ترجمة
بدأت هذه الحوارات في مارس من العام 1984، وكانت تجرى مساء كل جمعة، وتذاع على الهواء من راديو (مونيسيبال) الذي كان يديره وقتها صديق مشترك للمتحاورين، هو ريكاردو كوستانتينو. لاحقا، فُرِّغت هذه الحوارات نصيا، وحُرِّرت وصدرت في ثلاثة مجلدات تحت عنوان “محاورات”، وكتب بورخيس تقدمة لها:
“الحدث الأكثر توثيقا في تاريخ الكون وقع في اليونان القديمة حوالي خمسمائة عام قبل الحقبة المسيحية، أعني اكتشاف الحوار”.
الإيمان، اليقين، العقائد والحرمانات الكنسية، الصلوات، النواهي، الأوامر، التابوهات، الطغاة، الحروب، المجد، كلها استنفدت العالم بينما اكتسب بعض الإغريق عادة الحوار الغريبة- كيف؟ أنى لنا أن ندري. لقد تشككوا، أفحموا، عارضوا، غيروا آراءهم، أرجأوا. ربما أعانتهم على كل هذا أساطيرهم، التي كانت، كما هو حال الشنتو، ركاما من أقاصيص غامضة وتنويعات بصدد نشأة العالم. هاته التخمينات المشتتة كانت الجذور الأولى لما نسميه اليوم، ربما بشيء من الإدعاء، الميتافيزيقيا. ليس بوسعنا تصور الثقافة الغربية بدون هؤلاء القلة من المتحاورين الإغريق.
متنائيا في المكان والزمن، هذا المجلد هو صدى خافت لتلك الحوارات التليدة.
وكما هو حال كل كتبي، وربما كل الكتب، فهذا الكتاب قد كتب نفسه بنفسه. حاولت أنا وفيراري أن ندع كلماتنا تنساب من خلالنا، أو ربما برغمنا. لم نتحادث أبدا قاصدين غاية بعينها. ومن طالعوا مسودته أكدوا لنا أن التجربة كانت سارة. أرجو ألا ينقض قراؤنا هذا الرأي السخي.
في مقدمة أحد أحلامه كتب فرانشسكو دي كيبيدو: “وليعصمك الله أيها القارئ من المقدمات الطويلة، والنعوت الواهية”.
12 أكتوبر 1985
خورخي لويس بورخيس
شكسبير
أوزفالدو فيراري: في حوارات أخرى يا بورخيس تحدثنا عن الكلاسيكيات، وعن الكلاسيكيات المفضلة لديك على وجه التحديد، لكننا لم نتحدث عن الشخصية التي ألهمت قصتك (كل شيء ولا شيء)1.
– بورخيس: شكسبير2.
– فيراري: والذي قلت عنه مثلا إن الحبكة بالنسبة له كانت أمرا ثانويا3.
– بورخيس: أعتقد هذا، لكن بالإضافة لذلك، نسبة لدوافع تسويقية فقد كان يختار حبكات رائجة من الأساس. مثلا في حالة (ماكبث)4، فقد كان يعتلي عرش بريطانيا حينها ملك اسكتلندي- وهو كاتب أطروحة عن الشياطين5 بالمناسبة، كما أنه ينحدر من نسل أحد أبطال المسرحية، بانكو 6- وكل هذا كان ذا فائدة ما.
والآن، استنادا لـ (وقائع هولنشيد)7، والتي اطلع عليها شكسبير، فإن بانكو كان شخصية مغرقة في السوء، لكن شكسبير كان مضطرا لأن يجعل منه بطلا حتى لا يثير سخط الملك. وهكذا غير من الحبكة، وماكبث الذي يبدو أنه كان ملكا خيرا، إلى حد ما، اضطر أن يحوله لطاغية. كما أن حكمه دام حوالي تسعة أو عشرة أعوام، لكن كان من الملائم لشكسبير أن يضغط سياق الحدث، في الواقع (ماكبث) هي دراما شكسبير الأسرع إيقاعا، بمعنى أنها- إن جاز التعبير- لاهثة منذ ضربة البداية، بمشهد الساحرات: “متى يلتقي ثلاثتنا مجددا؟/ تحت رعد أم برق أم مطر”؟
أنجزت مع بيوي كاساريس8 ترجمة لماكبث، وكان خيارنا أن نترجم ذلك:
“Cuando bajo el fulgor del trueno”.
وفي هذا خلط متعمد بين الرعد والبرق، ثم:
“Otra vez seremos una sola cosa las tres?”
وهي ترجمة موفقة على ما أظن، لا؟
[على الأرجح تقع ترجمة بورخيس وكاساريس الإسبانية للمقطع الافتتاحي من (ماكبث) على هذا النحو:
“متى.. تحت وميض من الرعد
يغدو ثلاثتنا واحدا من جديد؟] المترجم.
– فيراري: موفقة للغاية.
– بورخيس: حسن، هي ليست ترجمة حرفية، ولكن هذا ملائم هنا… حسن، شكسبير كان ليجيزها، لا؟
– فيراري: على الأرجح.
– بورخيس: ترجمنا ثلاثة أو أربعة مشاهد، ثم لا أدري لأي سبب- فالمرء لا يدري أبدا لم تقع مثل هذه الأمو- توقفنا عن الترجمة، تركناها جانبا، ولا أدري إن كنا سنعيد الكرة مجددا.
[تحت رعد أم برق أم مطر؟] المترجم
– فيراري: لاحقا عملت فيكتوريا أوكامبو 9 على تجميعها في إصدارة (سور) 10 عن شكسبير، التي كتبت فيها قطعة قصيرة عنه.
– بورخيس: لم أكن أعرف ذلك- هل كانت لـ (سور) إصدارة عن شكسبير؟
– فيراري: مكرسة بكاملها لشكسبير، نعم.
– بورخيس: … أعتقد أنك تختلق ماضيا متخيلا.
– فيراري: (يضحك) لا لا، وقع ذلك بالفعل.
– بورخيس: عند الحديث عن شكسبير، لا يشعر المرء مطلقا أنه يكتفي من الكلام، لا؟ يشعر المرء بالرغبة في المزيد من الاستطراد. يا للغرابة، كما لو أن شكسبير كان لا متناهيا. وقد استخدمت اسمه في بعض الأحيان، وليس اسم أي شاعر آخر، لإحساسي بذاك التلميح بالتنوع اللانهائي الذي يتضمنه اسمه، والذي لا تجده في شعراء آخرين لا يقلون عنه في المنزلة. على سبيل المثال، لو أنني قلت جون دون11، حسن، فقد ذكرت اسما عظيما، ولكنه ليس بالاسم العظيم بالنسبة لمخيلة القارئ، ومن ناحية أخرى، لو أنني قلت شكسبير، فهو كذلك. هيوجو12 أيضا أسهم في أن يصبح لاسم شكسبير هذا الإيحاء باللانهاية.
– فيراري: بالحديث عن اللامتناهي في علاقته باسم شكسبير، فإننا أيضا نتحدث عن الثراء اللامتناهي للغة الإنجليزية.
– بورخيس: وهذا بالمثل. نعم. حسن، كما أسلفت من قبل فاللغة الإنجليزية تتمتع بمزية على بقية اللغات الغربية. إحصائيا تحوي الإنجليزية كلمات ذات اشتقاق لاتيني أكثر من تلك المشتقة من الساكسونية الكلمات الجوهرية ساكسونية، أي جرمانية، ومزاج كل كلمة- إن جاز التعبير- يختلف قليلا. وهذا لا يشكل فارقا إن كنا بصدد ترجمة كتاب في المنطق مثلا، أو الفلسفة. لكن إن كنا بصدد ترجمة قصيدة، فلربما كان إيقاع ومزاج الكلمات أكثر أهمية من المعنى. وهكذا فإن ترجمة حرفية لقصيدة ما قد تكون الأقل وفاءً لها. وبالتالي، فإن كل مفهوم يحوز دوما في الإنجليزية كلمتين: واحدة ذات اشتقاق ساكسوني، وهي عادة ما تكون قصيرة، وأخرى ذات اشتقاق لاتيني، وهي في العادة أطول وأكثر تجريدا. من بين كل اللغات التي أعرفها فإن الإنجليزية هي الأكثر (فيزيائية). الإسبانية لغة مجردة إلى حد ما، وكذلك اللاتينية. لكن الإنجليزية لغة فيزيائية للغاية، وهذه خاصية مهمة للشعر إلى حد بعيد. ثم التلاعب بين الكلمات الساكسونية واللاتينية… يلمح المرء ذلك في الكتاب الذي سيصبح الكتاب الكلاسيكي للأدب الإنجليزي، وهو الترجمة التي أنجزت في عصر الملك جيمس الأول- مؤلف الأطروحة عن الشياطين والمعاصر لماكبث، نعم- الكتاب المقدس بنسخة الملك جيمس13. هنا لدينا لعبة دائمة بين المصدرين الأساسيين للغة الإنجليزية: المصدر الساكسوني والمصدر اللاتيني، ويلحظ المرء النزال بين كلا العنصرين. على الجانب الآخر في ألمانيا؛ فقد أخذوا الكلمات اللاتينية وترجموها. مثلا، ‘Vaterland’ هي بالضبط ترجمة كلمة ‘patria’، وقد ترجمها الألمان لأنه ليس لديهم تلك الفكرة عن أهمية ‘أرض الآباء’. كانوا يفكرون ببساطة مثلا ضمن إطار الولاء لهذا الزعيم القبلي أو ذاك. لكن ليس عن كون أرض معينة مسقطا للرأس، وهو أمر طبيعي بالنسبة لأناس كانوا في ترحال دائم من موضع إلى آخر.
– فيراري: في حالة شكسبير، تتبدى لنا اللغة الإنجليزية كشيء غامض، تحدثت أنت عن “اللغة الإنجليزية الغامضة” 14 مشيرا إلى شكسبير.
– بورخيس: حسن، نعم، لأنه استخدم كلمات من كلا المصدرين… في ذلك الوقت كانت الإنجليزية أكثر مرونة ربما حتى من وقتنا الحالي- كان بوسع المرء على الدوام أن يستخدم كلمات مصطنعة جديدة، وكان المستمعون يتقبلونها. من ناحية أخرى فإن الكلمات المركبة يمكن استخدامها بأريحية في الألمانية، بينما يبدو استخدامها في الإنجليزية متكلفا. برغم أن جويس15 كرس نفسه لنحت كلمات جديدة. لكن عمله الأدبي مستحيل الفهم بالنسبة لأغلب الناس، لا؟ لقد كرس نفسه لذلك، وأعتقد أنه في “يقظة فينيجان”16 فيما عدا حروف العطف وحروف الجر وأدوات التعريف، فإن بقية الكلمات هي كلمات منحوتة أو مركبة. وهذا لا يتوقف على الأسماء فحسب، بل ينسحب أيضا على الصفات والأفعال. جويس يبتدع أفعالا. والإنجليزية بالطبع تتمتع بهذه السعة- وهي أن الكلمة بدون أي تحوير في شكلها يمكن أن تكون صفة أو اسما أو فعلا، وما عليك إلا استخدامها على النحو الذي تريده. على سبيل المثال لدينا في الإسبانية (valz) و(valsear) لكن (waltz) في الإنجليزية هي كلا الشيئين. كما يمكن استخدامها كصفة دون أن تتغير صورتها.
[يعني أن كلمة (فالس) في الإنجليزية هي اسم الرقصة، كما يمكن استخدامها كفعل (يرقص الفالس] المنرجم.
– فيراري: نعم، ربما هي اللغة الأكثر فعالية وظيفية.
– بورخيس: نعم، بهذا الصدد نعم. من ناحية أخرى، فأنا أحاول تعلم بعض اليابانية، وقد اكتشفت بنوع من الفزع أن الصفات فيها تصريفية، بمعنى أن الصفات تتغير حسب ما إذا كانت تتعلق بأحداث جارية، أو أحداث وقعت في الماضي، أو أحداث مستقبلية. ليس فقط الاسم والفعل يجري تصريفهما مع الزمن، بل الصفة كذلك. والطفل الياباني يتعلم ذلك دون أن يعي أنه في الواقع يتعلم شيئا بالغ التعقيد، للغاية. وهو ما يشابه ما أخبرتك به عن الأعداد التي تتغير حسب نوع المعدود، بحيث يكون لدينا نوعان مختلفان من الكلمات لكل أربع أدوات، لكل أربعة حيوانات صغيرة، لكل أربعة حيوانات كبيرة، لكل أربع أفكار مجردة، لكل أربعة أشخاص، لكل أربعة أجسام أسطوانية طويلة، يتغير نظام العد مع كل من ذلك.
– فيراري: لغات كثيرة في لغة واحدة.
– بورخيس: نعم، لغات كثيرة ضمن واحدة، ولكن يبدو أن كل هذا لا يشكل صعوبة فائقة بالنسبة لطفل، بما أن كل اللغات سهلة بالنسبة للأطفال.
– فيراري: بالفعل.
– بورخيس: ولهذا قال شاعر إنجليزي ما: “شمعٌ حين التلقي ورخام في التذكر”، وهو ما أصبح يقال عن العاشق بعد ذلك، بيسر يقع بصره على صورة المرأة التي يحب، ثم يتشبث بتلك الصورة للأبد. لكن قيل هذا أول ما قيل عن الطفل، الذي يتلقى الشيء بسهولة، ويحفظه للأبد.
– فيراري: بالطبع. والآن، عودا على شكسبير، على حياة شكسبير الشخصية، أخبرتنا أنه بمجرد أن حقق نوعا من رغد العيش كف كمدير لفرقة مسرحية وكمؤلف عن الكتابة…
– بورخيس: نعم.
– فيراري: وهذا مثال مذهل عن الطريقة التي تختار بها ربة الشعر التعبير عن نفسها من خلال إنسان.
– بورخيس: للمرء أن يعتقد، يجوز له أن يعتقد أنه كان بحاجة لهذا الحافز، حافز الاضطرار للعمل، حسن، مع مجموعة معينة من الممثلين، في مسرح بعينه، وأنه بدون كل هذا ما كان ليجد إلهامه. وهذا يحدث… لدينا مثال أقل منزلة في حالة هيلاريو أسكاسوبي17، الذي كتب أشعارا عذبة إبان الحرب الأهلية؛ لأنه كان بحاجة لهذا الحافز من الصراع، وأنه أراد أن يلهم (الجاوتشو)، الجنود. ثم لاحقا في باريس عندما حاول أن يعيد خلق كل ذلك خط رواية مطولة ومسجوعة سماها (سانتوس فيجا) أو (توأمي لا فلور). وهي تحوي قلة من الأسطر الجديرة بالتذكر، وذلك لأنه خسر ذلك الحافز.
– فيراري: آه.. بالطبع.
– بورخيس: يبدو أن شكسبير كان يحتاج ذلك الحافز، حسن، التزام الاضطرار لكتابة قطعة مسرحية لأجل ممثليه ينبغي أن تؤدى على المسرح في تاريخ محدد. وبمجرد أن حقق الرفاه المادي لم يعد يمتلك ذلك الحافز. وعلى ما يبدو فهو لم يكتب شيئا يذكر في سنيه الأخيرة، فيما عدا نعيه ووصيته التي تعمد أن تكون ركيكة، نعم. وقد توفي- كما يروي جروساك18 في كتاب له في النقد الأدبي مثير للإعجاب- إثر مأدبة حاشدة لبعض الممثلين القادمين من لندن لزيارته. مات بعد وقت وجيز من ذلك.
كما أنه كان قد كرس نفسه للنزاعات القانونية، وقد كانت المسائل القانونية مثار اهتمام دائم بالنسبة له، ويمكننا أن نرى هذا في وفرة الاستعارات (القانونية) في قصائده-نجده يكثر من استخدام الاستعارات المستقاة، حسن، من الصياغات القانونية. يسرف في الاستعارات القانونية التي تخلو منها اللغة العامية بالمثل. كان شغوفا بذلك، شغف بذلك لدرجة أنه أزجى سني شيخوخته في نزاعات قانونية تافهة. كما يؤسفني القول إنه كان مرابيا كذلك. أي أنه تناسى كونه شاعرا عظيما وفضل على ذلك أن يكون مرابيا ومحترفا للدعاوى القانونية. اختار في النهاية مصيرا ملغزا. وهو بالنسبة لي أمر عصي على الفهم تماما.
– فيراري: لكنه لم يهجر المجاز مطلقا.
– بورخيس: لا.
– فيراري: الآن، مع خاتمة قصتك يا بورخيس، قصتك عن شكسبير، (كل شيء ولا شيء)، تقول إن شكسبير خاطب الرب قائلا: “أنا الذي- في غير ما جدوى- كنت رجالا كثر، أتمنى لو أكون رجلا واحدا”.
– بورخيس: نعم، وهو ما يعني أنه يرجو لو كان شكسبير وحسب، وهذا يتكشف بالطبع- وهي محاذاة ملحة لأغراض أدبية- عن أن الرب بدوره لا يعرف نفسه على وجه الدقة، لا؟
– فيراري: نعم، يتكشف هذا من خلال جواب الرب على شكسبير، وهو ما أود قراءته الآن.
– بورخيس: بالطبع، هي حيلة لمقارنة شكسبير بالرب، وهي أقصى درجات الثناء، لا؟ مقارنة إنسان بالألوهة.
– فيراري: إجابة الرب لشكسبير تقول: “أنا أيضا لست كائنا، لقد حلمت بالعالم كما حلمت بأعمالك.. يا شكسبيري”.
– بورخيس: من ناحية أخرى، استنادا للكتاب المقدس فإن الرب يقول: “أنا هو ما أنا”19. لكن أعتقد أن قوة ذلك المقطع تتركز في (يا شكسبيري)، لأنها تعكس نوعا من التعاطف الشخصي من قبل الرب تجاه شكسبير، لا؟ هذا بالإضافة لأن شكسبير هو أحد مخلوقاته، وهو يعترف به ضمن الآلاف المؤلفة من مخلوقاته.
– فيراري: كما أنها تعكس عاطفتك الشخصية يا بورخيس تجاه شكسبير.
– بورخيس: أنا.. أو ربة الشعر، لقد وفقنا في استخدام ياء الملكية تلك مع اسم شكسبير، وهي الشيء الجوهري الذي كان يحتاجه ذلك السطر ليحقق تأثيره، لتكون له أية قوة.
الهوامش
1- لبورخيس نصوص عديدة- قصائد وقصص وأمثولات ومقالات- موضوعتها الأساسية هي فعل الكتابة، أو إن شئنا الدقة حدث الكتابة- المتقاطع بلا شك عنده مع حدث القراءة- فأمثولته المشار إليها في الأعلى (كل شيء ولا شيء)، هي في جوهرها عن المحاكاة، عن شكسبير متخيل مفرغ من كل ذاتية تخصه، وقادر على تمثل شخوص عديدة بمرجعياتها التاريخية، هذا التماهي أو إن شئنا القول- القدرة على الخلق وإعادة الخلق، ففي النهاية يصير الرب شكسبير أو شكسبير الرب- هو ما سعى إليه بورخيس في أعماله الأدبية، لكن باعتراف مستمر بعجزه عن ذلك، ففي ثنايا ونهايات كل قصيدة، أو قصة، يتمثل فيها تاريخا وثقافة قديمة، يقر بأنه لم يفارق ذاته، وأن ديمقريطس، سبينوزا، جون ميلتون، ابن رشد، وكل من تخيلهم، هم، ويا للخسارة، بورخيس نفسه. والنص الظافر الوحيد هو قصة (ذاكرة شكسبير) وفيها يصير بطل القصة شكسبير نفسه، وذلك عبر تملكه المتدرج لذاكرة شكسبيرية مزاحة عبر الزمان والمكان، أي يصير-عندما نقرأها جنبا إلى جنب أمثولته عن شكسبير- لا أحد، أو الجميع. وهنا تجيء القراءة، التي على العكس من الكتابة، تأكيد لهوية صاحبها- ولنتذكر دونكيخوت الذي صار في القسم الثاني من عمل سيرفانتس متحقق الوجود لكونه صار مقروءاً، وغدا هو مرجعية لنفسه كما لاحظ ميشيل فوكو، بينما كانت مرجعيته في القسم الأول روايات أبطال الفروسية- إن الفكرة الشائعة عن القراءة- ولا يدرى أهي شائعة لكونها خاطئة أم أن شيوعها المريب تسبب في تحويلها لخطأ، ففي نهاية الأمر، لا يصاب الصواب بالشيوع- هي أنها تنازل قصدي عن الذات، أي أن القارئ ولنستخدم كليشيها- وكل كليشيه في العادة كان في أول الأمر فكرة جديدة ومفارقة، ولكن أفواها عديدة ابتذلته، أو كما قال الشاعر: ألا حيّ من أجلِ الحبيب الطلول البواليا، لبِسن البلى مما لبسن اللياليا- يهرب من واقعه عبر فعل القراءة، وفي حقيقة الأمر- إن وجدت أو وُجد الواقع- ففعل القراءة ليس هروبا من الواقع، وإنما تأكيد له- لفيرناندو بيسوا مقطع تأملي حول فعل القراءة في كتابه (اللاطمأنينة) تحت نفس عنوان أمثولة بورخيس (لا شيء، كل شيء)، وفيه يزعم أن قارئ الروايات سعيد لكونه ينسى كُله- ذاته/ هويته- عبر الحياة في الخيال-
قصة (ذاكرة شكسبير) تقف على النقيض من قصة (بحث ابن رشد)، ففي حين امتلك بطل قصة (ذاكرة شكسبير) شيئا من ذاكرة المؤلف والشخصية التاريخية، فإن بورخيس يقر في نهاية قصة (بحث ابن رشد) بعجزه عن تمثل ابن رشد حقا.
2- لا ينفك بورخيس معاودة الحديث عن شكسبير والإشارة إليه، وبالأخص بشكل مكثف في قصته (ذاكر شكسبير)، وفي محاضرة معنونة بـ (لغز شكسبير)، وفي أمثولة (كل شيء ولا شيء) المشار إليها هنا.
في قصة (ذاكرة شكسبير) تحل بدارس لشكسبير نعمة- نقمة؟- ذاكرة شكسبير الشخصية وتوشك هذه الهبة المستحيلة أن تلقي به في مهاوي الجنون. في هذه القصة لا يدرس بورخيس فحسب حدود المفارقة بين الشخصية الأدبية للأديب وشخصيته اليومية (وتحديدا بين الأقنوم الأدبي شكسبير وملامح حياته اليومية)، بل يطرق بالمثل موضوعات أدبية وفلسفية أثيرة لديه؛ كأثر عمل أدبي بلغة معينة على مستقبل هذه اللغة ككل وعلى تقاليدها الأدبية، وكمبدأ الماهية الأرسطوطالي ومفهوم التذات، وكموضوعة الذاكرة في حد ذاتها.
أما محاضرة (ذاكرة شكسبير)، فهي عن استشكال مبتذل غزا الدراسات المكرسة لشكسبير فيما يلي صحة نسبة أعماله إليه، يفند بورخيس، بصلف عذب وسخرية لا رحمة فيها، هذه المزاعم المفتعلة والركيكة التى تصبو إلى حبكة بوليسية مشوقة في غير مظانها، وتربو- تنحط- لمستوى نظريات المؤامرة. فتعقيد الواقع-على عكس القصص البوليسية- لا يبعث على التشويق بل غالبا على الإملال.
أمثولة (كل شيء ولا شيء) المطروحة على لسان الرب نفسه هي نثر جدير بالرب بالفعل عن أن كون شكسبير شخص مفرغ من الشخصية ومن أي ذاتية أهلته لأن يتماهى مع كل البشر وأن يكون باستطاعته أن يتمثل- وأن يكون- كل البشر، يختم بورخيس الأمثولة بإشارة من شخصها الأول إلى التماثل بينه وبين (شكسبيره)..
3- يطول الحديث عن حبكات بورخيس، فبعض قصصه القصيرة تحمل أشكالا هندسية، والأخريات تتخذ من مذاهب الفلسفة والمنطق منطلقا لبناء عالم خيالي، لتفصيل أكثر حول بنية قصص بورخيس انظر الفصول: “مجازات الأدب الفنتازي، أبنية خيالية، مسألة السلطة” من كتاب بياتريث سارلو “بورخيس… كاتب على الحافة” ترجمة: خليل كلفت.
4- مكبث Macbeth أو (المسرحية الأسكتلندية) كما اشتهرت أحيانا، هي إحدى أقصر مسرحيات شكسبيرن إن لم تكن أقصرها طرا؛ تَظهَر ثلاث ساحرات لمكبث الجنرال المظفر الطموح في جيش (دنكن) ملك أسكتلندا، ويلقين عليه نبوءة ملغزة عن اعتلائه عرش المملكة، تدفعه هذه النبوءة- المحققة لذاتها نوعا ما- إلى تحقيق هذا القدر بأي شكل، ثم يجابه إلى النهاية عواقب الفظائع التي اجترحها في طريقه إلى العرش، على شخصه وعلى ضمير لا ينجح أبدا في إسكاته، لهذا يمكن النظر إلى موضوعة (مكبث) باعتبارها عن قاتل حي الضمير، أي نوع من (راسكولنيكوف)- بطل رواية دوستويوفسكي (الجريمة والعقاب)- بأثر رجعي.
5- أطروحة الملك جيمس الأول عن الشياطين المشار إليها هنا (ديمولوجي) خطها عندما كان لا يزال وليا للعهد، وعنوانها بالكامل (علم الشياطين على شكل محاورة مقسمة إلى ثلاثة كتب، لسمو وجلالة الأمير جيمس).
6- بانكو رفيق مكبث في المعركة التي تفتتح بها المسرحية وتصنع مجد مكبث، تتنبأ الساحرات لمكبث بملك لا يعقبه فيه واحد من نسله، وبنقيض ذلك لبانكو، بتسلسل الملك في نسله برغم أنه لا يصيب منه شيئا. يخدم بانكو داخل المسرحية غرض المقابل الموضوعي أخلاقيا لمكبث، الذي لا تطيش غوايات المجد والسلطة بصوابه ولا تنكبه ما اختاره لنفسه من خَلاق.
7- وقائع هولنشيد هي مجمع لتاريخ بريطانيا، نشر لأول مرة في القرن السادس عشر، ويقع في ثلاثة مجلدات، يختص أحدها بإنجلترا، وآخر بآيرلندا، وثالثها بأسكتلندا، وقد اكتسبت وقائع هولنشيد قدرا من أهميتها لاستخدام شكسبير لها كمرجع له في بعض شخوص مسرحياته، لا سيما مكبث والملك لير. أي أن شكسبير أكسب مراجعه مرجعيتها!
8- أدولفو بيوي كاساريس كاتب وصحافي أرجنتيني، جمعته ببورخيس صداقة حميمة تمخضت عن أعمال ومشاريع مشتركة، من ضمنها ابتكار كُتاب متخيلين على طريقة فيرناندو بيسوا، كـ (أونوريو بوستوس دوميك)، وهو كاتب قصص بوليسية لا يقل عن كليهما ولعا بالفانتازيا وإعمال الفكر بإخلاص في مسائل تافهة، واسمه-على حد زعم بورخيس- مشتق من اسم أحد أجداده وجد لكاساريس، وأيضا (بينيتو سواريز لينش) الذي اكتسب اسمه بذات الطريقة. يشير إمير رودريغيز مونيجال إلى حقيقة أن الأعمال المشتركة بين كاساريس وبورخيس تبدو وكأنها صدرت بقلم كاتب آخر له أسلوبه الخاص الذي لا يمكن أن يعزى بحال لأحديهما، لدرجة أنه أطلق عليه اسم (بيورخيس)، ويعتبره أحد أهم ناثري أمريكا اللاتينية عبر العصور.
9- تنتمي فيكتوريا أوكامبو الأديبة الأرجنتينية لدائرة أدبية مقربة لبورخيس، وهي مؤسسة مجلة (سور) ومن ناشريها، كما أن مسكنها (فيلا أوكامبو) في سان إيسيدرو كان مركزا نابضا لحراك بوينس آيريس الأدبي لعقود، شهدت فيلا أوكامبو زائرين بارزين كإيجور سترافينسكي ورابندراناث طاغور وإنديرا غاندي وخوسيه أورتيجا ي جاسيت. كانت أوكامبو أول عضو نسائي في الأكاديمية الأرجنتينية للآداب. جمعتها طوال عقد الثلاثينات مراسلات مطولة مع فيرجينيا وولف، تتوجت بصداقتهما ولقائهما عدة مرات، لكن انفصمت عرى هذه الصداقة عندما دعت أوكامبو ذات مرة صديقا لها يعمل مصورا محترفا لالتقاط صورة لها مع وولف التي كان من المعروف مقتها للتصوير!
10 مجلة سور (وتعني: الجنوب) كما يذكر الهامش السابق أسستها فيكتوريا أوكامبو بمجهود شبه منفرد، ونجحت في أن تجذب للكتابة فيها أقلاما مهمة: كبورخيس وبيوي كاساريس صديقيها، وإرنستو ساباتو وخوليو كورتاثار وخوسيه أورتيجا ي جاسيت وحزقيال مارتينيث إسترادا وبيير دريو لاروشييه وألبير كامو.
11- يعد جون دون من أساطين الشعر في العصر الإليزابيثي، يحتل مرتبة تُداني شكسبير نفسه بلا مواربة، وبرغم نسبته لمن عرفوا بالشعراء (الميتافيزيقيين) في الأدب الإنجليزي إلا أن لشعره فرادة تتمثل في كثافة وجرس خشنين مفارقين لحس السلاسة الشائعة حينها، كما تتمثل في طابعه الباروكي الساخر، واستلهامه لإيقاع الخطاب اليومي للحياة في انجلترا الإليزابيثية.
12 كان فيكتو هيوجو في طليعة وذروة سنام الحركة الرومانسية، ونال في حياته وبعد مماته في فرنسا مرتبة تدنو من القداسة قلّ أن تتأتى لأي أديب، لا سيما بفضل عمليه المركزيين (البؤساء) و(أحدب نوتردام). وبالإضافة لكونه روائيا؛ فقد كان شاعرا مجيدا وناقدا وأيضا- رغم حرصه الشديد على إخفاء ذلك- فقد كان رساما غزير الإنتاج ولا بأس به على الإطلاق.
13- أمر الملك جيمس الأول في العام 1605 بإنجاز ترجمة إنجليزية لكامل الكتاب المقدس، واكتملت ونشرت في عام 1611 لتصبح ثالث ترجمة للكتاب المقدس بالإنجليزية بعد ترجمة الملك هنري الثامن وترجمة الملكة إليزابيث الأولى. إلا أن نسخة الملك جيمس فاقت كليهما واكتسبت صدارة خاصة وأثرا عميقا على اللغة الإنجليزية ككل. وعنوانها بالكامل: (الكتاب المقدس: بعهديه القديم والجديد، مترجمين لتوهما من اللغات القديمة، مع مقارنة ومراجعة دقيقة للترجمات القديمة نزولا على أمر خاص من جلالته).
14- يكتب بورخيس في خاتمة كتابه (الصانع): “أشياء قليلة حدثت لي، وأشياء كثيرة قرأتها. أو بالأحرى أشياء قليلة حدثت لي أكثر جدارة من فلسفة شوبنهاور أو موسيقى الإنجليزية اللفظية”.
15- جيمس جويس في غنى عن التعريف
16- يقظة فينيجان رواية لجويس مستحيلة القراءة بإجماع كل من قرؤوها.
17 هيلاريو أسكاسوبي دبلوماسي وشاعر أرجنتيني شغف بتناول موضوعة “الجاوتشو” وتوظيف العامية في أشعاره. كتب تحت الاسم المستعار (سانتوس فيجا). وضمن هذا الاسم كبطل لرواية (توأمي لا فلور).
18- بول جروساك الذي كان ينبغي أن يكون ضابطا بحريا هجر البحر لأجل أن يلقى مصيرا غامضا في الأدب ككاتب وناقد ومؤرخ، مسقط رأسه بالأصل تولوز في فرنسا لأسرة تمت بصلة لمنطقة لانجادوك العريقة والغامضة التي كانت موئلا لهراطقة الكاثاريين، هجر فرنسا وارتحل إلى بوينس آيريس في سن الثامنة عشرة ليقضي فيها نصف قرن من الزمن هي ما تبقى له من عمر. نال شهرته متأخرا- بعيد وفاته- بفضل بورخيس وإشاراته العديدة إليه في مقالاته النقدية، وشغف بورخيس به معروف، وهو على كل حال، يعده من أساتذته. قد يكون مرد هذا التلكؤ في أن ينال حظا من الشهرة إلى طبيعته الملتهبة وحدته النقدية التي تدنو أحيانا من السباب وعادته في اكتساب أعداء في غير ما داع. خصص بورخيس جزءا من مقاله بالغ الطرافة “فن الإساءة اللفظية” لإبداعات وآراء جروساك بهذا الصدد، ونورد شذرة من هذا المقال تدرس بموضوعية وتجرد صاف مذهب جروساك في هذا الفن:
“وهاهي بعض الأمثلة اللامعة من إساءاته: منتويا هدم تاريخ ريكاردو روخاس للأدب الأرجنتيني، ماذا يفعل بول جروساك؟ يفعل ما يلي، وهو ما أثلج صدور كافة أدباء الأرجنتين:
“بعد إصغاء مستسلم لشذرتين أو ثلاث من نثر مرهق من مجلد تمتع بالإشادة العلنية من أولئك الذين تصفحوه بالكاد، أعد نفسي مخولا لئلا أتابع قراءته أكثر من هذا، قانعا بملخصات أو جداول لهذا التاريخ الوفير لكل ما لم يوجد على وجه التحقيق.
[لنتذكر مقولة حفص بن غياث عن أبي حنيفة النعمان كونه “أعلم الناس بما لا يكون وأجهلهم بما يكون”] المترجم
“أشير هنا لأول وأكثر أجزاء هذه “الكتلة” استعصاء على الهضم، والتي تشغل ثلاثا من الأجزاء الأربعة: رطانات الأهالي الأصليين والمهجنين…”.
“جروساك بتلك الروح من الدعابة المريرة يحقق الطقس الأشد توقا وتطلعا من طقوس ألعاب السخرية. التظاهر بالغبن من أخطاء غريمه (بعد إصغاء مذعن)؛ ثم إتاحة ملمح مفاجئ من الازدراء (في البداية كلمة “سِفر” ثم “كتلة”)، ثم توكيد الذم بما يشبه المدح (ذاك التاريخ الوفير)؛ وفي الختام يلقي بما لديه من أوراق.
فهو في بناءه لجمله لا يجترح من خطيئة، وهو ما قد يكون له أثره، إلا أن حجاجه لا يخلو من تلك الخطايا. فانتقاد كتاب بسببه حجمه تلميحا؛ لأنه لا رغبة لأحد في التداول مع “قرميدة” بهذه الضخامة، وفي آخر الأمر التصريح باللامبالاة تجاه بلاهة بعض الجاوتشو أو المولاتو، يبدو رد فعل جدير بقاطع طريق، لا برجل قلم.”
[لا ينتبه بورخيس هنا أنه باستخدامه لتشبيه (قاطع طريق) يرتكب ذات خطيئة جروساك التي يلومه عليها: افتراض أن حرفة شخص ما أو مسلكه اليومي دليل كاف على ذائقته الأدبية] المترجم
19- إجابة الرب في سِفر الخروج على سؤال موسى له إثر أول لقاء بينهما عما يقوله للإسرائيليين إن هم سألوه عن كنه من أرسله، ظلت على مر العصور لغزا عصيا على الترجمة إلم يكن على الفهم، فأهيه أشار أهيه قد تعني (من ضمن دغل من الاحتمالات الملتبسة): أنا الذي أنا، أو أكون ما (أو من) أكون، أو سأكون ما (أو من) سأكون [ولا عزاء لمحمود درويش]، أو كائنا ما (أو من) كنت، وقد تعني ببساطة (أنا).
كرس بورخيس مقالا عذبا لهذه العبارة، عنوانه: “تاريخ لأصداء اسم” يرصد فيه تردد هذه العبارة ثلاث مرات عبر الأزمنة والعصور، ويفتتحه بهذه الفقرة الخلابة:
“معزولا في الزمان والمكان يردد إله، وحلم، وإنسان مجنون يعي حقيقة جنونه عبارة ملغزة، تلك الكلمات وترداد صداها مرتين، هو موضوع هذه الصفحات”.
الإله المقصود هو يهوه بالطبع مخاطبا موسى، يقول بورخيس: “أية تفسيرات علقت بالإجابة المهولة التي سمعها موسى؟ استنادا إلى اللاهوت المسيحي فإن “أنا ما أنا” تصريح بأن الله وحده موجود حقيقة، أو كما علم ماجيد ميزريتش أنه ‘وحده الله من بوسعه أن يقول (أنا)’، عقيدة سبينوزا التي تجعل من كل الأفكار وتطبيقاتها مجرد صفات لجوهر أزلي هو الله، قد تكون مجرد استطراد لهذه الفكرة، وبالمثل كتب مكسيكي ما: ‘الله موجود، نحن من لسنا بموجودين’. ولا يخبرنا بورخيس بالمزيد عن كنه هذا المكسيكي.
أما الحلم فهو شخصية شكسبيرية، النقيب باروليس المخادع الذي يكتشف أمره ويجرد من رتبته، والذي يصرح إثر ذلك:
لست بنقيب من الآن فصاعدا،
إلا أنني سأطعم وأشرب وأغفو
كما يحلو لنقيب أن يفعل،
فقط ما أنا عليه
هو ما سيجعلني أعيش.
يعلق بورخيس: “هكذا تكلم باروليس، وهكذا كف فجأة عن أن يكون مجرد شخصية معتادة في كوميديا فارصية، وصار إنسانا وصار كل البشر”.
والمجنون الذي يعي جنونه هو جوناثان سويفت، الذي لا يتطرق شك لحقيقة أن المقال وإن ابتدأ بالرب وتطرق لشكسبير، إلا أنه كتب بدافع من الشجى الأصيل والصافي تجاه المأساة التي ختمت حياته بها، والتي لا يستحقها رجل نبيل وعذب مثله.
الفقرات تتحدث عن نفسها: “إلا أنه لا شيء أكثر تأثيرا من استخدامه لكلمات الرب الغامضة. الصمم والدوار والخوف من الجنون المفضي إلى الحماقة، حفزت وعمقت من كآبة سويفت. بدأ يفقد ذاكرته، لم يرد استخدام نظارات؛ لم يعد بوسعه القراءة وصار عاجزا عن الكتابة، صلى لله كل ليلة أن يبعث إليه بالموت، وذات مساء، مسنا ومجنونا ومستنفدا، سُمِع يردد، ولا ندري إن كان بنوع من التقبل أو اليأس، أو لكون المرء يرسي نفسه في جوهر ذاته الأكثر امتناعا: “أنا ما أنا، أنا ما أنا …”.
لربما أحس: سأكون بائسا، لكنني أنا، وأنا جزء من الكون، بذات حتمية وضرورة بقية أجزائه، وأنا ما أراد الرب لي أن أكون، أنا ما صنعته مني قوانين الكون، ولربما أن تكون يعني أن تكون كل شيء.”