صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

د. محمد عبد الرحمن: منذ خروج المستعمر لم يشارك أي سوداني في الحكم بصفته مواطناً فقط

شارك هذه الصفحة

المستقبل البعيد لتنظيمات المقاومة القائمة على قاعدة المجتمعات المحلية

ماجد محمد علي – حاتم الكناني

رغم أن التاريخ يسجل للسودان إجراء أول انتخابات برلمانية في فترة مبكرة من تاريخه، فإن التعثر الذي واجهته عملية الانتقال الديمقراطي يطرح أ سئلة عديدة.وحتى في ظل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة 2019 ومشاريعها لبدء الانتقال، لازالت شكوك تحاصر خبراء ومحللين بشأن مستقبل الديمقراطية في هذا البلد، الذي حكمه العسكر لأكثر من 50 عاما.

أدارت الحداثة هذا الحوار مع د. محمد عبد الرحمن حسن، أستاذ النقد والعلوم الإنسانية بجامعة النيلين حول قضايا التحول الديمقراطي في السودان.
وصدرت له في العام 2020م أربعة كتب تحت عنوان رئيس: من نقد الحداثة الى نقد الحضارة، ثم صدر له من نفس الدار نقد فكر الجنوب (العالمي)، وطبعة أخرى من ذات الكتاب من دار مناظير.

يرى عبد الرحمن أنه لا يمكن إيجاد أيّ ضمانات لإقامة حكم دستوري ونظام ديمقراطي، ما لم تُدرك الفئات التي ورثت جهاز الدولة من الاستعمار أنه يجب أن يُعاد تأسيسه من جذوره، وهذا لن يحدث ما لم تُعِدْ هذه الفئات صياغة وعيها ونظرتها إلى شعبها.

* لماذا تعذر على السودانيين وضع دستور مرتضى عليه؟ كيف يمكن أن نفكر في الضمانات التي تحول دون خرق الدساتير السودانية؟ ودون الرجوع الى الدائرة الشريرة (انقلاب – انتفاضة / ثورة – ديمقراطية – انقلاب)؟

– لنفهم المشكلة يجب أن نعرف مصدرها. في اعتقادي أن مشكلة السياسة في السودان ليست هي مشكلة السودانيين كشعب، وإنما هي مشكلة الفئات التي تحكم السودان. منذ استقلال السودان في 1956م، حكمت السودان ثلاث فئات هي العسكريين وخريجي الجامعات وأبناء البيوت الطائفية. ولم يشارك في الحكم أي سوداني بصفته مواطناً فقط، كل الذين حكموا طوال السنوات الست والستين كانوا من هذه الفئات الثلاث. فالمشكلة لا شك تصدر مما يجمع بين هذه الفئات، وهذا الشيء المشترك هو أنها لم تولد من داخل رحم المجتمع السوداني وتطوره الذاتي، وإنما خلقتها القوة الاستعمارية التي استخدمتها كوسائل لحكم السودانيين.

وفي اعتقادي أنه لا يمكن إيجاد أي ضمانات لإقامة حكم دستوري ونظام ديمقراطي، ما لم تدرك هذه الفئات الثلاث أن جهاز الدولة الذي ورثته من الاستعمار يجب أن يعاد تأسيسه من جذوره، وهذا لن يحدث ما لم تُعِدْ هذه الفئات صياغة وعيها ونظرتها إلى شعبها. وكما كانت هذه الفئات هي التي تحكم، كانت هي نفسها التي تخرق الدساتير. وباختصار، فإن تغيير وعي ورثة الدولة القمعية التي أنشأها الاستعمار هي التي ستضمن وجود قوى سياسية وطنية وجيش وطني يحميان الدستور ويحققان الإجماع على مصلحة الوطن. أما تنافسها على السلطة فيعني أنها تتعامل مع جهاز الدولة كغنيمة وليس أداة تحرر واستقلال.

*بعد أربع سنوات من اندلاعها نحتاج إلى أن نعيد التساؤل: هل ديسمبر ثورة؟ وما هي شروط الثورات استناداً إلى التجربة السودانية؟

 – يتوقف الحكم على حراك ديسمبر 2018 على نظرتنا إليه، فإذا كنا نرى أنه حراك تغيير لنظام سياسي فهو ليس ثورة، وإن كنا نراه مشروع تغيير للوعي ومؤسسات الحكم وبنائها على أساس وطني، فهو ثورة بلا شك. وللأسف فإن النظرة السائدة حالياً هي التي تقف عند حدود تغيير السلطة الحاكمة، والصراع مقتصر على أدوات الحكم. وبهذا المعنى فما حدث هو انتفاضة ضد سلطة قمعية، بهدف التخلص منها، وهذا قد حدث وانتهى، رغم كل ما يقال عن الدولة العميقة وغير ذلك.

في رأيي، أن ما حدث هو جزء من تحول عميق وطويل، وسيستمر لسنوات عديدة، وأنا على ثقة أنه سيقود إلى تحويل للدولة والمجتمع في السودان، قد يستغرق عدة عقود. تعريفي للثورة هو أنها تبنى تدريجياً وليس بسرعة، والذين يعرفون الثورات بأنها تغيير فجائي مخطئون. لم توجد ثورة سياسية في التاريخ حققت أهدافها في سنوات محدودة، الثورة الفرنسية التي يُضرب بها المثل لم تأتِ بديمقراطية دائمة، وجاء بعدها حكم عسكري بل وإمبراطوري أيضاً وليس فقط ديكتاتورياً، وهو حكم نابليون بونابرت الذي كان يقول “إنه ابن الثورة”. جاءت الديمقراطية في فرنسا بعد أكثر من 80 عاماً من الثورة. وحسب تجربتنا في السودان والبلاد المجاورة لنا في إفريقيا، فإن الديمقراطية تبنى في عشرات السنوات، ولهذا فإن ما حدث أراه ثورة بهذا المنظور الطويل الأمد، إلّا أن شرط تحقق هذه الثورة هو أن تتزود القوة الناشطة سياسياً بوعي يعينها على تحقيق هذا المشروع الطويل الأمد.

*كيف ترى طبيعة النظام الذي ثارت عليه ديسمبر؟ وكيف أثر على الأحداث والإتجاهات السياسية بعد سقوطه؟

_  بلا شك هو من الأنظمة التي أهدرت زمناً طويلاً من تاريخ الشعب، إلا أنه لهذا السبب بالذات قدم لنا خدمتين جليلتين، الأولى أنه وضع أيديولوجيا الإخوان المسلمين تحت الاختبار ولفترة طويلة، وكشف لكثيرين من المتعاطفين مع شعاراته الدينية المحتوى الحقيقي للدولة الدينية، وبهذا أمكننا أن ننتقل إلى مرحلة ما بعد النظم الدينية، التي تدخل مرحلتها حالياً بعض الدول العربية. أما الثانية، فإن هذا النظام قدم للسودانيين خدمة إعادة إحياء تقاليد إسقاط النظم العسكرية، التي اكتسبها السودانيون عبر عشرات السنوات من النضال بين الاستقلال وحتى إسقاط نظام جعفر نميري. فاستمرار هذه التقاليد وتوريثها للأجيال المختلفة هو من مكتسبات نضال السودانيين، ويجب تطويرها لأنها السلاح الوحيد الناجع ضد الديكتاتوريات، وأعتقد أن أعظم ما في حراك ديسمبر هو أنه أدخل الجيل الحالي من الثوار في تمرين طويل الأمد ضد الطغيان.

أما أثر هذا النظام على الواقع السياسي، فللأسف لا توجد أي جهة قدمت جرداً حقيقياً لهذه الآثار، وهذا من صميم عمل الأحزاب بجانب المراكز المعنية بالبحوث والدراسات. ولقد انخرط الجميع في الصراع الذي نتج عن الفراغ الذي أحدثه سقوط النظام. ولهذا السبب، فإن البديل لهذا النظام الذي انهار لم تتضح معالمه بعد، لأن المعلومات التي تُتخذ على أساسها القرارات وتوضع الحلول غير متوفرة.

*أنتجت ثورة ديسمبر واقعاً سياسياً جديداً، تشكلت لجان مقاومة كلاعب أساسي في السياسة، انشطرت الأحزاب في اتجاهات شتى، بينما تشكلت قوى اقتصادية بإسهام من النظام البائد وصار صراع الموارد مؤثراً في السياسة السودانية، كيف سيخرج السودانيون من عقبات كل ذلك للوصول إلى دولة الديمقراطية المستدامة؟

_ الصورة التي نراها الآن هي جزء من واقع سائد في المنطقة المحيطة بالسودان عموماً. الثورات العربية في ليبيا ومصر لم تظهر صورتها النهائية بعد، والصراع الذي نشب في إثيوبيا قبل فترة أيضاً دليل على وجود تحولات واسعة. وهذا التحول هو جزء من الطابع النشط لمنطقة شرق أفريقيا عموماً. لا بد أن نلاحظ أن هذه المنطقة من أفريقيا هي الوحيدة التي أعادت تشكيل الحدود التي رسمها الاستعمار.

منذ نهاية القرن الماضي برزت ثلاث دول في هذه المنطقة، لم تكن موجودة قبل ذلك، هي أريتريا ودولة أرض الصومال ودولة السودان الجنوبي. وهذا الواقع الذي يبدو وكأنه نوع من الاضطراب وعدم الاستقرار، هو في الحقيقة إعادة تشكُل لمصالح شعوب المنطقة وفق اختياراتها وما ارتضته لنفسها. ولا بد أن نلاحظ أن العالم الذي كان يُشكل مركز النظام الحديث نفسه يتغير، أوروبا والولايات المتحدة لم تعودا تتحكمان بالعالم. أعتقد أن ما يحدث في السودان جزء من إعادة تشكل العالم الحديث، والذي لم يعد يوفر للأنظمة الديكتاتورية سنداً خارجياً قوياً. بهذا المعنى أعتقد أن تفكك المؤسسات السياسية القديمة سواء كانت أحزاباً أو جيوشاً أو سلطاتٍ طائفية هو أمر حتمي، وفي ظل هذه الظروف الجديدة تظهر تنظيمات المقاومة القائمة على قاعدة المجتمعات المحلية، وأعتقد أن المستقبل البعيد لها هي.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *