صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

خلف عدسة غرامشي : مقاربة جديدة للمجتمع المدني في السودان (1-3)

شارك هذه الصفحة

كثيرا ما تطرح مقولة المجتمع المدني في المجال العام السوداني كمتلازمة للتفكير الليبرالي، أو توجهات ليبرالية مرتبطة بأجندة ذات أبعاد معينة ومحددة، بل باتت كأنها وصمة تحدد توجهات المنشغلين على هذا المجال، وكأنها مقولة لا ثورية تكتنف ما يعرف مؤخرا بالهبوط الناعم، وهذه الأطروحة بالتأكيد خاطئة ومقولة ملوثة بحمولات سياسية لا تتوافق مع ما نحاول قوله من خلال هذه المداخلة.

تحاول هذه المداخلة بلورة فكرة المجتمع المدني من خلال مقولات المفكر الماركسي (أنطونيوغرامشي) ووقع الاختيار على غرامشي، ليس لأي مدلولات سياسية، ولكن من خلال مفهوم المجتمع المدني الذي عمل على ربطه بالممارسة والواقع، بالإضافة إلى ربطه بمفاهيم الهيمنة والثورة، وفي واقع إشكالي مثل السودان لابد من وضع مقولة الواقع داخل النظرية، من أجل ربط الممارسة والنظرية وتفاعلها مع الواقع.

فالمجتمع المدني عند غرامشي هو في الأساس مقولة فلسفية، ميزة هذه الفلسفة كما يقول إنها لا تعترف بالعوامل المتعالية أو الباطنية بالمعنى الميتافيزيقي، بل تعتمد كلية على فعل الإنسان الملموس، الذي تجبره الضرورة التاريخية على العمل وتغيير الواقع كما تنبع محورية هذا المفهوم في التصور الغرامشي من شحنه بمدلولات تجد صيغتها الكاملة، في أن كون المفهوم مرادفا للدولة الأخلاقية والثقافية كما نظر إليها هيجل وكورتشه والفلاسفة الطوباويون.

ينطلق المفهوم عند غرامشي من مناقشة بين تصورين، الأول هيجلي بامتياز، حيث يشير إلى أن المجتمع المدني وفق هيجل على أنه هيمنة جماعة ما على مفاصل الدولة، وكأنها تعبر أخلاقيا على الدولة، وعلى هذا الأساس فإن المجتمع المدني عند هيجل يقوم على أساس تقسيم العمل، والدولة هي المتعالي الذي يسمو فوق رغبات الأفراد، كما أن المجتمع المدني له تصور كنسي، وبالتحديد كاثوليكي، حيث يمثل لديهم المجتمع السياسي للدولة ويقابله مجتمع العائلة ومجتمع الكنيسة.

ما قام به غرامشي هو استعادة المفهوم مرة أخرى إلى الساحة المعرفية بعد اضمحلاله في الأدبيات المعرفية حينها، وتأتي هذه الاستعادة بناء على الشروط التاريخية التي جاء فيها غرامشي حيث شهدت تلك الفترة الثورة الروسية وصعود الحزب الاشتراكي الروسي وفشل الثورات العمالية في أوروبا الغربية، لذلك يمكن أن نقول بأن غرامشي عمل على إعادة شحن المفهوم بدلالات مختلفة بناء على أطروحاته وتنظيراته للثورة.

في كتاب “في الوحدة الإيطالية” انطلق غرامشي من مفهوم ثنائي وهو المجتمع المدني/ المجتمع السياسي، مؤكدا على عدم الخلط بين مفاهيم المجتمع المدني، والجماهير المنفردة. هذا التميز سمح لغرامشي التفكير في بنية الدولة على ضوء مفهوم الهيمنة، فالدولة عند غرامشي ليست ذلك النموذج المتعالي، وإنما هي الأداة التي من خلالها تعمل الطبقات على إعادة شروط هيمنتها وسيطرتها من جديد، وفي ذلك قدم غرامشي رؤيته لمفهوم الأيدولوجيا التي من خلالها تعمل الدولة على فرض شروط تربوية واقتصادية تمكن من سيطرة الطبقة المهيمنة على المجتمع.

إن كان ماركس قد عرف الصراع على أنه طبقي فإن غرامشي نقل هذا الصراع إلى فضاء مختلف بناء على التغيرات في بناء المجتمعات، حيث وضح أن الدولة التي تشكل المجتمع السياسي تعمل على الهيمنة وهذه الهيمنة فضاءها المجتمع المدني التي تعمل فيه الدولة على السيطرة لذلك يتخذ غرامشي من المجتمع المدني كحل لتناقض الثورة، وهذه الثورة هي ليست ثورة عمال/ بلوتاريا وانما هي عبارة عن كتلة تاريخية تعمل على مواجهة الهيمنة في شكل تنظيم أدوتها، وهذا التنظيم ينتج عنه مجتمع مدني.

إذن، المجتمع المدني في منظور غرامشي هو المجال الذي تتجلى فيه وظيفة الهيمنة الاجتماعية مقابل المجتمع السياسي أو الدولة التي تتجلى فيها وظيفة السيطرة أو القيادة السياسية المباشرة، لأن الهيمنة مرتبطة بالأيديولوجيا، فإن المثقفين هم أداتها، فالمجتمع المدني والمجتمع السياسي أو الدولة يسيران جنبا إلى جنب ويجمع بينهما في كل نظام ديناميكية السيطرة الاجتماعية. لذلك لا يكفي للوصول إلى السلطة في نظر غرامشي والاحتفاظ بها للسيطرة على جهاز الدولة، ولكن لا بد من تحقيق الهيمنة على المجتمع، ولا يتم ذلك إلا من خلال منظمات المجتمع المدني وعبر العمل الثقافي بالدرجة الرئيسية.

يمكن النظر إلى مداخلة غرامشي عن المجتمع المدني من خلال الواقع السوداني إلى إعادة تعريفه وخصوصا مع الانتقال إلى السوق العالمية والتقسيم الداخلي للمجتمع السوداني المعقدة، حيث لا هو مجتمع صناعي فيه العمال فئات يمكن أن تواجه عنف الدولة، ولا هو مجتمع فلاحي يمكن أن ينظم الفلاحيين قوتهم، لذلك يكون البديل هو تركيب مجتمع مدني يواجه الاستغلال الذي يتم لهذه الفئات، كما أنه من خلال مداخلة غرامشي استيعاب تركيبة القبيلة داخل هذا المفهوم عبر تحريرها من التبعية للسلطة والتي صكت مع الاستعمار، حيث وظفت القبيلة كتابع من خلال القيادات الأهلية واستثمارها في صراع السلطة السياسية، لذلك من الضرورة إعادة بناء المفهوم لاحتواء هذه التناقضات في الواقع وتوجيهها.

في المقالات التالية يمكن شرح هذا البناء المدني للمجتمع على ضوء التحولات التي حدثت ما بعد ثورة ديسمبر في السودان، حيث يمكن رسم فضاء جديد مدني ينقذ ما يمكن إنقاذه.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *