صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

بروفيسور بكري خليل لـ”الحداثة”: مقاومة الشارع لانقلاب أكتوبر أصدق تعبير عن ضمير الثورة

شارك هذه الصفحة

حوار: ماجد محمد علي – حاتم الكناني

رغم أن التاريخ يسجل للسودان إجراء أول انتخابات برلمانية له في فترة مبكرة من تاريخه، فإن التعثر الذي واجهته عملية الانتقال الديمقراطي يطرح أسئلة عديدة. وحتى في ظل اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة 2018م ومشاريعها لبدء الانتقال، ما زالت شكوك تحاصر خبراء ومحللين بشأن مستقبل الديمقراطية في هذا البلد، الذي حكمه العسكر لأكثر من 50 عاماً. وظلت الدولة السودانية تلاحقها أسئلة التأسيس لنظام حكم ديمقراطي، ومع كل ثورة أو انتفاضة شعبية تعيد ذات الأسئلة الملحة حضورها في المشهد، دون أن تتبلور في فعل يخطو بالدولة والمجتمع إلى الأمام. حول التأسيس الديموقرطي، طرحت “الحداثة” أسئلتها لبروفيسور بكري خليل، أستاذ الفلسفة المعاصرة والمعرفة بجامعة النيلين.

وأصدر خليل العديد من المؤلفات في الفلسفة والقضايا الفكرية التي نشرتها دور معروفة خارج وداخل السودان، كما أسهم ببحوث علمية وفكرية في مجلّات محكمة داخل وخارج السودان، وشارك في مؤتمرات علمية وثقافية ومنابر أكاديمية مختلفة داخل وخارج السودان إلى جانب تدريسه في بعض الجامعات السودانية والعربية، وهو عضو في العديد من الجمعيات الفلسفية في الوطن العربي وعضو في المؤتمر القومي العربي الذي يتخذ بيروت مقراً له.

  • تطرح عملية الانتقال الجارية أسئلة عديدة عن النظام السياسي، فما هي حظوظها في تحقيق أهداف المرحلة وأوضاع الدولة الوطنية؟

لكي نقترب من فحص الأمور بدقة، سوف نضع النظام السياسي على مسافة من نظام الدولة، لأن مثل هذا التمييز بين المفهومين يجعلنا أكثر قدرة على معرفة الأرضية التي يقف عليها كلٌّ منهما. فالنظام السياسي يظل مسرحاً يعرض تكرارية مشاهده ولفرط تقلباته وانكشافها المتسارع، بينما البحث في تطور الدولة السودانية مهمّةٌ أكثر صعوبة في استشفاف مشكلاتها. كما أن واقع الدولة مرتبط بأطوار المرحلة التاريخية الانتقالية بين التقليد والتحديث، بما تحمله من تداخل أنماط وأساليب ما قبل الحداثة والحداثة وما بعدها ووجودها جنباً إلى جنب. ومبعث المشكلات الحقيقية هو ذلك الطابع المركب للبنى العضوية التي تقف في وجه التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، والتي يعكس النظام السياسي قسماً مقدراً من مشكلاتها وأزماتها. لذا فإن توجيه الانتقال إلى تحول نوعي حقيقي، هو رهن بإخضاع مسار المتغيرات نحو إيقاف حالة تآكل الدولة الوطنية وانفكاك المجتمع من قيود الوصاية واستناد الفعالية المجتمعية والسياسية إلى مجتمع مدني يعيد التوازن إلى العلاقة بين المنظومة السياسية وموجهاتها الوطنية والعقلانية.

  • تحيط بمستقبل الديمقراطية شكوك كبيرة، فما هو أفق مسارها الإيجابي، أو احتمالات نكوصها والارتداد نحو الديكتاتورية؟

ما يهمنا في هذا الجانب، هو وضع اليد على الأسباب التي أدت إلى تمدد النظم السلطوية وسيطرتها على المرحلة الاستقلالية، ذلك أن تلك الغلبة فيها ليست مجرد معطى حسابي بموازين الزمن المضاع أو تقديرها كمحض تدوير لما تمت تجربته مراراً. فثمة قابلية لإعادة إنتاج النموذج السلطوي الانقلابي، كاحتمال نظري، إن لم تتغير موازين القوى السائدة التي تًفسح مجال المغامرات. فإذا نظرنا لما نسميه عادة بتبادل أطوار الحكم، فإن النظام النيابي البرلماني في حقيقته ظلّ هشاً في مكوناته التحتية، ويفتقد كثيراً من شروط الحداثة السياسية، وكذلك مقدرات النمو المدني ومتانة خطوطه الدفاعية في مواجهة الأزمات العامة الاقتصادية والسياسية. ولا شك فإن السياسات التي تراوحت بين خصخصة الدولة ودولنة المجتمع في ظل الأنظمة السلطوية، والتراجعات التي دفعت التكوينات ما قبل الوطنية إلى الواجهة، أضعفت المقدمات الحداثية للدولة وجعلت التجربة الوطنية مفتوحة الأبواب أمام دورات الردّات والانقسامات الإضافية. فالتحديات التي تواجه الديمقراطية بما ينطوي عليه الانفتاح السياسي من مظاهر، تُخفي مخاطر التخلف الاقتصادي والاجتماعي وغياب التأسيس الفكري الديمقراطي وقصور البنى الاجتماعية في توليد قواها المجتمعية القادرة على تنمية طاقاتها الذاتية، وافتقار القوى الريفية إلى التحول إلى نوابض لإسناد المراكز الحضرية، كلها تحمل مهددات من شأنها إعاقة مشروع الديمقراطية في مجتمعنا. فالتحول الديمقراطي ضمن هذه الأوضاع ليس مجرد موقف إرادي، على أهميته، ولكنه متطلب عريض للوصول إلى إنجاز يشترط تحقيق سلام دائم واستقلال وطني حقيقي، ووحدة وطنية وبنية مدنية حديثة، تخلص تجربتنا من آثار تجربة التحديث التسلطي التي كانت تعمل لمقايضة التنمية بالحرية بكل أشكال التراجعات وإبطاء سرعة اللحاق بعالم اليوم.

  • ما هي في تقديركم المعالم العامة للبدائل التي تقتضيها المرحلة لبلوغ الأهداف التي ذكرتموها؟

لا توجد وصفة كاملة لمعالجة الأوضاع الاستثنائية في السودان، والمهم وضوح الرؤية والبدايات الصحيحة في وضع سلم أولويات منسجمة مع الموجهات الإصلاحية من جهة وممكنات إنفاذها ومغادرة التصورات الرغائبية المجردة إلى مستوى عقلاني وواقعي في التخطيط والتنفيذ. وكما يقولون فقد تُطلب الحاجات وهي بعيد، لذا فإن حل المشكلات العاجلة كالوضع الاقتصادي والأمني، سوف يؤدي إلى فك كثيرٍ من العقد، كإنعاش قطاعات الإنتاج الزراعي، وتحجيم الاستهلاك البذخي والطفيلي، ومحاصرة وتصفية بؤر الفساد، وهذه القضايا التي هي محركات لدولاب العمل، تحتاج إلى صمامات أمان لإعادة هيبة الدولة ومجرى القانون، وإحياء قطاع الخدمات العامة، وتطوير القطاع التعاوني الاستهلاكي والعقاري، لما يخفف أعباء الحياة على الأقسام الإنتاجية الواسعة، ووضع مؤسسات التعليم على طريق البناء والتقويم ورفع القدرات العلمية الوطنية. وكلما أتينا عليه ينبغي أن يتم تحت سقف ضامن لنجاح البرامج الإصلاحية بتشكيل كتلة تاريخية وطنية تتولى دورها السياسي في التوجية والرقابة والمراجعات وجميع التدابير المؤدية إلى قيام دولة المواطنة والسلم الاجتماعي ومستلزمات سودان ناهض.

يظل وضع دستور دائم للسودانيين، على رأس المطالب، لماذا تعذرّت حتى الآن كتابة دستور متوافق عليه؟

المهم في الأمر، أن لا نربط وجود حل جذري لقيام دولة القانون والعدل الاجتماعي بتوفر دستور دائم، ذلك أن عملية التطور الدستوري لأي بلد، هي محصلة تراضٍ وطني واستتباب المعادلات الداخلية وتعافي التعايش من كل الأدواء الانقسامية، وقوة الثوابت المعترف بها التي تستمد المؤسسات الوطنية العليا شرعيتها وديمومتها ابتداءً من مبدأ المواطنة والتلاحم الاجتماعي والمساواة أمام القانون. ومن دون هذه المفاتيح سوف تنغلق أمامنا أبواب الحياة الدستورية السلمية والناضجة والمؤدية إلى ثبات حالة الالتزامات المتقابلة بين المجتمع والدولة. لقدعرف السودان دساتير وُصفت بأنها دائمة، لكن الزمن طواها ودخلت مجال النسيان، بينما هناك دول مثل بريطانيا قد عرفت المؤسسات والمفاهيم التشريعية منذ القرن الثاني عشر، ولا تمتلك دستوراً مكتوباً، على الرغم من أنها تنفرد بنظام قانوني وسياسي هو من أفضل ما أبدعه الإنسان. فالمسألة تدور وجوداً وعدماً، بالحضور الاجتماعي وتقاليد وثقافة وروح التجربة، وإلا فسوف تكتب أرقى النصوص والأحكام الدستورية ليلاً ليمحوها النهار وتصبح متوناً فارغة المعنى والدلالة.

كيف تنظر إلى طبيعة النظام الذي ثارت عليه ثورة ديسمبر المجيدة، وكيف أثر ذلك النظام على الأحداث والاتجاهات السياسية بعد سقوطه؟

إذا كان هناك وصف مناسب لنظام “الإنقاذ” فهو أنه “نظام ما بعد الشمولية”، لأن ذلك النمط دون مبالغة، ظل يشد حبال الإحلال المطلق لنفسه كبديل للجماعة الوطنية وظل يصادر حقوقها كلياً، والآن تعمل فلوله على إعادة تلك الكرة. وهكذا أصبح ما سُمّي بالإنقاذ مدرسة لمأسسة الفساد واحتكار الصوابية، والتخريب المادي والروحي، وممارسة التجهيل والإرهاب الفكري. وآثار مثل هذه التجربة تبقى لفترة عامل تعطيل لحركة الفكر والواقع، مع وجود شبكة المصالح والتدوير الممنهج الذي مارسه لفترة طويلة امتدت حتى ما قبل الاستيلاء على السلطة، فقد كان بعض زعمائهم يشير إلى وجود أعمالهم التجارية والمالية في أكثر من خمسة وعشرين بلداً إفريقيّاً، كما أن رساميلهم بحسب دراسات موثوقة بلغت ستين مليار دولار خارج السودان قبل وصولهم الحكم. فهذه العوامل إلى ما أضافته لهم السلطة، قد زادت من نفوذهم وقدراتهم التأثيرية، تجعل مهمة إزالتها مسألة عسيرة تقتضي درجة عالية من المبدئية والحزم والملاحقة.

  • أدت ثورة ديسمبر إلى الحراك وتعبيرات مبدعة مثل لجان المقاومة، وأشكال من الاصطفاف السياسي والحركي، كيف تقيمون دور هذه الفعاليات في تطور الأحداث؟

ما يدور حالياً، هو صورة لواقع الثورات الحية وتوابعها من أحداث، وتتمثل أهم لقطاتها في صراع قوى الثورة مع مناهضيها، وهذه هي جدلية الاستقطاب الدائر لتقرير مصيرها. فما يحدث حالياً هو مشهد درامي لاختلال موازين القوى، وتذبذب المعادلة الما بعد إنقاذية جراء انشداد وانجذاب الوضع الراهن لهذا الطرف أو ذاك. وهذه الظاهرة تنشأ حكماً نتيجة استمرار الصراع الميداني على قيادة الثورة وتسجيل انتصارها النهائي، ذلك أن استمرار الصراع وعدم بلوغ الثورة نهايتها الظافرة لا بد أن يؤدي إلى نتائج مباشرة أو غير محسوبة وذات أثر على الأوضاع الوطنية. ففي أعقاب ثورة أكتوبر 1964م، ساد الشعور بأنها قد اختُطفت وأُجهضت، وكذا في أعقاب أبريل 1985م رأت قطاعات واسعة أن إزالة آثار مايو لم تتحقّق. وهكذا على الرغم من نهاية الحدث الانفعالي والميداني للثورتين في حينها، توالد عن تلك الذيول نزعة بونابارتيه توجهت للاستقطاب الانقلابي في الجيش، وأخذ المكون الشعبوي يتزايد في الأوساط السياسية، وهاتان النزعتان مهّدتا لوقوع انقلاب مايو ثم انقلاب يونيو. فحالياً تمتد مقاومة البونابارتية (الانقلاب العسكريتاري على المكتسبات والأهداف الشعبية للثورة) لأمد طويل في مقاومة الشارع لانقلاب أكتوبر 2021، وتعد هذه هي مفاجأة ثورة ديسمبر لنفسها كتمثل لحالة تعبوية وسياسية فريدة وتعبر اصدق تعبير عن ضمير الثورة، على الرغم من أنها حالة محفوفة بمخاطر التشظي والعوامل الجانبية غير المنظورة، أو اندلاع موجات من التطرف التي من شأنها تتريس وقفل الأفق بنزعات التهييج ومخططات الالتفاف والتضييق من أجل إجهاضها. وهكذا لا بد من التفكير في مستقبل الجبهة الجماهيرية والتحالف النضالي البعيد المدى بين الشارع والقوى السياسية والمهنية وتعبيرات الجهوية السياسة، بإيجاد صيغة تلملم هذه التعبيرات، وتهيؤها لتحالف عريض ذي نظرة بعيدة وراء الفترة الانتقالية إلى المجتمع المفتوح، بأفق ديمقراطي وواقع يحول دون وجود نظام نيابي يسهل النيل منه. فتطوير الديمقراطية يقتضي عملاً واسعاً بإخراجها من واقع آلياتها القاصرة بكل ما تعكسه من قوى التعجيز والتخلف الاجتماعي، وتحقق مستوى من الإنجاز الذي يجعل مستقبل الديمقراطية رافعة لتجديد التجربة ونقلها لحداثة سياسة معبرة عن الإرادة الوطنية الجامعة التي تصدّ موجات الالتفاف على آمال الوعي الديمقراطي المنشود وتبديد طاقات الكفاح الوطني.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *