صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قيامة المدن

شارك هذه الصفحة

د. طلَّال عبد الباسط سعيد

لنتخيل ضفيرة ثلاثية المحاور، تنحل وتنعقد، بأساليب متباينة، تفرضها ضرورات التأمل وانحناءات التحليل، ولتكن هذه المقالة ضفيرتنا، التي ينتهي انتظامها وإحكامها إلى تشكيل مدخل لفكرٍ عمرانيٍ سوداني. تستجلي المقالة العناصر الثلاثة المتمثلة في عنصر التاريخ ودينامياته والتقلبات التي ينطوي عليها نشوء المدن وحيواتها ومواتها، والانقطاعات والفجوات المجهولة في هذا التاريخ، أما العنصر الثاني فهو عنصر اللغة العمرانية ومصادرها الخارجية أو المحلية والاسئلة التي يطرحها واقع تفاعل هذه المصادر، ويستشرف العنصر الثالث مُستقبل الفكر العمراني برؤية نقدية، وهو العنصر الذي سنسميه الأجندة الإنسانية، التي تمثل مُنطلقاً نظرياً لنقد السائد في التاريخ واللغة العمرانية، ونقد مدارس الحداثة المعمارية وتأثيرها الذي غيّب هذه الأجندة، وعبر تأمل تحليلي في بعض الأمثلة التي تجلت فيها معضلات المقاربة الحداثية، مثل المخططات الأولى لمدينة الخرطوم في عهودها الكولينالية الإنجليزية، ومدن الخليج، ونموذج (بروت آيقو) في الولايات المتحدة الأمريكية، والانتقالات النظرية المتعلقة ببعض المدارس الفكرية المعمارية مثل Team Tenو CIAM . ومن خلال هذا التأمل التحليلي، الذي يسبر منظوره التجارب المحلية والإقليمية والعالمية، نحاول النفالذ إلى أهمية استصحاب الاجندة الانسانية، ولفت النظر إلى أهمية البحث فيها، وفي الكيفيات الملائمة لتضمينها نظرياً في مستقبل الفكر العمراني السوداني.

في مفتتح هذه المقالة، سأقرر أن المدينة هي كيان اجتماعي سياسي ضد مفهوم (أصالة بعض السكان وقدمهم، مقابل جدة السكان الآخرين). فلا تقوم المدينة، عادة، على علاقات عشائرية وقبلية، إنما سكَّان من مشارب مختلفة، يحكم بينهم قانون واحد؛ فالقانون هو الذي يسود على كل سكان المدينة، على العكس مما كان سائدا في القرى والريف كما هو في فكرة (الحمى). ومتى ما وجدت هذه المرجعية التي تدعي الأصالة للبعض؛ فإنها ستجلب معها إرهاصات موات المدن وتراجعها، وربما اندثارها.

سأناقش في هذه المقالة جزء من الأسباب العامة لموت المدن، وسأمر أيضا على مصطلح (الشغب المعماري) الذي أرى أن قاعدته الفلسفية حدَّت من إسهام معماريي ومخططي المدن السودانيين في فهم المنطلقات النظرية الفعالة في النهوض بمدنهم وتقصي تطورها.

منذ سنوات، ومن واقع اهتمامي كباحث يتتبع التصورات الشائعة عن عمارة المدينة بين السودانيين، يمكن تلخيص هذا التصورات في عبارة سريعة في أنها “لم تعد راسخة”. ربما لأن السودانيين، في وضعهم الحالي، مثلا، هم نتاج سنوات من العهود التركية والمهدوية، وقد ساهم العهدان في تشكيل هذه النظرة للمدينة.

النظرة إلى التاريخ السوداني، بعامة، ينبغي أن تصاحبها الدراسة المادية. لكن الشاهد أن دراسة التاريخ محليا دائما ما تكون (حدثية وتحقيبية)، ونادرا ما تكون أفقية بالقدر الذي يتيح دراسة الظروف المحيطة بكل حدث يدون في التاريخ. وفي نهاية الأمر؛ فإن تاريخ السودان هو “تاريخ المنتصرين” كما جرت العبارة الشائعة.

لفهم المدينة ينبغي تتبع تاريخها بشكل تطوري (Evolutional) وبمقاربة تاريخية ومادية، إذ ليست هذه المدن منبتة، إنما قامت لعوامل اقتصادية تاريخية، ودائما ما تأتي نهايتها مرتبطة بهذه العوامل، وكذلك استمراريتها مرتبطة بالتنمية والرفاه الاقتصادي، وإلا انهارت.

ليست للسودانيين تصورات ثابتة يمكن الإشارة إليها بخصوص المدينة، لكن الخرطوم كانت موجودة قبل مجئ الأتراك في العام 1821م، وقبل التاريخ الذي ذكر في كتاب الطبقات حيث قيل “إن أقدم ذكر للخرطوم، مكتوب بالعربية، جاء في بيت شعر لشاعر مجهول، وهو: “مو داري تحت صفَّو لصق مسموم.. رقدَّها جهينة ونوّم الخرطوم”

ولم يرد لها ذكر بعد ذلك إلى أن سكنها الشيخ أرباب العقائد في العام1691م بقصد التعبُّد في الغابة الواقعة بين النهرين، الأبيض والأزرق، من ثم لحق به خوجلي أبو الجاز، وحمد ود أم مريوم والشيخ حِتيلِك، ثم جاء الأتراك وشيدوها كعاصمة سنة 1824م، واستخدموا في بنائها أنقاض مدينة سوبا المسيحية”، (الطبقات 1753: تحقيق يوسف فضل).

وما ينطبق على الخرطوم كذلك ينطبق على أم درمان إذ كانت موجودة منذ القدم وقبل المهدية، وهناك حفريات منذ العصر الحجري كما يشيربروفيسور جعفر ميرغني، ويقال إن أم درمان كانت واحدة من البوابات إلى أفريقيا. ومع كل هذا، يبدو لي أننا إزاء سؤال بحثي عن التصورات المختلفة للمدن لدى السودانيين؛ ولكن من العسير أن نصل بالسؤال إلى إجابات يقينية؛ لأنه لا توجد خرط للخرطوم أو أم درمان في تلك العصور، وحتى الدارسين يهتمون بالمدينتين كصروح عمرانية فقط، ولا يهتمون عادة بدراسة الأشياء المرتبطة بحياة الناس، لكن في تقديري، لن تكون بعيدة عن تصورات المدن الصحراوية، وهي مدن مبانيها منكفئة لاتقاء المناخ، رغم أن الخرطوم كانت منطقة مستنقعات مائية، ولسكانها علاقة قوية بنهر النيل، وهي علاقة تأتي على العكس من علاقة السكان الحالية التي توحي بانقطاع ما، إذ أن العلاقة الحالية مع النيل سطحية، بل يكاد ينعدم أي اتصال بالنيل أو وجوده (كثقافة) في الحياة العامة، باستثناء ما هو معبَّر عنه في الشعر والغناء؛ ربما لأن التحديث والحيازات والمزارع التي نشأت حول النيل هي السبب في ذلك، إلى جانب اندفاع الناس إلى استيراد التحديث وأشياء مثل الشاليهات.

هناك مدن كثيرة، مثل مدينة (عصار) بالقرب من سنار، والبجراوية، الموجود منها عبارة عن صروح، لكن لا نعرف كيف كانت الحياة فيها وكيف كان الوعي بالمدينة وتصورها وتشكلها، وبالطبع كان ثمة وعي بالمدينة في تلك العصور، لكنه غير مدون الآن. وكذلك مدينة سوبا.

بالإضافة إلى غياب التدوين؛ ففي الواقع ثمة هدم تم للمدن كصروح، فالدفتردار (1824) هدم مدن سودانية كثيرة، وكذلك المهدية هدمت ربما كل المدن، مثل: بربر، شندي، سنار، الأبيض، الخرطوم. ودكت هذه المدن. ولست متأكدا من صحة أطروحة النور حمد ما إذا كان (العقل الرعوي) هو السبب في جنوح المهدية إلى هدم المدن، أم لأن حصون هذه المدن صعبت من همة اخضاعها أولا، مما يجعلها في خاطر أي غزو محمتل كما يشير إلى ذلك بروفيسور جعفر ميرغني! لكن المهدية، ابتداء، ليست لديها خبرة في إدارة المدن. ومعظم المدن التي سقطت في يدها كانت عبر معارك تمت خارج المدن: الأبيض سقطت من خلال معركة شيكان، وسنار سقطت بعد عدة أشهر من وفاة المهدي نفسه، لكن، مع ذلك، تم هدمها. وهذا سبب من أسباب موات المدن. وبالنسبة لي فإن تاريخ هدم المدن من النقاط التي ينبغي أن تدرس، لمعرفة كيف تم مواتها في هذه المنطقة ولماذا، كما ينبغي استشراف المستقبل ومعرفة: لماذا فشلت المدينة القديمة وما التصور للمدن الجديدة.

الإحياء والحداثة في المدن تتم عن طريق التنمية، مثل ما فعل الإنجليز في غالبية المدن السودانية التي خططوا لها، مثل بورتسودان وعطبرة كوستي والحصاحيصا. وفي الواقع، إن التفكير في بناء المدن عن طريق الإنجليز قد لا يخلو من التآمر، لكن في محاولة إعادة بناء سواكن، مثلا، الشاهد أن سواكن تراجعت قبل الاحتلال الإنجليزي المصري، مع أن المستعمر لم يكن تركي إنما مصري، وانتقلت منها حركة التجارة إلى مصر، مما ساعد على اندثارها؛ ثم جاء (كيلي) بفكرة بناء مدينة بورتسودان بعد أن أدرك لا جدوى إعادة إحياء سواكن، وتعذر قيامها مجددا.

مفهوم الشغب المعماري

إذا كانت العمارة والعمران الحديث في المنطقة جاءا عن طريق (الغرب) كلغة وإنتاج مادي؛ فإننا ما زلنا نعبر عن المدينة بلغة الغرب. وبخصوص بلادنا، لم يتم العثور على كتابات سودانية تاريخية عن العمارة، حتى جاء العمران مع الاستعمار، لذلك كانت (اللغة الاستعمارية) هي لغة التنظير ولغة الممارسة، من واقع أن اللغة تأتي بمدلولاتها ومعانيها، وإزاء هذا، أصبحنا نتعامل مع (لغة معمارية مستلفة).

لذلك كثيرا ما يتم تداول مصطلح (الشغب العمراني) للدلالة على عشوائية المدينة، وربما جاء في سياق نقد المدنية الحالية؛ وهو، برأيي، مصطلح نسبي؛ لأنه يفترض ثمة مدينة ما منظمة وبلا شغب، وهي المقياس، وغالب الظن هي مدينة غربية، مثل الخرطوم القديمة التي خططها الإنجليز بالنسبة للسودانيين، وقد جاءت المخططات الأولى لمدينة الخرطوم ما بعد الاستقلال متأثرة بجو فكري عالمي تتحكم فيها (المدرسة الوظيفية)، وهذه المدرسة بدورها استلهمت روحها من مبادئ (المجلس العالمي للعمارة الحديثة) CIAM التي سيأتي ذكرها لاحقًا في هذه المقالة، لكن قبل ذلك هي مدرسة تقدس فكرة أن وظيفة العمارة مقدمة على أي شكل جمالي أو ملاءمة للبنية الثقافية المحلية. وقد ترسخت المدرسة الوظيفية في السودان أيضا من خلال مناهج التعليم الرسمي للعمارة.

في كل الأحوال، فإن رغبة الناس في الرجوع إلى عمارة الخرطوم القديمة تنطوي على نزعة نوستالجيا ونظرة غير تاريخية؛ لأن أحداثا كثيرة وكبيرة حدثت في السودان؛ فالخرطوم القديمة تختلف جذريا عن الخرطوم في الوقت الحالي، من حيث عدد السكان، مثلا؛ إلى جانب أن المدينة الحالية تكونت استجابة لمجتمع مأزوم ونتيجة لكوارث طبيعية من حروب وأزمات اقتصادية. وللأسف، حتى التخطيط الأول للخرطوم، خلا من احترام خصوصيات المجتمع، وبالطبع كان ذلك جريًا وراء (المدينة الوظيفية)؛ حيث جاءت جنوب الخرطوم، مثلا، على نمط مخطط (الشبكة الايرونية: أي شبكة المخططات المتقاطعةGRID IRON ). وعلاوة على ذلك، ثمة أجندة ينبغي احترامها على مستوى التخطيط في أي مدينة، لكن معظم المخططات في السودان لم تراع (احترام عبقرية المكان)، المتمثل في مراعاة المناخ والطوبوغرافيا والجوانب الرمزية والميتافزيقية غير المادية، كما لاحظ شولز على مخطط (دوكسيادس)*

لذلك أحاجج بأن مصطلح (الشغب العمراني) يعزل الناس عن فهم طبيعة المدينة، ويجعلهم، أيضا، جانحين إلى محو الوضع الحالي لصالح تبني النزعات الجديدة. وبالطبع، هذه واحدة من علاقات التاريخ: إما عداء مع الماضي ورفضه كليا والذهاب مباشرة إلى المستقبل، أو محاولة فهم الموجود والتعايش معه وتطويره. وإذا لم يتمكن السودانيون من فهم مدنهم والتعايش معها فإنه من الصعب عليهم المضي إلى الأمام بفكر عمراني محلي.

ويمثل عدم التعايش وفهم إرث المدينة أزمة في معظم المدن العالمية التي فقدت هويتها، مثل المدن في دول الخليج التي سارعت في البناء المعماري وفُتنت به، وفتنت الناس من بعد، مع أن تصميمها ربما لا يراعي المناخ والثقافة والوضع الاجتماعي بعامة. وبالنسبة لي، أي محاولة لتقليد تصاميم المدن في الخليج، بوصفها تصاميم مثالية، سيجلب معه معضلة جديدة وحلول مغتربة عن الواقع، فالصحيح هو فهم الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والاقتصادية المحلية للمدينة السودانية. لذلك من المهم التنظير للقوى الاقتصادية والاجتماعية التي تشكل المدينة؛ لأن المدينة هي انعكاس لهذه القوى. هذا التنظير، برأيي، أكثر أهمية من السعي وراء هذا المصطلح غير المضبوط.

بغض النظر عن المدينة الغربية، كمدينة نموذجية، ففي مرحلة ما تأثر تخطيط المدن بفلسفة (الحداثة)، بمفهومها في فترة الثلاثينيات والأربعينيات، وافتتان الناس بالتكنلوجيا، وفكرة أن المدينة والبيت هما عبارة عن ماكينة، وانعكس هذا في الشوارع واستخدامات المسطحات الأرضية بشكل عام، وبعض هذه المدن نجحت وبعضها فشلت؛ مثل (Pruitt Igoe) في سانت لويس بالولايات المتحدة الأمريكية؛ فقد كانت عبارة عن مجمع سكني برؤية حداثوية تمثل الحلم الأمريكي، لكن تم هدمها لاحقا بسبب أنها أصبحت حسب زعم السلطات أوكارا للجريمة، وأنها خرجت عن سيطرة الشرطة. وتدمير هذه المدينة يعتبره البعض النقطة الزمنية الفعلية لنهاية الحداثة وبداية عصر ما بعد الحداثة العمرانية.

وبعد هذا جاءت فكرة استصحاب (البعد الاجتماعي للمدينة) ضمن المراجعات التي وجهت لمدراس الحداثة وازدهرت عبر تنظيرات جين جيكوب ومجموعة (Team 10)، الذين خرجوا من كنف أصحاب الحداثة وساسها: مجموعة (CIAM) وتأثير تنظيرات (Geidion)، وبدأت التهديدات لطريقة تفكيرهم تتصاعد متزامنة مع أزمة الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية، حيث اقترحت مجموعة (Team ten) بعد خروجها عن CIAM منفستو لتخطيط المدينة الكونية، وانسلخت المجموعة بدعوى أن المدن التي تخطط لها مجموعة (CIAM) تفتقر إلى الكثير من الأبعاد الثقافية والاجتماعية، وربما السياسية.

القراءة التاريخية الأفقية، وتحليل العوامل الاقتصادية والاجتماعية وأساليب الحياة في المدن السودانية، تمثل نقطة البداية في محاولة الوصول إلى فكر عمراني سوداني، كما أن تفكيك العناصر المكونة للغة المعمارية السائدة بمصادرها المحلية والخارجية، يشكل أرضية نقدية لنقد النماذج المسقطة على واقع المدينة المتحركة، إن كانت في شكل نوستالجيا لمدينة مفقودة، أو مقارنة مع مدينة نموذجية. ويبقى أن نفكر في المقاربات التي تفتح مسارات المستقبل في التأسيس لفكر عمراني سوداني، مستصحبين الأجندة الإنسانية التي شكل غيابها في نماذج الفكر المعماري الحداثي القديم معضلة كان لها أثارها المدمرة. وهذه المقالة بمثابة نقطة استهلالية ودعوة عملية للانخراط في تكوين فكر سوداني عمراني برؤية نقدية مستصحبة التاريخ واللغة والأجندة الإنسانية، ومفتوحة للمساهمات البحثية.

*باحث ومصمم معماري


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *