلغت ذروتها في سبتمبر ٢.١٣، وقمعها النظام بوحشية. ودفعته لطرح مناورة سياسية عُرفت بـ (الحوار الوطني). ثم كان نضج تلك المحاولات عبر ثورة ديسمبر المجيدة.  وها هو مروح يعود إلى الأوهام المؤسسة لخطابهم، والمستندة على وجود قوة خارجية تستهدف النظام الإسلامي، فيقول: “إسقاط نظام الإنقاذ لم يكن هدفا في حد ذاته؛ بل كانت القوى الدولية والإقليمية، التي عملت بدأب على ذلك، تهدف إلى إعادة هندسة المجتمع السوداني سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، حتى تقطع الطريق أمام عودة محتملة للقوى الإسلامية للحكم”. فالإسلاميون عنده لم يتم إبعادهم عن السلطة بواسطة الرفض الثوري الشعبي لنظامهم الفاسد والمُفسد؛ بل تم بعنصر خارجي، وبشراكة مع عميل داخلي كما يتوهم. ويوضح ذلك بقوله: “بعد مضي أربع سنوات لم يحقق أي طرف من الأطراف التي ساهمت في إسقاط نظام الإنقاذ، القدر المعقول من نجاح مشروعه”! وىضيف، وهو هنا ما ينبغي التوقف عنده: “والنظام الذي كان مطلوبا التخلص منه وظنوا أنه سيتبخر بمجرد سقوطه وحظر نشاطه السياسي، ومصادرة ممتلكات عضويته، عاد إلى حُضن المجتمع، وأضحى فاعلا في الساحة، مما استدعى إعادة رسم الخطة من جديد؛ خاصة بعد الانتكاسة التي أصيب بها المخطط في أعقاب سقوط حكومة عبد الله حمدوك”! وكأنما حكومة حمدوك هذه تم سحب الثقه منها في نظام برلماني، لتسقط؛ ولم يتم ذلك بواسطة الانقلاب العسكري الذي قاده أحد الأطراف التي وصفها في ذات المقال: “لم يكن للتحالف الخارجي أن ينجح في مسعاه لإسقاط النظام لولا الالتفاف الذي قام به على اللجنة الأمنية للنظام، موظفا طموحات، وسوء تقديرات بعض عناصرها الفاعلة”. هل نحن هنا أمام مغازلة للجنة الأمنية (المكون العسكري) بعد رميها بما جرى من انقلابها على المكون المدني في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١، الذي فتح أمام الإنقاذيين دروب العودة وإعادة التمكين!؟ من الواضح أن الآليات التي يستند عيها خطاب مروح في الترويج لأضاليله، ناتجة عن تحيزه المُسبق. من هذه الآليات نسبة الأفعال للمجهول، وفصلها عن مسبباتها. ونسبة الأفعال لغير مسببيها! والتغاضي عن وقائع التاريخ؛ ناهيك عن الكذب الصريح. هذا الخطاب المخاتل هو نتاج حالة إنكار للواقع، والعيش في الوهم. وخطاب كهذا، بلا شك، لن يصل بصاحبه لمراده. ذلك، أن هذا الأمر لابد أن يتم بمواجهة الحقيقة، وإدراك الواقع كما هو، لا كما تتوهمه. فهل يُرجى من القوم إدراك الواقع، وهم من فشلوا فشلا ذريعا في حشد الناس، تأكيدا لمدعاه: عودتهم المزعومة لحضن المجتمع! وبالطبع في تصور مروح أن هذا الإبعاد النظام من حضن المجتمع لم يكن بفعل الثورة، وسقوط شرعية النظام من قبل. والشرعية المقصودة هي: شرعية القبول. وقد اعترف قائلهم، في إحدى تظاهراتهم أمام مقر (اليونتامس)، أن البرهان قال لهم: إنكم لا شارع لكم. وقد تبين بؤس حشودهم المكرية.       ونختم بالقول: من المؤكد أن القوم لن يستسلموا. سيعاودون الكرة تلو الأخرى، ربما عبر حلفائهم، وعبر خلق أزمات هنا وهناك. لكن حتما ستظل أبواب الشعب والثورة مغلقة أمامهم. وستظل مصائب ما فعلوه في الأمة والوطن؛ ماثلة، لا تمحوها ماحية الأيام.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *