صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

جمال محجوب.. الخرطوم: المدينة النهر والذكريات

جمال محجوب
شارك هذه الصفحة

1

“كتب كونراد قلب الظلام لحظة عودة كتشنر منتصراً إلى وطنه. لم أستطع مُطلقاً أن أنفي هذه الجغرافيا أو محوها من وعي وذاكرتي… السودان ظل دوماً موضوعاً حاضراً بقوة في كل كتاباتي”.17

بصور ومشاهد مُتكرّرة افتتح بها جمال محجوب نصه “الفندق الكبير حيث نزل لويس أرمسترونج يوما”.21 تترى المشاهد في أفق تناصاتها مع كتابات العظيم الطيب صالح، خاصة في الجزء السابع الموسوم “وطني السودان”. يبدو جمال مرعوباً من خراب المدينة – الخرطوم – وحوافها وأطرافها المُتريّفة إلى حدّ أن وصفها بالأرض الخراب، وإلى أبعد من ذلك، في كون أن المجتمع تحول إلى “مجتمع رأسمالي”. 22-24

تبدّت تلك المشاهد من مدينة بحري – شارع الشلالية – حيث عاش طرفاً من طفولته الباكرة مع جدته لوالده، وتفاصيل حميمة عن المكان. ويعود بذاكرته إلى لحظة بناء السد العالي وتهجير أهله فيما بعد العام 1964م، وتشتغل ذاكرته هنا بقوة، ويحيلنا مباشرة إلى نصه “الأزرق النوبي” 2006م، روايته البديعة التي تُرجمت مباشرة وصدرت بالفرنسية، ولم تظهر في أصلها الإنجليزي إلا في عام 2014م، إضافة إلى نسخة على فورمات كندل.

صور فوتوغرافية من أرشيف الكاتب الخاص لأفراد أسرته، وأخرى متنوعة لما آلت إليه المدينة من خراب وبؤس، وأحزان النهر الذي يحيط بها. ومن هنا، مباشرة، تعود ذاكرة الكاتب إلى العام 1949م، حينما سافر والده إلى بريطانيا. وستتفتّح النوافذ على سيرة ذاتية تتنوع في أحداثها وطرائق كتابتها، حيث يُظهِرُ التداخل الحميم لأجناس كتابة متنوعة، ذكرياتِ بيت السودان الذي غاب في سياق غامض ومُلتبس، وفقط وجه الفساد أو أحد أوجه النظام الإنقاذي البغيض.

لسنوات، ظل العم أحمد محجوب يرعى شؤون الطلاب السودانيين المبعوثين للدراسة في إنجلترا. وقد أبدى الكاتب ملاحظة من أن المبعوثين كانوا من الرجال، ونخب شمال السودان. عودة أيضاً إلى تاريخ السودان القديم، بإيقاع سرد حميم يجعل الأزمنة متداخلة، وكلها نبش في ملامح هوية ضائعة، ربما أنها في تلك الأحجار… ثم ترتدّ الذكريات إلى ذلك الخط الرفيع، حيث لقاء النيل الأزرق بالأبيض ليكوِّنا نهر النيل. مرة أخرى لحظة المهدية ومن قبلها التركية وأطماع محمد علي باشا، هنا أيضاً يستدعي الكاتب ذاكرته السردية، نصه / روايته “علامات الساعة” – حكاية غردون ومقتله على أيدي الأنصار (الدراويش) – عدا الشاعر الإنجليزي، ويلفريد بلنت، الذي اختلف موقفه من ابن الإمبراطورية البار، غردون، اختلافاً نقدياً سافراً، حينما كتب: “فارس أوكلت إليه مهمة أعدت لأحد الأغبياء”. 46

فتح ملف الزبير باشا في هذا الفصل من السيرة التي – كما ذكرنا – تتداخل فيها أحداث تاريخ السودان في عصوره المختلفة والأزمنة، مما يجعل السرد قوياً ومتماسكاً. وتستمر حكاية الزبير باشا كأحد عناصر سرد السيرة، بدأها بالصحافة البريطانية التي وصفته بـ “وحش مرعب”. ويندفع جمال في رسم صورة جاءت كبحث مضن في أضابير أرشيف الإمبراطورية، وبسخرية يقول: “عكف على الإنجيل ولم يكن له وقت لقراءة أي كتاب آخر”. 49– هنا تحضر قصيدة صلاح أحمد إبراهيم، غردون، الإنجيل والبراندي.

تعود ذاكرة جمال إلى بدايات إنشاء مدينة الخرطوم، وكيف أنها بُنيت بصرامة بريطانيين تقليديين ومحافظين، وعلى أساس عرقي وطبقي، انتهى ذلك إلى كل هذه الفوضى التي تشهدها المدينة الآن: بقايا وجه كولونيالي / استهلاكي بائس، عبث وتزييف مقيمان.. ما آل إليه وسط الخرطوم، الوجه الأكثر حداثة حتى مطلع سبعينيات القرن الماضي”. 57 أحد شخوص السيرة، نادر، يحكي للكاتب مآلات عنف الدولة، من الصالح العام وحتى بيوت الأشباح.

يعرج الكاتب على طبقة الأفندية، ربما كان مصدراه هنا عفاف عبد الماجد أبو حسبو والمرحوم خالد الكد، إلى أن يصل معلقاً على ثورة 1924م، وتناول فيما تناول – بلغة نقد – قضايا إشكالية، تتمحور حول القومية وبذور الوعي الوطني المبكر في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وطبيعة الصراع آنذاك في أوساط تلك النخب من الأفندية، ومقاومتهم الباكرة حتى بعد ثورة 1924 للإدارة البريطانية؛ ربما أيضاً أطروحة جعفر بخيت الكلاسيكية، وربما هيثر شاركي – العيش مع الكولونيالية. وتتخلل هذه التداعيات زيارتان للكاتب للمتحف القومي ومتحف الأثنوغرافيا.

زيارة صحيفة الأيام: المكان والفوضى والبهدلة، وسرعان ما يعود الكاتب إلى موضوعه الأثير الذي كان من آليات ودوافع هذه الكتابة: دارفور والموت ووحشية الحرب والسحل والإبادة الجماعية والنهب والجنجويد واغتصاب النساء والأطفال. خلفية تاريخية: ظل الإقليم مستقلاً حتى عام 1916م. واستدعى الكاتب مقالات الفرنسي، برنار هنري ليفي، المفكر الماركسي الذي كتب عن “أحداث دارفور”، وتفاعل معها على صفحات اللوموند.  ومن الواضح أن جمالاً انفعل معها أيما انفعال، وكانت أيضاً إحدى آليات الكتابة، كما أن، جيرار برونير، فتح أو كشف حقائق ووقائع الإبادة الجماعية – عرب يقتلون الزرقة – في كتابة “دارفور: الإبادة الجماعية الملتبسة”. وأشار الكاتب إلى عدة كتب تناولت الموضوع. 85-90، ونبش حتى هبش المراحيل وما أثاروه من عنف في بحر الغزال، إلى أن وصل إلى ما قاله أوكامبو – من المحكمة الجنائية الدولية – من أن دارفور صارت إلى استعارة = عالم وصل إلى أسوأ حال… سوف تكون مثل الأرجنتين، ليست مثالية، ولكن على الأقل الناس فيها لا يقتلون بعضهم البعض، وإن فشلنا خلال ربع قرن في حلها، فإن العالم كله مصيره مصير دارفور”. 92 هوّم جمال محجوب بعيداً عن الخرطوم وسيطرة دارفور على المشهد، حيث أحال إلى مصادر متعددة ومتنوعة لرفد انفعالاته عن / حول دارفور.

2

“سوف نكون منارة للسلام والرحمة والمودة في هذا العالم”. الزعيم الأزهري 1956م

“العدو الحقيقي بدواخلنا، نحن أعداء أنفسنا”. منصور خالد

نبش مرة أخرى في تاريخ السودان بتركيز خاص على الممالك النوبية حتى لحظة أن كسحتها مياه النيل بعد بناء السد العالي، طمرت المياه آثاراً، متوسط عمرها ستة آلاف سنة – ما زال شبح رواية الأزرق النوبي مخيماً في الكتابة. المهلة، اللامبالاة، الموات، والمساخة، وسيارات الأمجاد، تأملات في الناس والأماكن والأشياء: تقاطع شاعر (المك نمر) مع (البلدية)، وحادثة موت جون قرنق، من هو؟ ومروراً بياسر عرمان وما تأثر به من فكر اشتراكي أفريقي، وولتر رودني، ربما!

يسهب الكاتب في حديثه حول قرنق وثورته وأحلامه حول (سودان جديد)، في بضع صفحات إلى أن يعود بالقارئ إلى الزبير باشا مرة أخرى، في سياق الحديث عن “مشكلة الجنوب”، خاصة من وجهة نظر مثقفيه – فرانسيس دينق في مؤلفه الكلاسيكي “ديناميكية الهوية”.

في ذات السياق، بعد عرض مفصّل ومستفيض، أفاد الكاتب بما سماه “أعراض أمراض كولونيالية”، كتب قائلاً: “إن ماكمايكل وترمنجهام وهولت قد خلقوا فضاء بحثياً/ مدرسياً، كرّس لرؤية استشراقية للسودان وأهله، وهذه الرؤية تسربت إلى الإدارة البريطانية والصحافة والعاملين في مجال التنمية وصناع القرار، والأهم من كل أولئك، السودانيون أنفسهم”.119 نعود إلى أزمنة حميمة، أطراف من سيرة الكاتب، خاصة أصوله النوبية من جهة والده، وأرق البحث عن جذوره عند هيرودوت وديدور من الأقدمين، وأركل من المحدثين.

دارفور.. عودة إلى محمد بن عمر التونسي في مؤلفه الشائع “تشجيذ الأذهان” وماكمايكل ووصفه لقصر السلطان علي دينار. 139 وقفة مع كونراد مرة أخرى في قلب الظلام “… أفريقيا صارت استعارة تحيل إلى أبشع وأفظع ما في الروح البشري”. 147 ويطالعنا وجه الخالة العزيزة، حنا أرندت، وحديثها حول المد الإمبريالي وممارساته البشعة في الإبادة الجماعية في المستعمرات. وكذلك يطل فرانز فانون، ومن متنه العظيم، إنجيل الثورات (معذبو الأرض) ودعوته للتحرر، تحرر المستعمَر بإيجاد عنف مواز لعنف المستعمِر.

هنالك بورتريه منصور خالد، الزبير باشا مرة ثالثة مع الصحفية البريطانية، فلورا شو، والإيطالي، جيسي، صاحب كتاب (سبعة أعوان في السودان) 1891م، هل كان الزبير محششاً؟ أفاض الكاتب في التعليق على حوار شو مع الزبير، وانتهى إلى أن حوارها لم يكن سوى “أوهام استشراقي، طالعة من عوالم ألف ليلة وليلة، وأن السودان بدا وكأنه خرافة شرقية”. 152-155.

ينتهي هذا الفصل بتناول صورة السودان – سودان المهدية وأواخر القرن التاسع عشر – كما رسمها الأدب الكولونيالي، وركز بصفة خاصة على نص “الرياش الأربع” – النص والفيلم معاً – وذكر أن الفيلم 1939م صورت بعض مشاهده في السودان، وشارك سودانيون في التمثيل (كومبارس). هنالك مقارنة فيما بين الإخراج الأول والثاني في معالجة النص سينمائياً؟

3

 The Nile flows quietly …

Seeping through the city’s silence

And the burning sorrows of villages.

الصادق الرضي

عودة إلى الخرطوم التي تزداد تشوهاً وتشعباً وتشظياً وتزييفاً وقبح العمارة وبؤسها حتى فقدت هويتها كمدينة. حكاية (العمارات) – الدرجة الأولى – والمهندس اليوناني دوكسياديس الذي خطط الامتداد الجديد أواخر خمسينيات القرن الماضي. نشأ جمال محجوب وترعرع في هذا المكان وصار جزءاً أصيلاً من ذاكرته وذاكرة المدينة: طفولته وتاريخ المدينة.

“سنوات طفولتي ونهارات قائظه تثير السأم، كنت أقرأ روايات لم أكن أفهم الكثير منها، مكسيك غراهام غرين في روايته السلطة والمجد، لورنس ديرل ورباعية الإسكندرية، وتأملات فلسفية لأكتافيو باث، وأشعار دانتي الليجيري، ومقالات جيمس بولدوين، ومتاهات بورخيس، وروايات أجاثا كريستي، وودهاوس”. 169 وكتب معلقاً: “أخذت وقتاً طويلاً حتى تأكد لي أن هذا المكان… يمكن له أن يكون مصدراً عظيماً ومُلهماً لكتابة القصص”.

تداعيات وتأملات في طفولة الكاتب

“فاجأ والده يوما بأنه يريد دراسة الفلسفة!”170. لاحقاً، اكتشف نجيب محفوظ، والطيب صالح، وسوينكا، وسارتر. غناء حسن عطية والشيخ الشعراوي يفتي في التلفزيون، مما علق بذاكرته. شعور الكاتب بالتقزز مما آلت إليه المدينة قاده إلى استدعاء ما كتبه الرحالة البريطانيون – رحالان بريطانيان: بيتريك وميلي 1846-1850م حينما كتب عن الخرطوم حيث “المباني البدائية والمساكن العشوائية”. 179، وصولاً إلى صمويل بيكر الذي كتب في عام 1862م عنها قائلاً: “مدينة بائسة، قذرة، ومكان غير صحي، ويقوم اقتصادها على تجارة الرقيق”. 179، يا للتناقض، الأب أروالدر قد سحرته المدينة التي وصفها بأن بها “… حدائق غناء وظلال أشجار النخيل… إلخ.”

الانحسار التدريجي للأنا/ الذات/ الفرد” في المدن المنافي، كما قالت حنا أرندت، يندفع هنا الكاتب في تأملات عميقة حول المدينة: ثقافة المدينة، تاريخ المدن، استدعاء توني موريسون، بودلير، جويس وبيلو وحنيف قريشي، بل وحتى فتغنشتاين القائل: “اللغة مثل المدينة القديمة، متاهة من البيوت والشوارع، القديم منها والجديد”. 182-183 وكل ذلك ليبين تعلقه بالمدينة-الخرطوم- وعودته المتكررة إليها وسر ارتباطه بها، بكل تلك المشاعر المتدفقة والحنين. أصداء حنا أرندت تتردد مرة أخرى، هنا من خلال كتاباتها في الفلسفة السياسية وبحثها الأبدي عن دولة مفقودة. فضاء ينعم بحرية ومفعم بعبق التاريخ حتى ننسى تلك الفكرة عن وطن، وقد أكثر من الإحالة لكتابها (الوضع الإنساني) الذي طالما أبدى الراحل الطيب صالح إعجابه به.

من أرندت مباشرة إلى إحدى عشيقات هتلر التي كتبت كتابين، أو قل إنها أعدت كتابين لصور فوتوغرافية، وهي في الأصل مخرجة أفلام وثائقية – رصدها الراحل عثمان حسن أحمد في بيبلوغرافيا الأفلام الوثائقية عن السودان 1912-1980م – ليني لايفنشتال: وبحسب زعم الكاتب فإن الفيلسوفة والناقدة الأدبية، سوزان سونتاغ، علقت على أفلامها بقولها: “تجربة فاشية ساحرة”. وعلق عثمان على ذلك بقوله إنها: “… فتنت بأجساد المصارعين تماماً مثلما أعجبت الضباط النازيين”.193

عودة أيضاً إلى الزبير باشا وتجارة الرقيق فيما بين القرنين، السادس عشر والتاسع عشر، ثم تكوين جيش من العبيد بدأته دولة الفونج، وتعليق أوفاهي على ذلك “الشكل الأكثر غرابة للعنصرية في السودان”. 197 ورد ذكر الترابي، وفي سياق ذلك قال: “عرف تاريخ السودان شخصيات غريبة الأطوار”. ومن هنا إلى الإنقاذ الباكرة، من بيوت الأشباح إلى ساحات الفداء والإسلام الشعبي في السودان، مروراً بلحظة محمود محمد طه، هذا أو الطوفان وحتى صدور الكتاب الأسود.

4

إرهاصات الانفصال

كونراد

فيليب روث، رواية “تزوجت شيوعيا”

عودة إلى صحيفة الأيام، يبدأ الفصل – الصحيفة وأشباح عمك محجوب محمد صالح تطل مرة أخرى، وننتقل مباشرة إلى تعليقه حول بداية الأزمة الاقتصادية، نهاية سبعينيات القرن الماضي، إلى طرائق تفكير جون قرنق حول الآثار التنموية لقناة جونقلي، ومن أجمل ما خطه قلم الكاتب هنا – في حسباننا – ما قاله حول عبد الخالق محجوب، وقناعته التامة – الكاتب – بأن له تصوراً نافذاً جداً حينما جمع بين النقيضين: حينما جمع بين (نسخته الماركسية) واحتياجات مجتمع تقليدي محافظ”. 200 وأكثر من ذلك أنه رأى في طرائق تفكيره أنها إرهاصات لتناول مشكل الهوية الوطنية ما بعد الكولونيالية. 255 وأن رؤية الرجل كانت نافذة وكأنها نبوءة وتنبؤ بما سوف يحدث لاحقاً. وبالفعل، حدث ويحدث الآن. “ويعود ذلك لأنه انتبه بذكاء، خلافاً لكل السياسيين السودانيين، إلى ذلك التناقض المقيم – الثاوي- في بنية المجتمع”. ربما مفكر آخر انتبه لذلك، هو محمود محمد طه.

حديث حميم، بعودة لإيقاع السرد السيري، حول والدته البريطانية، وأنها كتبت رواية لم تنشر وقد التقطت فيها لحظة أحداث يوليو 1971م، وإعدام عبد الخالق محجوب ورفاقه، وكيف أن والديه انفعلا انفعالاً كبيراً مع الحدث.

السينما في المدينة، بمقارنة مع بؤس الراهن؛ حيث تشوهت ملامح الحداثة والتحديث معاً وبعض ذكريات مدارس كمبوني، وإشارة عابرة إلى محمد عبد الحي في سياق الحديث عن الغابة والصحراء. 268 وجامعة الخرطوم والبؤس الذي طالها والتدهور الذي لا تخطئه العين في اللغة الإنجليزية– جامعة الخرطوم التي شهدت بواكير الوعي الوطني متزامناً مع الفجر والنهضة.

عودة إلى وسط المدينة التي ضاعت ملامحها لدى الكاتب، خاصة عمارة أبو العلا القديمة، وكيف صارت باهتة وبلا ملامح، وبائسة جداً، في تحول لكثير من الأماكن إلى واجهات كئيبة فقدت كل جماليات المكان. إحالة قوية لنص محمد المكي إبراهيم “بعض الرحيق أنا والبرتقالة أنت”: ذاكرة الخلاسي وقيود الرق والسواد واللهجات الهجين، العناصر التي ميزت الهوية الثقافية للسودان. 273 مشاهد للقاءات مع بروف محمد إبراهيم خليل وبروف فاروق محمد إبراهيم حول الوضع الإنساني وحقوق الإنسان والتعليم والإصلاحات القانونية والدستورية مع تدهور الوضعين السياسي والاجتماعي.

مشهد سردي جميل. 280 (عودة) إلى موضوعة أهله النوبيين والسد العالي- يحيل القارئ مرة أخرى إلى روايته (الأزرق النوبي). على حافة السيرة كيوهات من مثل “… كانت هنالك فئة من المثقفين يناهضون الخطاب الماركسي بحجة متهافتة بأنه فكر مستورد، كانوا يحتسون الويسكي ويمتلكون سيارات أمريكية ويحرصون على قراءة صحيفة التايمز”. 288 ذلك في سياق احتفاء الكاتب بجمال تفكير عبد الخالق محجوب. مروي بوكشوب وأفول المكتبات الكبيرة في وسط المدينة وذكريات عن عم اسكندر، صاحب مروي بوكشوب. ينتهي الفصل بالحديث عن العرق وهبل السلطة في الرقابة القبلية على الصحف.

5

Their eyes follow me wherever I go.

I have unsolved the riddle, the mystery of my tragedy:

I am short, black and ugly.

الفيتوري

عودة إلى أزمنة القراءة أو جانب من سيرة القراءة والكتابة حيث قضى ثلاثة عشر عاماً عرف فيها أن القراءة والكتابة يمكنهما أن تأخذاك إلى عولم تفوق الخيال، وبعيداً جداً عن الواقع الذي تعيش فيه. اكتشف جمال في وقت مبكر لذة القراءة متزامنة مع لذة الكتابة بتعبير بورخيس، “… أردت أن أصف ذلك المكان، ومن ثم أكشفه للعالم، أن أشكله بمخيلتي… أدرك تماماً أنني أخلق أسطورتي، بل وأسطورة لذات المكان… ليس بالضرورة لهذه الكتابة أن تكون عني – على غرار هنري ميشو: أكتب لأتصفح ذاتي – بقدر ما أردتها أن تكون كتابة موازية لتراجيديا لم تع بذاتها مطلقاً”.307 “يا لهول البؤس الذي يخيم على هذه المدينة”، مقارنة ملتبسة ببدايات الثورة السودانية في سبتمبر 2013م بالربيع العربي وأفقه المصري تحديداً. خلاصة: تشظي الأمة والهوية والوطن. حضور الصين في أفريقيا نسخة ما بعد حداثة للكولونيالية.

“رواياتي الأولى شغلت بالسودان، ما الذي يعنيه أن تكون سودانياً؟ كتبت عن الحرب الأهلية في الثمانينيات – روايته الأولى رحلة صانع المطر 1989م، عن ظهور المهدي في القرن التاسع عشر – نصه علامات الساعة 1993م – وتجربة والدي وجيله – تلاشي خط الأفق 2005 – ما الذي كنت أفعله إن لم يكن بناء أمة، بناء وطن بالمخيلة السردية”. 355. زعم المؤلف أنه وجد نسخة من رواية ماركيز، مائة عام من العزلة، طبعة البنجوين الأولى 1973م في مكتبة المرحوم الأستاذ جمال محمد أحمد، وكتب عليها إهداء بتوقيع الطيب صالح: “أخي جمال، هذه هي الرواية التي طالما تمنيت كتابة واحدة مثلها.. نوفمبر 1973م”. ما أكثر الذكريات التي ارتبطت بهذه المدينة وبهذا النهر. ختاماً، لماذا اختار جمال محجوب الرواية البوليسية؟ وتحت اسم بلال باركر؟

Jamal Mahjoub (2018) A Line in the River: Khartoum, City of Memory. London. Bloomsbury


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *