رغم ان التاريخ يسجل للسودان اجراء أول انتخابات برلمانية في فترة مبكرة من تاريخه، وربما تاريخ القارة الافريقية، فإن التعثر الذي واجهته عملية الإنتقال الديمقراطي تطرح اسئلة عديدة.
وحتى في ظل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة 2019 ومشاريعها لبدء إلانتقال، لازالت شكوك تحاصر خبراء ومحللين بشأن مستقبل الديمقراطية في هذا البلد، الذي حكمه العسكر لأكثر من 50 عاما.
ومع ان السودان عرف الحكم الديمقراطي في فترة مبكرة من تاريخه، وجرت انتخابات في العام 1953 لاختيار حكومة في إطار اتفاقية الحكم الذاتي مع الاستعمار البريطاني/ المصري المشترك، وجولة انتخابية ثانية بعيد الاستقلال في العام 1958، إلا أن البلد مضى في مسار عكسي بعد انقلاب قائد الجيش إبراهيم عبود على السلطة الشرعية في نوفمبر من ذات العام.
ويشير نور الهدى محمد، وهو كاتب وناشر، إلى أن الانقلاب في 17 نوفمبر انهى تماما تجربة ديمقراطية قصيرة في الحكم، كان من الممكن ان تعمل على ترسيخ الممارسة الديمقراطية في الحكم وبناء مؤسسات الدولة والمجتمع.
“بدلا عن ذلك اتجهت البلاد إلى المجهول حرفيا، ودخلت الدائرة الشريرة المستمرة حتى الآن”، انقلاب عسكري ثم ثورة شعبية وحكم ديمقراطي قصير، فانقلاب عسكري آخر. اضاف نور
بعكس الصورة الزاهية لتلك الحقبة، قبل وبعد الاستقلال، تذهب مصادر تاريخية أن الممارسة السياسية لم تكن في مستوى التحديات التي تواجه هذه الديمقراطية الناشئة.
ومن أبرز تحديات السودان بعد انتخابات الحكم الذاتي 1953، اندلاع التمرد في الجنوب عام 1955، على خلفية مطالب نواب وسياسيين جنوبيين بالفيدرالية في الإقليم.
ويعتقد نور ان التعامل مع تلك المطالب لم يكن يتسم بالجدية والمسئولية الوطنية، مع ان بعض القوى السياسية كانت لديها رؤية ناصعة وحلول لقضية الجنوب، إلا انه لم تتاح لها فرصة تطبيقها في ظل الأجندات السائدة وتوازنات القوى.
“لقد كان مستوى وعي الأغلبية حينئذ أدنى من تفهم المشكلة وتعقيداتها، فكانت المعالجات قاصرة، كما خيم التأثير الافدح للانقلابات العسكرية وحكوماتها”. اضاف
تمرد 1955 في توريت جنوب السودان، الذي اصبح يعرف لاحقا في الأدبيات السياسية بقضية الجنوب، ساهم في إزكاء الصراع السياسي بين جميع الأطراف التي كانت تختلف حول طريقة معالجتها، وادى إلى حالة مستمرة من عدم الاستقرار السياسي وزعزعة البلاد وإضعاف الاقتصاد.
الشاهد ان الحرب استمرت في جولتها الاولى 18 عام وتوقفت بعد اتفاق السلام الذي وقعه الرئيس الراحل نميري مع جوزيف لاقو عام 1972، وافضى الاتفاق إلى الاعتراف بحق الجنوب في حكم نفسه حكما ذاتيا دون هيمنة من المركز. واحترام الأديان جميعا، بما في ذلك الأديان الأفريقية التقليدية، وعدم إضفاء أي صبغة دينية على الدولة، بجانب الاعتراف بالخصائص الثقافية لأهل الجنوب، بما في ذلك حقهم في تطوير ثقافتهم وفنونهم المحلية.
لكن الحرب عادت أشد ضراروة عام 1983 بعد إلغاء نميري الحكم الإقليمي ولم تتوقف إلا بعد 28 عاما بتوقيع اتفاقية السلام الشامل عام 2005.
الحكومات الديمقراطية المتعاقبة حاولت التوصل إلى حلول جذرية لقضية الجنوب، إلا أنها كانت تتعثر لعوامل مختلفة بعضها ذا صلة بإستيلاء الجيش على السلطة.
ففي العام 1965 انعقد مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا بهدف مناقشة حل المشكلة بين الطرفين، وانقسمت القيادات الجنوبية داخل المؤتمر إلى ثلاثة أقسام، قسم مطالب بالوحدة، وآخر بالانفصال، وثالث طالب بالحكم الذاتي في إطار سودان موحد فدرالي، وكلف المؤتمر لجنة ببحث المستقبل السياسي للسودان، ولكنها لم ترفع توصياتها بسبب استقالة حكومة سر الختم الخليفة.
وتضمنت الجهود لاحلال السلام الدفع بإعلان كوكادام 1986 من قبل تحالف قوى انتفاضة مارس أبريل،التي اطاحت بحكم نميري، والحركة الشعبية لتحرير السودان في منطقة كوكادام بإثيوبيا، حيث تم توقيع الإعلان الذي نص على رفع حالة الطوارئ، وإيقاف إطلاق النار، وإلغاء قوانين الشريعة الإسلامية الصادرة عام 1983، وإلغاء الاتفاقات العسكرية مع كل من مصر وليبيا، ولكن الحكومة المنتخبة رفضت الاستجابة لما تم الاتفاق عليه.
لم تكن اتفاقية السلام السودانية الموقعة في أديس أبابا عام 1988 بين رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي السيد محمد عثمان الميرغني وقائد الحركة الشعبية الدكتور جون قرنق استثناء من تلك الجهود التي لم يقدر لها أن تصل لغاياتها، رغم أنها أكدت مبادئ الوحدة وإعلاء رابطة المواطنة على أي رابطة أخرى، وتجمد كل القوانين المنسوبة للإسلام إلى حين البت في أمرها في مؤتمر قومي دستوري تشارك فيه كل القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية.
الاتفاقية واجهت بشكل متوقع معارضة من أطراف سياسية رئيسية من بينها حزب الأمة القومي والجبهة الإسلامية القومية، القوى الثالثة في البرلمان من حيث عدد المقاعد.
في وقت لاحق من العام 1989، اتفقت كل القوى السياسية والنقابية وممثلي القوات المسلحة برعاية الصادق المهدي رئيس الوزراء آنذاك، على نبذ الحرب وحل المشكل السوداني سلميا، التأكيد على كل الاتفاقات السابقة مع الحركة الشعبية: كوكادام ومبادرة السلام، توفير الجو المناسب لتنفيذ الاتفاق بإلغاء القوانين التي أصدرها نميري والمنسوبة للإسلام مع إجراءات أخرى.
ويبدو أن ما عرف باتفاق القصر جاء متأخرا للغاية، حيث وقع الانقلاب العسكري للجبهة الإسلامية القومية في يونيو، أي بعد نحو شهرين من التوقيع، بهدف قطع الطريق على تنفيذ هذا الاتفاق.
وعلى ما بدا فإن جهود قوى الانتفاضة لمعالجة ملف الحرب تم تقويضها في إطار التنافس السياسي بين الحزبين الكبيرين، الأمة والاتحادي، والكيد السياسي الذي مارسته الجبهة الإسلامية القومية والتحريض ضد الديمقراطية نفسها.
وربما لهذا يعتبر نور أن التعثر في انجاز الديمقراطية مرتبط بشكل وثيق بالتعثر في تسوية قضية الجنوب، على أن كل هذا التعثر تتحمل مسئوليته الممارسة السياسية للقيادات، وعلى مر الحكومات، بجانب مشاريع الاسلاميين.
لكن التركيز على أخطاء وسلبيات الممارسة السياسية، بجانب الثقافة السياسية السائدة والانقلابات العسكرية المتعاقبة في تفسير أسباب العجز، قد يخفى أسبابا جوهرية أبعد.
إذ يرى البعض أن أسباب العجز الرئيسية ليست لها علاقة بالتردي الاقتصادي ونسب الأمية وغيرها من معيقات التحول الديمقراطي في الدول والمجتمعات، بل تعود أساسا إلى أن الأحزاب السياسية اكتفت بوراثة الدولة والنظام السياسي من المستعمر، ولم تهتم بالإجابة على أسئلة التأسيس المتصلة بدولة ما بعد الاستقلال.
ويقول الدكتور الشفيع خضر، وهو سياسي وكاتب، أن كثيرا من دول القارة واجهت ذات التعقيدات المتصلة بالأمية وضعف التنمية الاقتصادية وربما الانقسام في المجتمع، لكنها تعاملت معها مباشرة، وفي وقت مبكر، لتشهد الآن أنظمة ومجتمعات ديمقراطية.
“القادة والنخب في السودان تجاهلوا أسئلة التأسيس منذ البداية، وهذا سبب أزمتنا، وإن لم نجب عليها الآن فلن تزيدنا آلية الانتخابات إلا تخبطا وضياعا”، اضاف.
وقد تكتسب هذه الرؤية ابعادا أكبر بعد أكثر من ثلاثة عقود على استيلاء الجبهة على السلطة، ثم إسقاطها في ثورة شعبية مجيدة، إذ لازالت العقبات تسد طريق التحول الديمقراطي.
يرى نور أن انقلاب 25 اكتوبر 2021 جاء في الأساس لمنع عملية التحول، والتي تتطلب مهاما بعينها كان على الحكومة الانتقالية انجازها وفق ترتيب محدد، وفي مقدمتها إحلال السلام وتفكيك بنية نظام الجبهة الإسلامية الراسخة في أجهزة الدولة والمجتمع وتحقيق العدالة، ثم عقد المؤتمر الدستوري.
وفي ذات الاتجاه يؤكد الدكتور مضوي إبراهيم أنه دون حوار مجتمعي واسع حول المبادئ الدستورية للحكم، لن يكون هناك حل ولا دولة مرضيا عنها.
“ما هو صحيح أن الأحزاب خرجت من واقع اجتماعي معين تشكل وفق ظروف محددة، بالتالي لم تتجه للإجابة على أسئلة التأسيس”، وهي أحزاب سياسية مدينية ليست لديها قدرة على طرح البرامج الحقيقية التي تمثل 99% من مواطنيها، والذين هم في الأصل مزارعين.
“ليست لديهم ملامسة لقضايا الشعب. إن لم تكن للغالبية مصلحة مادية في وجود ممارسة ديمقراطية، لن تكون هناك ديمقراطية، والمسألة أن القضايا التي تطرحها النخب المدينية ليست قضايا المجتمعات في أنحاء السودان”..
وهو يشير إلى أن اللغة السائدة حاليا حول التنوع والتعدد والهوية طالما كانت منبوذة، فلم يكن هناك اعتراف بهذا التنوع، وبالتالي، سعي حول سبل إدارة التنوع.
“الحديث عن آلية الانتخابات، في هذا الصدد، ليس لديه أي قيمة، نمشي الانتخابات على أي أساس؟ ولايات ..أقاليم؟ لابد من إدارة حوار أولا للاتفاق على المبادئ الدستورية”، أضاف إبراهيم.
ومع ان الرؤية بشأن أسباب التعثر على هذا الطريق تبدو واضحة، فإن محاولات تقديم اجابات جماعية بعد 19 ديسمبر لا تجد أذن مصغية.
الشاهد ان الاسابيع الماضية شهدت طرح اجتهادات من لجان المقاومة، الوافد الجديد على الساحة، لكنها لم تجد مكانها في النقاش العام.
وبينما يفهم البعض التاريخ السياسي في هذا البلد على انه صراع دائم بين اليمين واليسار على أسس البناء، ينظر إليه القانوني العاقب جابك الله على انه ايضا صراع ضد قوى الهيمنة الاقتصادية والنفوذ على حساب غالبية المواطنيين.
واضاف “لا يمكنك ان تُخرج المصالح الاقتصادية التي تم تكريسها عبر عقود من المعادلة، أو حتى عن الدائرة الشريرة”.