لماذا تقوم الشعوب بالثورة ثم تترك للبعض مهمة تأريخ وتدوين هذه الثورات؟ كيف يمكن تفسير هذه الثنائية التي تقيم فاصلاً بين الفاعل والمؤرخ؟ وهل يكفي القول بأن بعض الفاعلين هم مؤرخون للرجوع عن التفكير في ضرورة تأسيس منهجية تدوين مجتمعي للفعل السياسي؟
كيف استمرت الثنائية التي تفصل بين الشعب وأفعاله السياسية، أو بين الشعب وثورته، حيةً وفعالةً ومؤثرة في منهجية تدوين الثورة السياسية في القرن الواحد والعشرين؟
إذن، كيف ارتكبت ثقافة القرن الواحد والعشرين خطيئة الفصل بين الفاعل الاجتماعي وعملية إنتاج خطابه الخاص حول أفعاله السياسية التي اضطلع بتأسيسها وإدارتها ومراقبتها؟
ولماذا سُمحَ في حقبة الحقوق الإنسانية الصاعدة بسلب حق التدوين من الفاعلين المجتمعيين الذين يمكنهم أن يدونوا الحدث التاريخي الذي صنعوه هم أو شاركوا في صنعه؟
وهل يعد التدوين فعلاً رسمياً ومعتمداً، فقط، حينما يقوم بعض من الناس، أو يقوم آخرون نيابة عن الذوات الأصلية الفاعلة التي لم تجلس معهم قط لعقد اتفاق تدويني معهم لكي تكون هنالك نيابة هستوغرافية تتعلق بأفعالهم السياسية الخاصة التي دشنتها تلك الذوات الثورية بنفسها؟
وحينما تقوم الثورة وتشتعل وتنتصر بلا قائد، أليس أن جميع الفاعلين فيها هم قادة؟
ولماذا تخضع ثورة جميع من فيها هم قادة لإرادة مدون ما، أو تخضع لإرادة بعض المدونين الذين يحتكرونها معرفياً ورمزياً ودلالياً؟ أليس ثمن هذا الخضوع ذاته هو التخلي عن الثورة نفسها، إذن كيف يكون البيع إن لم يكن هذا الخضوع والاخضاع الرمزي بيعاً للثورات، لا سيما الثورات العظيمة كثورة ديسمبر المجيدة؟
أليس يفقد الفاعل الثوري ثورته مرتين اثنين: إحداهما حينما يسرق ثورته الانتهازيون، والأخرى حينما يسطو على ثورته فعل التدوين القائم على التمثيل هستوغرافي أحادي، وكذلك حينما ينتهك معتمد الثورة السيمائي والرمزي صغار المتأولين؟
لعله من المعلوم أن أسوأ مصائر الثورات في القرن الواحد والعشرين هو أن يجرى تبديلها في سياق تدوينها وذلك بفعل هستوغرافيا تقع بالأساس خارج قلب الثورة النابض، والأسوأ من ذلك كله هو أن يُكتب تاريخ الثورة بواسطة القوى المضادة للثورة.
لقد حُقّ لنا في السودان، ونحن نستبصر بمآلات الثورات، ومصائرها المُعتدى عليها بواسطة هستوغرافيا مغتربة أو بواسطة مدونة توثيقية تنشأ من قِبل القوى المضادة للثورة أن نتدبر مشروعنا التوثيقي المجتمعي الحر والتلقائي لأجل كتابة تاريخ ثورة ديسمبر المجيدة بأنفسنا جميعاً، وأن نحتاط به حرزاً يحمي ويقي السودانيين والسودانيات أثر كل مكر ومحق يصيبنا من قبل تدوين مغترب أو تدوين مضاد.
تتلخص فكرة المشروع المجتمعي السوداني لتدوين ثورة ديسمبر المجيدة، في التنادي المجتمعي بين السودانيين والسودانيات، وهذا التنادي تناد مشترك يتوجه بالأساس لكل فاعلة ثوري وفاعلة ثورية لكي يقوم من تلقاء نفسه أو تقوم من تلقاء نفسها بتدوين التجربة الثورية كما خاضها، أو كما خاضتها، وذلك ابتداء من اندلاع الثورة إلى تاريخ اللحظة التي يكتب فيها، أو تكتب فيها هذه التجربة. والنتيجة المرجوة هي أن يتجمع بالإجمال مجموع كبير من المساهمات الشخصية الحرة في مستودع توثيقي واحد.
صحيح أن المستودع التوثيقي سيكون بصورته الأولية غير مرتبة، ويفتقد إلى تنسيق وتصنيف حتى يمكن أن يصار إلى تحقيق نسق منهجي يجمع كل هذا المساهمات التوثيقية الشخصية الحرة في ترتيب موضوعي. والحل هو أن مضمون المساهمات التوثيقية التي يكتبها الفاعلون والفاعلات الثوريات هو الذي يحدد شكل التنسيق وأسس التصنيف؛ إذ لا يمكن اقتراح منظومة معيارية مسبقة لكي يتم فرضها على عمل يراد له أن يكون عملاً حراً. وبالتالي فإن مضمون المساهمات التوثيقية هو الذي يحدد منهجية التحليل والتصنيف والترتيب والتنسيق.
لكن، على الرغم من إرجاء البتّ في مسألة إضفاء البعد المنهجي والمعياري إلى ما بعد تجميع المساهمات التوثيقية، إلا أن هناك من الممكن مراعاة العديد من الأسس المنهجية مسبقاً بحيث يمكن أن تساعد هذه الأسس الفاعلين والفاعلات الثورية على إنجاز وتقديم عرض توثيقي مرتب وجيد.
هذه الأسس المساعدة ليست أسساً حصرية، إنما هي أسس منتقاة هدفها مساعدة الفاعل الثوري والفاعلة الثورية في إضفاء نسق ومنهج على تجربة الكتابة التوثيقية التي يراد إنجازها، ولهذا فإنه من المفترض مسبقاً أن العديد من الفاعلين والفاعلات الثوريات هم أصلاً في غير حاجة لهذه الأسس؛ كونهم من أهل الاختصاص، أو هم من أهل الخبرة والدربة، أو من أهل التجربة فيما يتعلق بتدوين الحدث التاريخي السياسي. مع ذلك فإن الكثير ممن ليست لديهم سابق تجربة توثيق لمشاركتهم في حدث تاريخي سياسي كبير، كما هو الحال في مشاركتهم الثورية، سيستفيدون حتماً من هذه الأسس، إلا أنه ومهما يكن مقدار الاستفادة، هم غير ملزمين بالتقيد حصراً بهذه الأسس، بل يمكن، وهذا شيء مستحسن على الدوام، أن يمضوا في الاستزادة من أي أسس يمكن أن تساعد في تنضيد تجربتهم الثورية وتدوينها على نحو مرتب.
ومن تلك الأسس نذكر ما يلي:
التنسيق من أجل إنجاح شأن مشروع تدوين الثورة السودانية تنسيق تطوعي مفتوح لكل السودانيين والسودانيات، ولا يترتب على المشاركة فيه تدويناً أو تنسيقاً دفع أي التزام مالي أو وعد بوظيفة. أي أنه ليس هنالك مقابل سوى كسبنا جميعاً كسودانيين وسودانيات من تدوين هذه الثورة المجيدة. كون أن التدوين المجتمعي للثورة كفعل اجتماعي سياسي هو ذاته مكسب في حد ذاته وعمل ثوري وجزء من الثورة نفسها؛ فالثورة التي لا تعرف كيف تدون نفسها، ثورة تهب نفسها لفناء مبكر، وتضع نفسها طوعاً أم كرها في سياق نسيان أبدي، وتُعرِض ذاتها لتشويه ومكر لا حد له.
“إن ثورةً لا تكتب نفسها لهي ثورة مكتوب عليها أن تضيع قطعة فقطعة”.
واستمحيكم عذراً أيها الثوار جميعاً أن أقولها نيابة عن كل من له الرغبة والهمة والقصد في التدوين أوالمشاركة في التنسيق أنه ليس هنالك أي جهة تقف وراء هذا المشروع سواكم أنتم أيها الثوار والثائرات؛ فأنتم وحدكم من يضطلع بحمل هذه المسؤولية التاريخية الجسيمة.
وعلى حد علمي، لعله لم يسبقنا أحد من قبل إلى اجتراح فكرة مشروع مجتمعي توثيقي يهدف إلى تدوين الثورة تدوينا جماعياً مشتركاً، فقد قامت الثورات وراء الثورات، وشهد بعض الذين اشتركوا فيها. واشترك في تدوينها العديد من الباحثين والعلماء والمهتمين. وهذا كله عمل واضح وتجربة مطروق مسالكها. لكن أن يكون هناك مشروع توثيق مجتمعي قصدي لأجل تدوين ثورة اجتماعية سياسية بواسطة الذين صنعوها؛ فهو مشروع لا مثيل له، ولم يحدث من قبل، لكنه يحدث الآن في السودان.