في العام 2020م، ابتدرت الروائية والقاصَّة الجنوب سودانيّة استيلا غايتانو مغامرتها لجمع الكتب من السودانيين لتأسيس سلسلة مكتبات عامّة، تجاوبت مع المبادرة قطاعات واسعة من جمهور الكاتبة ومحبي القراءة، وكان أن صَنعت المبادرة فرقاً عمليَّاً خلال عامين بجمع أكثر من 18 ألف كتاب، ودعم 12 مكتبة عامَّة مجانية في الخرطوم ومدن السودان المُختلفة، وامتدت لتعبر الحدود إلى دولة جنوب السودان، واستحقت بذلك مبادرة الكاتبة عن جدارةٍ اسمها: “اصنَع فرقاً بكتاب”.
أثناء المبادرة تطوّعت مجموعات مقدّرة من الشابات والشباب في عمليات جمع وتصنيف الكتب بدار اتحاد الكتاب السودانيين الذي استضاف المبادرة حينها، وقد انتقل مقرّها حالياً إلى مباني “المعمل المدني”، حيث استمرّت المبادرة -رغم انتقال الكاتبة إلى ألمانيا الاتحاديّة- بطاقة المتطوّعات والمتطوّعين الذين آمنوا بالمشروع واستمرّوا في تغذيته وانتشاره.
بفعاليات متنوّعة، وفي مباني المعمل المدني قبل أيام، احتفلت المتطوّعات والمتطوّعين وأصدقاء وصديقات المشروع بالعام الثاني لاستمراريَّة المبادرة، حيث قدّم الدكتور بكري الجاك ورقة بعنوان “تحديات إنتاج وتوظيف المعرفة (الإطلاع الحُر نموذجاً)”، وكلمات لكلّ من: المستفيدين من المكتبات – متمثلة في مكتبة اليرموك، المتبرعين بالكتب، وتمّ الإعلان عن منصة “اصنع فرقاً بفيلم”، وقدّمت شهادات تقديريّة وتكريم وعرض صور وفيديوهات متنوعة لمراحل المبادرة. وشارك بالقراءات الشعريّة الشاعر محمد المدني، والذي كان من الداعمين كذلك.
ننشر هنا كلمة الكاتبة استيلا غايتانو، مؤسسة المبادرة، والتي قدّمتها عبر خدمة “اسكايب” لحضور الاحتفال، فإلى نص الكلمة.
كلمة صاحبة المبادرة
السادة الحضور، أحييكم بكامل مقاماتكم السامية، مع خالص شكري وتقديري لاستقطاع جزء من وقتِكم لنتشارك ما حققناه معاً خلال عامين من عمر المبادرة.
قد يتساءل أحدكم، لماذا اِصنَع فرقاً بكتاب، ولماذا المكتبات؟ ومن أين جاءت الفكرة؟ إنها ببساطة ثورة ديسمبر المجيدة، عندما رفعت واحدة من أكثر الشعارات إلهاماً وتأثيراً ألا وهو شعار “الثورة ثورة وعي”، من هنا أَخَذَت الفكرة تُدَغدغ وجدان كلّ واحدٍ منَّا إلى أن صادف تَوقنا الراسخ للتغيير. لا نتحدث عن التغيير السياسي الذي سيأخذ وقته إلى أن يأتي كما نحب، ويشبه كل تلك التضحيات العظيمة. ما أعنيه هنا هو التغيير عبر القراءة والثقافة والفنون، ومدى فعاليتها في تشكيل الفرد في وعيه وفكره وسلوكه وأخلاقه، فكان الهدف الأسمى للمبادرة هو بناء الإنسان الذي سيَبنِي الأوطان فيما بعد، كيف نحلم بوطنٍ عظيمٍ معافى ما لم نتحضَّر لذلك بالمعرفة؟ وكما تابعتم، فهذه المبادرة ليست صدفة، ولا فكرة جديدة كما سبقنا إليها البعض من قبل، إنها تشبه تماماً المرحلة، وتشبه الشعب السوداني الذي شقَّ دَربَه نحو الحرية والتحرر من ماضٍ مُظلم، أقعَدَه كثيراً ودمَّر حاضره، ولكن بفعل ثورة الوعي الذي نأمل بأن يستمر لن نسمح له بأن ينال من المستقبل الذي يَتَشَكَّل بواسطة جيلٍ حيَّر العالم بجسارتِه.
أعزائي:
لقد علَّمتنا هذه الثورة ألا نُفكِّر كضحايا بل كناجين، والناجي يُقَدّر الحياة ويحاول أن يجعل العالم أفضل، لذا عليه أن يضمّد جرورحه، وأخذ العزم لمواصلة النضال، في ميادين أخرى وبأدوات مختلفة؛ النضال الكامل والمتكامل من أجل الحق في حياة كريمة، في وطن يسع الجميع، وقارّة يَخُصّنا تماماً سلامها ونمائها، ولن نحقق كلمتي “كامل/متكامل” ما لم يمدّ المُقتَدِر المستطيع يدَه للأخذ بيدِ المستضعف منّا، وما أكثر المستضعفين والمعزولين في هوامش البلاد، المحرومين من الخدمات والمشاركة والتمثيل الحقيقي، لأننا ببساطة لن نهنأ في مراكزنا المكانية والزمانية إذا تَرَكنا جحافل من أخوتنا في الخلف.
وها أنتم تسمعون وقع تلك الخطوات التي تضرب الأرض بإصرار في طريقنا معاً نحو غدٍ أفضل، فكانت درافور بمكتباتها في كلٍّ من نيالا ونيرتتي والضعين، وانضمَّت إليهم مؤخراً كُتُم وزالنجي، ثم تلتها كادقلي، والعزازي في ولاية الجزيرة، وتندلتي في النيل الأبيض ومارينو في النيل الأزرق، ثم مكتبة فشودة في أعالي النيل، ثم مكتبة اليرموك – جنوب الحزام، المكتبة المعجزة بحقّ لأنها افتتحت مكتبتين في أحياء مجاورة بجهدٍ شعبيّ خالص، فرأينا تحقق واحدة من الأهداف الكبرى التي نسعى إليها، وهو أن يستشعر كلٌّ منَّا واجبه، ويُرفقه بالفعل والالتزام والايمان، أحسنتم مكتبة اليرموك، بكم ومعكم تجلَّت الرؤية وبان الأثر.
أصدقاء المبادرة وشركاؤها الأعزاء:
لن نحدثكم عن أهمية القراءة والمكتبات، فكل قارئ يعرف تماماً سحرهما، ونحن كمتطوّعين في المبادرة قُرَّاء في المقاوم الأول، واختبرنا سحر هذا النشاط وكيف أنه منحَ ميلاداً جديداً مع كل حزمة كتب نمرّ عليها، نُولد بوعيٍ وفكرٍ وضمير وأخلاق ترتقي بإنسانيتنا، وجعلت منا مبادرين ومشاركين فَعَّالين في مجتمعاتنا، وكم يحتاج السودان لهذا النوع من الناس، الذين تجتمع عندهم المعرفة والفعل والشعور بالمسؤولية تجاه البلاد والعباد وضمير حساس تجاه قضايا الإنسانية.
أعزائي:
ربما ترون الوجه الجميل المشرق من هذا المشروع من خلال نتائجه، لم نتحدث قط عن التحديات التي واجهناها وما زالت، ولا المشقَّات التي يتعرض لها المتطوعون في ظلّ هذه الأوضاع السياسية غير المستقرة، بالإضافة لضيق ذات اليد وغياب الدعم من أية جهةٍ حكومية كانت أو غير حكومية، ربما يرى البعض عدم جدوى مشروع كهذا من صعوبة قياس مؤشراته في الوقت الآني، فغضوا الطرف. ربما!؟ إذا صحَّ هذا التفسير فهذه كارثة أخرى من كوارث إدارتنا للمشاريع. على أي حال، استطاعت المبادرة الاستمرار بدعمٍ ذاتي وببعض المساعدة من منظمات صديقة وأفراد آمنوا بنا، وواصلنا دون أن نجعل هذه المعيقات توقف المشروع، لأننا سنرى بوضوح أثر هذه المبادرة بعد عشر سنوات على الأقل.
تغلّبنا على عدم وجود مقرٍّ ثابت للمبادرة، بمساعدة عدد مقدر من الشركاء في الفضاء العام، الذين استضافونا بصدر رحب في مقراتهم، منهم اتحاد الكتاب السودانيين ومركز عبد المجيد إمام والآن هنا في المعمل المدني – الخرطوم، لم نيأس لأننا تحت أمر هذا الشعب، الذي وَثَقَ بنا ومنحنا كتبه وتبرَّع لنا بمكتبات أحبابه من آباءٍ وأبناءٍ وأصدقاء ممن ودّعوا هذه الحياة، ما كان علينا سوى إدارة هذه الأمانة بكل صدق وعدل. لم نُرِد أن نخذل تلك الأوراح المعطاءة بإتاحة تلك الكتب الغالية على أصحابها والمحافظة عليها، والاهتمام بأن تصل سالمةً للمستفيدين لنوفّر الكتب ونُتيح المكتبات للعامة مجاناً.
إننا ندير مشروع الشعب السوداني في الخرطوم الذي أهداه لشعبٍ سودانيٍّ آخر، ظل محروماً من الاهتمام، فكانت أمانة ثقيلة علينا ومخيفة في ذات الوقت، ولكنه لم يكن عبئاً أبداً، بل شرفاً نعلّقه بجوار القلب نفخر به للأبد.
وعن التكامل نقول، حَرِصَت المبادرة من البدء أن تعمل باستراتيجية التعاون وإشراك الجميع، حتى تضمن أن يشعر الكل بملكيتهم للمشروع، وبذل الجهد والوقت لتطويره، فكانت أبواب المبادرة مشرعة لكل من يجد نفسه فيها، فنشأ التعاون بين المتطوعين في الخرطوم الذين يجمعون الكتب ويفرزونها ويعبؤونها، وبين بنات وأبناء كل منطقة الذين تكفّلوا بتوفير المقرات وتجهيزها وترحيل الكتب أيضاً.
أما عن المكتبات أيضاً واجهتهم تحديات كبرى في ظل عدم الاستقرار السياسي، بعد أن أوشكوا على امتلاك المقرات، وبسبب تبدل الأوضاع والمسؤولين. فَقَدَ بعضهم هذه المقرات وظلت الكتب في المخازن، ومازالت بعض المكتبات تقاوم التهديد بالنزع وكان هذا سبباً جوهريّاً في تأخر افتتاح أغلب المكتبات.
من هنا نحيي مكتبة نيرتتي التي حوَّلت مُعتقلاً لدارٍ ثقافية ومكتبة، يا لجمال إرادتنا لتحوّل كل ذاك القبح لجمال!.
كما ترون في ظل هذه الظروف، وعظمة هذا المشروع، لن تسطيع المبادرة وحدها الحفاظ على الاستمرارية، لقد فعلت المبادرة ما عليها، وستستمر بكل ما تستطيع من جهد في تجميع الكتب وتسليمها للمدن الجاهزة، ولكن من هنا وإلى الأمام تحتاج هذه المكتبات لمؤسسات ومنظمات لترسيخها، نسبة للدور الكبير التي تلعبه في كل منطقةٍ وحي، وأيضاً لا ننسى أن دور بنات وأبناء كل منطقة سيظل مطلوباً خاصة الذين خارج البلاد، لضمان الاستمرارية والتطور لهذه المكتبات حتى لا يضيع كل هذا هباءً.
أخيراً وليس آخراً:
شكراً لكل من جعل هذا ممكنا، من متبرعين، ومتطوعين وكل من قدم الدعم بأي صورة كانت: اِصنَع فرقاً بكتاب، اِصنَع فرقاً بمكتبة.
ودمتم
استيلا غايتانو 10 ديسمبر 2022م