هل جاءت ثورة ديسمبر في السودان كعصى النبي موسى؟ لا، كان ذلك مجرد أمنية لم تتحقق بعد، إذ كان ينتظر منها تحقيق مطالب واقعية للشارع السوداني الثائر، ولا شيء غريب في أن تعلق عليها الآمال والرؤى، دون الانتباه لسؤال ما بعد نجاح الثورة الأولي وإسقاط رأس نظام الإنقاذ: وما العمل؟
للإجابة على هذا السؤال، كانت للمؤسسة العسكرية رؤية مختلفة ومغايرة لشركائها من القوى الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، قفزت بها على حتمية هيكلة مؤسسات الدولة، وخلقت بها حالة من عمليات متكررة لاستمرار نهب الموارد بمساعدة عناصر النظام المباد، ومهدت، فوق ذلك، لاحتمال جمة للإفلات من العقاب.
وفي الواقع، فإن الحياة السياسية الحالية في البلاد غارقة في أحوال متعددة من طرق الإفلات من العقاب الشهيرة، وهي ما يصطلح عليها اختصارا بـ الـ :4Ds Delay Denial Dilute Deceive
وما انفكت وسائل الإعلام الجماهيري وفضاء الإنترنت تذيع، بتواطوء تام، ما من شأنه التأثير على مجريات الأمور، بتضليل الشارع العام وتزييف الحقائق لإخفاء كم من الجرائم والانتهاكات، كما حدث مسبقا في مجزرة فض اعتصام القيادة العامة السلمي بالخرطوم.
لكن ما وسائل الإفلات من العقاب؟ تعد عملية تشكيل لجان التحقيق واحدة من أساليب الحكومات الدكتاتورية في تأخير الوصول إلى الحقيقة والعدالة. وفي الواقع، حدثت الكثير من المجازر والانتهاكات، وبالمقابل، تكونت العديد من لجان التحقيق، لكنها لم تصل إلى جناة أو متهمين حقيقيين، يحدث ذلك مع وجود شهود وأدلة ومستندات، والراجح أن لجان التحقيق تكون عادة لتهدئة الرأي العام وطمس الحقيقة في نهاية الأمر.
الأمر الثاني، يمثل الإنكار آلية من آليات التأخير في الوصول إلى العدالة، كالإنكار الذي تحمله تصريحات المسؤولين أو القوات المتهمة بارتكاب الجريمة، إذ هناك، دائما، طرف ثالث مجهول يلقى عليه اللوم. بالطبع يمكنك الحصول على الكثير من الأمثلة.
الأمر الثالث هو التضليل: فبعد فض الاعتصام، مثلا، وفي التصريحات الرسمية، قيل أن المقصود هو فقط تنظيف (منطقة كولومبيا المطلة على النيل) من بعض التفلتات، للحفاظ على سلامة الاعتصام، وفي الواقع كان للمقصود هو تضليل الرأي العام عما أقدمت عليه قوى مشتركة نفذت عملية فض اعتصام القيادة العامة.
الأمر الرابع هو التهوين: ودائما ما تتعامل الحكومات الدكتاتورية على أن الأفعال التي تحدث منها هي صغيرة، وغير ذات أثر، في محاولة للتقليل من شأن الأحداث الجسام.
في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر، احتفل بعضنا، وبعدة طرق، باليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب الذي تتبناه الأمم المتحدة، لكن كيف لنا أن نجعل هذا اليوم ديدنا؟