روزنامة
الاثنين
لا يحتاج المرء لإرهاق عينيه بالتَّدقيق كثيراً في بنود ما أسمي بـ “الاتِّفاق الاطاري” الذي أُبرم بالاثنين الماضي، 5 ديسمبر، 2022م، كي يعثر على ما يؤيِّد شكوكَه، ليس فقط في جدِّيَّة نوايا جنرالات “اللجنة الأمنيَّة” إزاء الالتزام بما وقَّعوا عليه، وإنَّما، كذلك، وللأسف، في جدِّيَّة ونوايا “الحرِّيَّة والتَّغيير” نفسها الشَّريكة لهم في هذا الاتِّفاق!
فمِن جهة أولى يثير هذا الشَّكَّ، بقوَّة، لجهة هؤلاء الجَّنرالات، تعجيلهم المفضوح بتجميد وحجز أموال وممتلكات النَّقابات والاتِّحادات، بمنأى عن جمعيَّاتها العموميَّة، والاعلان، إداريَّاً، عن تكوين لجان تسيير داجنة، من علٍ، كبديل لها، وذلك بقرار قائدهم البرهان، قبيل أيَّام فقط، إن لم نقل قبيل ساعات، من الاتِّفاق!
أمَّا ما يُقوِّي هذه الشُّكوك، من جهة أخرى، فهو التَّوافق الغريب بين الطرفين، منذ البداية، على أن يستبعدا عن اتِّفاقهما القضايا الرَّئيسة التي لا بدَّ أن أيَّ عقل سوي كان سيفترض، حال توفُّر الحدِّ الأدنى من الجِّدِّيَّة، والنَّوايا الدِّيموقراطيَّة، أن تشكِّل عظم الظَّهر في أيِّة معالجة مرغوب فيها على هذا الصَّعيد، وهي: تفكيك النِّظام البائد، الاصلاح الأمني والعسكري، العدالة والعدالة الانتقاليَّة، مراجعة سلام جوبا! فلا يمكن، إذن، لأيِّ تقييم أمين أن يغفل ملاحظة أن هذا الاتِّفاق هو، بالنَّتيجة، محض “شراكة دم” أخرى، لا تستهدف سوى محاصصة جديدة لتقاسم السُّلطة، إذ، بدون هذه القضايا الأربع، لا وجود، أصلاً، لما يستوجب حتَّى التَّفاوض، دعْ الاتِّفاق!
الثُّلاثاء
درج المستوطنون الاسرائيليُّون على نهب الموارد من أراضي الشَّعب الفلسطيني التي يحتلُّونها، وبيع منتجات هذا الاحتلال في دول الاتِّحاد الأوربِّي بمئات الملايين مِن اليوروهات!
أغلبيَّة مواطني هذه الدُّول لا يعلمون بحقيقة هذه التِّجارة الدَّمويَّة (!) لكن دساتير الاتحاد تسمح لهم، في ما لو علموا، بمطالبة برلماناتهم، عن طريق عريضة يوقِّعها مليون منهم، بفرض قوانين تحظر المتاجرة بالمنتجات المسروقة مِن هذه المستوطنات.
ولئن كان توقيع هذه العريضة وقفاً على مواطني الاتِّحاد وحدهم، فإن هذا لا يعفي الملايين غيرهم من بنات وأبناء الشُّعوب التي ذاقت ويلات الاستعمار في الماضي، خصوصاً الذين يعيشون ويعملون منهم، الآن، في دول هذا الاتِّحاد، مِن المشاركة، سياسيَّاً وأخلاقيَّاً، في تنظيم الحملة الواسعة الجارية، حاليَّاً، لجمع تَّوقيعات المليون المطلوبة، عن طريق الحثِّ على هذا التَّوقيع، والتَّرويج له، خاصَّة وأن هذه الحملة مشروطة بفترة قانونيَّة لا تتعدَّى الأشهر الأربعة، وقد افترعتها منظَّمات طوعيَّة، كمنظَّمة “آفاز” العالميَّة، فضلاً عن أكثر من مائة مؤسسة حقوقيَّة ونقابيَّة!
الاحتلال يزداد سوءاً كل يوم، فدعونا لا نفوِّت الفرصة السانحة، الآن، للمشاركة في معقابته عن طريق الدَّفع باتِّجاه حظر التِّجارة بهذه المنتجات المصنوعة من الموارد المسروقة، والتي تحرِّك عجلة الاقتصاد في المستوطنات غير الشَّرعيَّة!
الأربعاء
مِن أشهر أقوال الفاروق عمر أنَّك “إذا وجدت الكلمة تسوؤك، فاخفض لها رأسك حتَّى تمر”. ولا شكَّ أن الكلمة المقصودة بهذا القول الحكيم هي تلك التي تتوجَّه إلى ذات المرء، فقط، و تستهدف حصر الإساءة إليه في صميم شخصه وحده! مثل هذه الكلمة، على الرُّغم من حقارتها، وسفاهة قائلها، إلا أنها لا تستوجب أيَّ التفاتة، ولا تستحقُّ، كما نقول في عاميَّتنا السُّودانيَّة، أدنى “قومة نفس”! لكن العكس ليس صحيحاً، بلا شك، حين تستهدف البذاءة جماعة بشريَّة معتبرة، حزباً كانت أو رابطة مدنيَّة، وسواء كان هذا الاستهداف مباشراً أو غير مباشر!
جالت هذه الخاطرة بذهني، وأنا أطالع، قبل حين وجيز، بعض التَّصريحات التي أعتبرها الأخطر في سياق السِّجال السِّياسي الدَّائر، حاليَّاً، في بلادنا! تلك التَّصريحات منسوبة إلى عبد الرحيم دقلو، نائب القائد العام لقوَّات “الدَّعم السَّريع”، عبر بعض تسريبات الفيديو عن “جريمة فضِّ الاعتصام”، يقول فيها: “الحرِّيَّة والتَّغيير هي التي أمرت بتلك العمليَّة، ومَن وقَّعوا على الأمر هم السَّنهوري، الدِّقير، خالد سلك، مريم الصَّادق، وواحد اسمو .. عبد المنعم الجَّاك، بحُجَّة أنَّهم لا يستطيعون تكوين دولة حديثة في ظلِّ الاعتصام القائم (!) ونحنا ما عندنا حاجة خايفين عليها، وجاهزين للمساءلة”!
خطورة تلك التَّسريبات تكمن في أنها تنسب ارتكاب أبشع جريمة في تاريخنا الحديث إلى نفر مِن قادة أروع ثورة في نفس هذا التَّاريخ، اتَّفقت أم اختلفت مع آرائهم ومواقفهم السِّياسيَّة، وفيهم زملاء نضال، ورفاق زنازين، وأصدقاء أعزَّاء لي، يسوؤني، في المستوى الشَّخصي، ما يسوؤهم، ويصعُب عليَّ تصديق مثل هذه الاتهامات في حقِّهم!
نقلَتْ تصريحات دقلو، أوَّل الأمر، صفحة “الحدث نيوز” على الفيسبوك، ثمَّ تبعتها في ذلك “نبأ 24 ميديا” على صفحتها بنفس الموقع، مثلما كانت قد ألمحَتْ إليها، أيضاً، على نحو أو آخر، “قناة طيبة الجديدة”، بنقلها تصريحات للرَّجل يبرِّئ فيها نفسه، وأخاه حميدتي، “من دم أيِّ سوداني”، أو كما قال! فتريَّثتُ، متوقِّعاً، بلا جدوى، أن تبادر لنفي الخبر، مِن تلقاء نفسها، قيادة “الدَّعم السَّريع”، أو عبد الرَّحيم دقلو شخصيَّاً، أو أيٌّ مِن الجِّهات الاعلاميَّة المنُسوبة إليها التَّسريبات. ولمَّا تطاول الأمد، دون أن يصدر هذا النَّفي، كان لا بُدَّ مِمَّا ليس منه بُد .. مطالبة هذه الجِّهات بعدم الاستمرار في التزام الصَّمت أكثر من ذلك!
الخميس
من المعوِّقات الرَّئيسة للانتقال أننا نولي اهتمامنا كله لـ “مشكلاته الكبرى” في جبهة الاقتصاد، والسَّلام، والأمن، والسِّياسة الخارجيَّة، وما إليها، في حين نهمل ما يمكن اعتباره، على نحو ما، “مشكلاته الصُّغرى”. والفرق بين المجموعتين هو ما يميِّز، في تقديرنا، قضايا “الماكرو macro” عن قضايا “المايكرو micro”. فالمجموعة الأولى تكون، في العادة، بارزة وصادمة للعين من أوَّل وهلة، بعكس المجموعة الثانية، والتي ربَّما تحتاج، بالمقارنة، إلى زمن أطول كي تتمظهر، وتتحدَّد، وتُلاحظ، وهي التي نسلِّط الضَّوء عليها هنا.
الشَّاهد أن شأننا الانتقالي الوطني يحتاج، على رأس احتياجات كثر، للكوادر المسلَّحة بالمعرفة المتخصِّصة، المخلصة، الضَّامنة لتشخيص كلِّ حالة على الوجه الصحيح، لا المتوهَّم، والتوصُّل، من ثمَّ، إلى دوائها النَّاجع، بالغاً ما بلغ من مرارة الطعم، أو زنوخ الرائحة. غير أن أكثر ما يجلب الحزن، ويورث الأسى، هو ابتلاؤنا بضرب شديد التَّعويق من “قلة القيمة”، على هذا الصَّعيد! أنظر مثلاً لاحتشاد مختلف المواقع، شاملة مكتب حمدوك نفسه، منذ أوَّل تدشين الفترة الانتقاليَّة، دَعْ المنتديات التي تنعقد عبر الفضائيَّات، والإذاعات، والصَّحافة الورقيَّة، والأسفيريَّة، بصنوف لا حصر لها من “خبراء الغفلة”، ومعظمهم من “ثوَّار السَّاعة الخامسة والعشرين”، مِمَّن لم يُرَ لهم، على الأقلِّ خلال العقود الثَّلاثة الماضية، أبسط خدمة نضاليَّة، فإذا بهم، فجأة، يملأون الآفاق، أجمعها، ضجيجاً، وعجيجاً، يستخفُّون بالعقول، وبالمعايير، وبالتَّاريخ، ويتزاحمون، كما “حُواة الموالد”، بالمناكب العراض، والحناجر الحداد، لا حرصاً على قضايا الانتقال، بل تساًبقاً لاختطاف هذا الكرسي أو ذلك المنصب، بتزكية النَّفس، والإعلان عمَّا في “الجُّراب” من وصفات سحريَّة، و”روشتَّات دجَّالين” يطمع حائزها في أن تسوِّقه لدى صاحب الشَّأن، دون أن يكون هذا مستعدَّاً لأن يعطي أذنه إلا لكلام من “يضحكه” بأن الحالة محض وعكة طارئة لا تحتاج لأكثر من “مَسُوح” خارجيٍّ على سطح الجِّلد، نافراً، بالمرَّة، مِن كلام مَن “يُبكيه” بأنها، في حقيقتها، داء عضال يَلزمُه أن “يكرُب وسطه”، ويتهيَّأ، إزاءه، لعلاج أكثر تعقيداً! ولأن “الدَّجَّالين” ماهرون، عادة، في شمِّ الرَّغائب على ظهور الأكفِّ، فإن تركيزهم، في “سوق شمس” المواقع المنصوب هذا، إنَّما ينصبُّ على ما يوافي الهوى، فحسب، ويناسب الغرض، وتلك بصـارة في “إذابة السُّكر بالمـاء” يتقنهـا “مربو الحمـام” جيِّداً!
الانشغال بالمشكلات “الماكرو” مهم، على أن الانشغال بكثير مِن المشكلات “المايكرو” لا يقلُّ أهميَّة!
الجُّمعة
بينما كانت تسعينات القرن المنصرم تنزلق نحو أواسطها، راح القلق يستبدُّ بالحركة الاسلامويَّة في السُّودان، بسبب أزمة نظامها الذي أسَّسته على انقلاب يونيو 1989م، والمتمثِّلة في تفاقم عزلته الخارجيَّة عن دول الغرب بالذَّات، دع تزايد الضُّغوط عليه من قِبَل “تجمُّع” المعارضة الدَّاخليَّة، بقيادة الميرغني آنذاك، وحصوله على منصَّةٍ لوجستيَّةٍ لدى مصر مبارك التي كانت قد غيَّرت موقفها الأوَّل من تأييد النظام الاسلاموي في الخرطوم. وإزاء ذلك الوضع شديد التَّعقيد كان لا بُدَّ للجَّماعـة من اختراع مخـرج من ذلك المأزق!
لم تكن لتغيب عن تقديرات التُّرابي صنوف المعيقات التي قد تعترض مسار أيِّة خطة لفكِّ تلك العُزلة. فشرع يفكِّر في إبتداع آليَّة تحقِّق، أوَّلاً، التَّقارب المفقود مع الغرب، وتحصر، ثانياً، مبلغ همِّ مصر في ضرورة إبعاد نار التَّجمُّع الذي كان ناشطاً من القاهرة عن جلباب النِّظام الذي كان يرأسه البشير في الخرطوم. فكان منطقيَّاً أن يبلغ ذلك التَّفكير، تحت ضغط تلك الظروف، أنجع وأسرع الآليَّات: استرضاء رعاة إسرائيل الغربيِّين، من جهة، والتَّلويح لمصر بالتَّقارب مع غريمتها الرَّئيسة، من جهة أخرى!
هكذا انطلق التُّرابي يبذل أقصى جهده على الجَّبهتين الفكريَّة والعمليَّة، يسافر، ويحاضر، ويحاور، ويداور، ويناور، هنا وهناك، مقترباً مِن موضوعه الأساسي، أو مبتعداً عنه، بصورة محسوبة. فجاءت، في السِّياق، أبرز زياراته، ومقابلاته، وإفاداته، من الفاتيكان، إلى واشنطـن، إلى أوتاوا، إلى مدريد، إلى باريس، وغيرهـا.
كان مضمون تلك الخطة عدم الاقتصار على تقديم الأطروحة الجَّديدة في مستوى “السِّياسة العمليَّة”، فحسب، وإنَّما تجاوز ذلك، بالضَّرورة، إلى دلق “مدلولات دينيَّة” قويَّة التَّأثير على سطحها! لكن نقطتي ضعف جدِّيَّتين احتوشتا تلك الخطة من جهتين: فمن الجِّهة الأولى هدفت الخطة إلى تقديم الإسلام إلى الذِّهنيَّتين الغربيَّتين، المسيحيَّة واليهوديَّة، بما ينفي عنه التَّشدُّد في معاداة “الآخر الدِّيني”، بالتَّركيز على أنه مصدِّق لما أنزل على عيسى وموسى. غير أن المشكلة هنا هي أن المسيحيَّة واليهوديَّة لا تعترفان بالإسلام، أصلاً، فلا معنى لأن يقال لجمهوريهما إنه يعترف بموسى وعيسى! أمَّا من الجِّهة الأخرى فقد كان من شأن تلك الخطة، إنْ لم يتم التَّمهيد لها بصورة كافية، أن تفضي إلى وضع في غاية الخطورة، حين تصطدم، داخليَّاً، في المقام الأوَّل، بالنَّعرات التي يحتاج تجرُّعها تلك الجُّرعة المرَّة إلى معجزة!
إزاء ذلك جرى “الانقلاب الأكبر”، على ظهر مغامرة “فقهوفكريَّة” غير مسبوقة بكلِّ المعايير، وبلا مثيل في أدبيَّات الإسلام السِّياسي في كلِّ المنطقة (!) إذ لم يجد التُّرابي ما يواجه به ذلك التَّحدِّي، سوى خطة يقوم مستخلصها على أنه، طالما كان المسلمون يعترفون بجميع الأنبياء، في تسلسل رجوعيٍّ إلى أبيهم إبراهيم، فلماذا يصرُّون على الانتساب الضَّيِّق إلى محمَّد، لا الانتساب الواسع الجامع إلى إبراهيم، الأمر الذي أسميناه، وقتها، “الإبراهيميَّة السِّياسيَّة”؟!
في الإطار نشر التُّرابي على أتباعه، بالأساس، مقالة توجيهيَّة من جزئين، بعنوان “مرتكزات الحوار مع الغرب”، بمجلة “دراسات أفريقيَّة” المُحكِّمة، الصادرة عن “مركز البحوث والتَّرجمة بجامعة أفريقيا العالميَّة”. ونورد، في ما يلي، هذا المقتطف المطوَّل مِن “الجزء الثَّاني” منها، والذي يختزل مجمل الخطَّة، حيث كتب يقول:
“إن غالب الأوربيِّين، وقد غفلوا عن دينهم، قد يستفزُّهم المسلم إذا خاطبهم من خلال المشترك الفكري للأديان الكتابيَّة، لأنهم، أصلاً، لا يعترفون بالإسلام، ولهذا نرى أن يكون الخطاب مدرجاً في سياق المقارنة من خلال الحدث الإبراهيمي لأنه هو الأصل المشترك للأديان جميعاً، ويمكن للمسلم ألا ينسب نفسه إلى محمد النَّبي، بل يمكن أن يقول، تلطُّفاً، إنه لا يريد أن يُسمَّى (محمَّديَّاً)، ليخاطبهم كأنه يريد التَّحدُّث عن هذا التَّقليد الدِّيني الواحد في السِّلسلة النَّبويَّة منذ إبراهيم، وأن تتابع الأنبياء جميعاً ليس إلا تجديداً في تنزيل ذات القيم والمعاني خطاباً لأقوام مختلفين، وفي ظروف وابتلاءات مختلفة. هذا هو منهج القرآن في الحوار بين المسلمين والكتابيِّين في (سورة البقرة)، إذ بعد أن بيَّن العلل التي طرأت على الدِّيانة الكتابيَّة بعد الرِّسالة، ردَّهم كافَّة إلى أصول الدِّين الإبراهيمي، وهو الإسلام. ومن هذا الأساس ندعو إلى أن يتحوَّل الخطاب الإسلامي إلى هذا المشترك الرِّسالي الذي تبدأ به السِّلسلة النَّبويَّة، وكيف أنه لم يقتصر على المحليَّة الجُّغرافيَّة، ولا على الجُّغرافيَّة الزَّمانيَّة، وإنَّما تحرَّك برسالته في كلِّ الشَّرق الأوسط، من العراق إلى فلسطين، فهناك زرع أبناءه وخلافته التي حملت سنَّته، ومن ثمَّ إلى أطراف مصر، ثمَّ إلى مكَّة حيث ترك هناك تراثه وخلافته أيضاً، وبعد ذلك كان إبراهيم عليه السَّلام أوَّل من بدأ يوسِّع دعوة الدِّين السَّماوي الكتابي، لا لقومه خاصَّة مثل الأنبياء من قبله، ولكنه أوَّل نبي وسَّع امتداد الجُّغرافيا على سياق خطابه العالمي، ففتح آفاقاً عالميَّة لرسالته. إننا بمثل هذا السِّياق العلمي في الطرح نستطيع أن ندخل على الغرب الذي يتأثَّر بالعالميَّة” (ع/12، يناير 1995م، ص 18 ـــ 19).
السَّبت
حفيدي “إياد” ما يزال ابن ستِّ سنوات. ومع ذلك ما ينفكُّ يفاجئني، في كلِّ حين، بوعي ابن عشرين على الأقل! جلسنا، هذا المساء، نشاهد برامج التِّلفزيون، فلاحظ كثرة، وتواتر، وتكرار الإعلانات التِّجاريَّة السَّخيفة تقطع علينا متعة المتابعة مرَّات ومرَّات، فتساءل، تقريريَّاً، في نرفزة ظاهرة: “يعني هم ديل دايرينَّنا يا جدُّو نشتري حاجاتهم دي بالغصِب”؟!
دفعُ النَّاس، دفعاً، لـ “الشِّراء بالغصِب” هي مهمَّة البروباغاندا الرَّأسماليَّة، وهي التَّعبير الأكمل عن سيطرة الفكر الطَّبقي لمن يملكون haves على مَن لا يملكون have nots. ولئن كان كارل ماركس هو أوَّل من نبَّه، في سياق كشوفاته البشريَّة، إلى هذه الهيمنة الفكريَّة التي تتبع الهيمنة المادِّيَّة، وما يترتَّب عليها من “صراع” محتوم يحرِّك عجلة التَّاريخ، فإن القرآن قد سبق ذلك بقرون طوال، حيث ورد في الآية الكريمة: “ولولا دفع الله النَّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض” (البقرة:251)، وتكاد التَّفاسير تجمع على أن تلك هي الآية التي ختم الله تعالى بها قصة طالوت الملك الذي خاض ببني إسرائيل الصِّراع مع جالوت الطاغية. والسِّياق الواردة فيه هذه الآية الكريمة، وشبيهتها (40 ؛ الحج)، إنَّما يكشف عمَّا يمكن تسميته “سُنَّة الدَّفع” القرآنية الماضية، و”السُّنَّة”، في المعلوم، قانون، والتَّوافق بينها وبين الفكر البشري هو من دلائل الفطرة السَّليمة.
أسهب ماركس في شرح فكرته الدُّنيويَّة هذه من خلال مؤلَّفه الموسوم بـ “الأيديولوجيا الألمانيَّة” قائلاً: ”الطَّبقة التى تمثِّل القوَّة المادِّيَّة المسيطرة في المجتمع هى أيضاً القوَّة الفكريَّة السَّائدة. فالطَّبقة التى تملك وسائل الإنتاج المادي تسيطر، فى نفس الوقت، على وسائط الإنتاج الفكري، وبالتَّالى فان أفكار مَن يفتقرون إلى هذه الوسائط تخضع، بشكل عام، لهيمنة وجهات نظر تلك الطَّبقة. وليست الأفكار السَّائدة شيئاً آخر سوى التَّعبير عن العلاقات المادِّيَّة المهيمنة. إنها، بعبارة أخرى، تلك العلاقات مُعبراً عنها كأفكار. فبقدر ما يسيطر النَّاس الذين تتألف منهم الطبقة الحاكمة، فإنهم يحكمون، ضمن أشكال سيطرتهم، كأناس مفكرين، أيضاً، أي كمنتجين للأفكار، ومِن ثمَّ فإن أفكارهم تكون هى أفكار العصر السَّائدة“.
بدوره يوضِّح “البيان الشِّيوعى” العلاقة بين الأفكار ونمط الإنتاج فى مختلف الحقب التاريخيَّة. فمع تغيُّر أوضاع النَّاس المعيشيَّة، وحياتهم المادِّيَّة، وعلاقاتهم المجتمعيَّة، تتغيَّر، أيضاً، تصوراتهم، ومعتقداتهم، ومفاهيمهم، أي، إجمالاً، وعيهم. فالإنتاج الفكري يتحوَّل بتحوّل الإنتاج المادِّي. كما أن القول بأن الأفكار قد أفضت إلى تثوير مجتمع ما، لا يعني أن هذا المجتمع الجَّديد قد جاء من لامكان، إنَّما يعني أن عناصر هذا المجتمع الجَّديد قد تكوَّنت في نفس رحم المجتمع القديم، ومن ثمَّ فإن انحسار الأفكار البالية يواكب انحلال الأوضاع المعيشية القديمة، فتبرز الأفكار التَّقدُّميَّة. وتلك هي الفكرة التي شكَّلت، أيضاً، جذراً أساسيَّاً في نظريَّة “المادِّيَّة التَّاريخيَّة”.
أمَّا فريدريك انجلز فيستند إلى هذا التَّفسير المادِّي ليقرِّر ”أن العامل النِّهائى في قيادة التَّاريخ هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الحقيقيَّة”. ثمَّ يمضي إلى نفي ما يُنسب إليهما خطأ، هو وماركس، بقوله: “لم نؤكد، لا ماركس ولا أنا .. أن العامل الاقتصادى هو العامل الوحيد الذى يقود كلَّ شيء! ومَن ينسب إلينا هذا التأكيد، يحوِّل قولنا لجملة جوفاء بلا معنى”! ويتلخَّص توضيح إنجلز هذا في أن الوضع الاقتصادى هو الأساس، لكن مقوِّمات البناء الفوقي Superstructure، أي الأشكال السِّياسيَّة، والدُّستوريَّة، والقانونيَّة، والدِّينيَّة، والفلسفيَّة، وما إليها، تؤثر بدورها على مجرى الصِّراعات التَّاريخيَّة، فيبرز، أخيراً، من تفاعل هذه المقوِّمات، العامل الاقتصادي كعامل حاسم!
الأحد
نعايش هذه الأيَّام حملة السِّتَّة عشر يوماً العالميَّة لمحاربة العنف ضدَّ المرأة. وثمَّة أشكال لا حصر لها لهزيمة هذا العنف. غير أن الحكمة أثبتت أن أجداها طرَّاً هو أكثرها استناداً إلى الطَّرائف الفكهة حول المرأة، حتَّى لو لامست حدَّ الاضحاك، بما في ذلك إضحاكها هي نفسها، شريطة ألا يكون مؤذياً! ولا شكَّ في أن أشهر من فعل ذلك هو برنارد شو، وكان مِمَّا قال: “إن أحسن طريقة لجعل المرأة تغيِّر رأيها، هي موافقتها فيه”! وقال: “يكفي المرأة رجل واحد لتفهم جميع الرِّجال، أمَّا الرَّجل فلا تكفيه حتَّى مئات النِّساء كي يفهم امرأة واحدة”! وقال: “المرأة كالمظلَّة، لا يمكنك أن تجعلها تعتني بك إلا إذا وضعتها فوق رأسك”! وقال: “إذا أصرَّت المرأة على ألا تقترن إلا بالرَّجل الذي تجد فيه كلَّ المواصفات التي تريدها في زوج المستقبل، فإنَّها لن تتزوَّج إلى الأبد”! ثمَّ قال متسائلاً: “مَن قال إن المرأة ليس لها رأي؟! إن لها في كلِّ يوم رأي جديد”!