مأمون التلب
(1)
عادت بي الصور والمشاهد المبثوثة على خشبة مسرحيَّة “آيس دريم”، لمخرجها وليد الألفي بمسرح (مركز أمدرمان الثقافي)، يوم السبت 8 أبريل 2023م؛ إلى أيامٍ مريرة وصادمة، إبّان عملنا متطوعين في “حملة حماية الحق في الحياة”، وكانت الحملة قد ابتدأت طريقاً مُكدّساً بالجثث وكنّا الزائرات والزوّار الأوائل لثلاجات المشارح التي فاحت رائحتها حتَّى أطبقت على كامل حيّ الامتداد بالخرطوم، وأصبحت هواءً يوميَّاً يتنفّسه الناس.
بالمستشفى الأكاديمي، وخلال الباب المُغلق، كنتُ أتابع خيوط الدماء السائلة من الحاويات المعدنيّة، وعندما سُمحَ لنا بالدخول والتقدّم، صَدّت أجسادنا الرائحة المنبعثة من ذلك المكان، مكثَّفة وكأنها جدار. لكننا تقدّمنا، بخطوات راجفة وعيونٍ دامعة، نُسجّل بكاميرات هواتفنا الحدث المُزلزل الذي تناسل فيما بعد ليشمل مشارح متفرّقة في البلاد، بدايةً بمشرحة التميّز بحي امتداد الدرجة الثالثة، الخرطوم، حيث أقف مع زميلاتي وزملائي داخل غرفةِ الأطباء نستمع لتقريرٍ مفصّلٍ حول هذه الجثث، ثمّ انتقالنا لقضيّة مشرحة ود مدني، ولاية الجزيرة، والجثث التي كُحتت من سطح الأرض إذ التصقت الجلود والعظام بالأرضيّة وجدران الحاويات المُبرَّدة. ذكّرتني بالتفاصيل مُرافقتي الأستاذة ويني عمر عقب العرض، وعادت بي الذكريات للمأتم الذي أقامته حملة حماية الحق في الحياة في الصحافة، بتضامنٍ واسعٍ للأفراد والمنظّمات ومجموعات الفنانات والفنانين، وآباء وأمهات الشهداء الذين تقاطروا وخاطب بعضهم الجمع المُعزّي من المنصّة، قرأ بعضهم الشعر، وقدّم بعضهم تفاصيل كارثيّة لمآلات كل هذه الجثث، واختتمت الليلة ببكاءٍ جماعي لم يستثنِ أحداً.
(2)
قَدَّم صانع العرض، وليد الألفي، ومجموعات الممثلات والممثلين، على خشبة المسرح صورةً شعريَّة عميقة لهذا الجرح الغائر؛ رأينا ما بداخله من زوايا مُعتمة، ومن سخريَّةٍ ويأسٍ موغلين في السوداويَّة، عتبات شعريَّة تصعد بالنص المسرحي إلى أعلى درجات التعبير بالتصاوير والكلمات، وليس انتهاءً بالغناء المرير والألحان الباعثة على الانغماس في ضبابٍ لَفَّ هُويَّات الجثث المتواجدة داخل ثلاجات، ومصائرها الماضية والمستقبليَّة، والطمس الرسمي لحقيقة موتها، والنداء المتكرر من إحدى الشخصيات التي لن تُدرك كيف ماتت ولماذا؟: “إكرام الميّت دفنه”.
لقد استمتعنا بتيّارٍ جماليٍّ هائل، حوَّل مأساة الجثث المجهولة الهويّة التي ملأت مشارحنا عقب المجازر المتتالية التي لم تتوقّف- منذ مجزرة القيادة العامّة في العام 2019م- لنقشٍ لن يزول من ذاكرة المُشاهد: أتذكّر هطول أمطارٍ شمال أمدرمان شكَّلت سيلاً جَرَف طبقةً من التراب، ومن تحتها طفحت عشرات الجثث لشابات وشباب بملابسهم التي قُتلوا بها، تكتشف الطبيبات والأطباء جثثاً في كلّ مكان لا يدري أحدٌ كيف جاءت وإلى أين تمضي، وعراكٌ مستمرٌّ ما بين الوزارات والهيئات الحكومية حول كيفيّة “تغطية” هذا العار المُذهل.
(3)
أُشيرُ إلى أن “الثورة” لم تُذكَر مباشرةً في العرض، مثلما تَفعل فيضانات الأعمال الإبداعية والفنّية والأدبيّة الغامرة لـ”سوق الثورة” كما أسميناه في كتابةٍ قديمة؛ المحاولات الكثيفة-البائسة في أحيانٍ كثيرة- لإعادة “تكرار” اللحظات الثوريّة غير القابلة لهكذا استهلاك، ولكنها تجدُ كلّ التصفيق الحار والدعم اللامحدود أحياناً.
ولكن ماذا بإمكاننا أن نفعل؟ سوى انتظار خيالٍ جريء كما هو لدى الألفي، إذ اقتحم بنا عالماً غيرَ مُفكَّرٍ فيه، واستنطقَ حياةً غائبةً حقَّاً، وضعها أمامنا، محاطةً بديكورٍ مُبتكر وحركاتٍ هادفة، لتُعبِّرَ عن ما لم تُعبّر عنه أغلبيّة المسرحيات المطروحة اليوم على الساحة. كذلك شَهدنا عودةً قويَّة لـ “الكتابة المسرحيَّة”، السيناريو والحوار، ما بين اللغة الدارجة والفصيحة استمعنا لنصوصٍ حقيقيَّة افتقدناها ردحاً من الزمن. يرى الكثير من النقاد المسرحيين أن مشكلةً أصيلةً أصابت مسرحنا منذ أن تغيَّب الكاتب/ الكاتبة المسرحيَّة.
لقد افتقدتُ المسرح، لكنّني أستعيده -كفنٍّ مظلوم- كلّما سمعتُ عن عرضٍ لجماعات الألفي المُتحوِّلة والمتغيّرة دائماً، بذات الطريقة التي يُطوّر بها عروضه، ففي أعمالٍ كان العرض الأول يختلف تماماً عن العرض الأخير- كما في “النسر يفرد أجنحته”- إذ لا يتقيَّد وليد ولا يتحدَّد.
أَنجَزَت العرض “منطقة صناعة العرض المسرحي”، صناعة العرض وليد عمر الألفي، ونفذت بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون “آفاق” ويشارك في التمثيل كل من (الرشيد أحمد عيسى، محمد أحمد الشاعر، نمارق عبد الله، رماح القاضي، آدم منقة، والموسيقى لرامز سراج).