صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

ما يحدث في السودان ثورة تهديدها يهدد وجوده (مقابلة)

شارك هذه الصفحة

قال النائب السابق لرئيس حزب التحالف الوطني السوداني، المهندس محمد فاوق سلمان، إن ما حدث في السودان منذ 2018 ثورة بمعناها الأشمل، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وحذر من أن تهديدها سيكون تهديد لبقاء السودان نفسه.

ورأى أنه ما لم نتجه لابتدار نظام لإدارة الاختلاف، لن تكون هناك حتى فرصة لاستمرار الدائرة الشريرة أو الحلقة المفرغة (انتفاضة، فترة انتقالية، انقلاب) التي حكمت تاريخ البلاد الحديث.

واعتبر فاروق أن السودان يواجه سيناريو “فض السامر”، مشيرا إلى الفوضى والانفلات في دارفور والنيل الأزرق والخرطوم.. أدناه نص المقابلة.

كيف تنظر لأهداف التدخلات الإقليمية الحالية وتأثيراتها على مستقبل السودان؟

ليست المشكلة في ما الذي تريده مصر أو الإمارات أو السعودية وقطر وأمريكا، على سبيل المثال، السؤال الحقيقي هو: ما الذي نريده نحن. ويبدو أننا غير متفقين!

الأهم بالنسبة لي هو معرفة ما الذي نريده نحن حتى في ظل اختلافنا. وهذا ما ينبغي أن يوجده نظامنا السياسي ويحدده، بدل أن نشغل أنفسنا بالبحث حول ما يريده العالم لنرضي هذا العالم أو نغضبه.

كيف تصف الواقع السياسي الآن في السودان؟

في تقديري هناك حالة انحلال سياسي: حركة سياسية كسيحة وجهاز دولة عاجز، وتتوفر كل شروط فشل الدولة.. ولو أن شيئا يحافظ على تماسك السودان فهو المجتمع وقدرته على التعايش مع الظروف الحالية، وكذلك قدرته على المقاومة وتنظيم نفسه بعيدا عن الدولة. وبالطبع لا أقصد أنه ينتظم سياسيا، إنما أعني التعاضد والتكافل وحركة الاقتصاد غير الرسمي، والتمسك بأخلاق ما زالت تستهجن الجريمة وترفضها؛ فضلا عن قدرة المجتمع على إدارة خدمات مهمة وأساسية مثل التعليم والصحة. وبالطبع هذه القدرة لن تغطي على غياب الدولة وانهيار البنى التحتية: أوضاع الشوارع والمواصلات العامة والبيئة في المدن. ومن صور الانحلال أيضا بروز المليشيات العسكرية والأجهزة الأمنية الكثيرة والقوات المتعددة، وبموازاة ذلك هناك اختلاف سياسي أكبر، وبالطبع هذه أوضاع لا يمكن الحديث معها عن قيادة سياسية. لكن رغم هذا السوء هناك عملية حد كبيرة لقهر الجيوش الكثيرة المنتشرة.

ما السمة الأبرز إذا لهذا الوضع؟

أصبح هناك انعدام للمركزية حتى في قيادة القوات النظامية! الآن القادة الميدانيين، بما في ذلك قوات الدعم السريع، يتصرفون باستقلالية، ولا أحد لديه السيطرة الحقيقية على قواته، وبالمقابل، لا توجد حركة سياسية لديها قدرة على تحريك الجماهير.

وبماذا تفسر الحراك المستمر على الأرض في مناطق مختلفة، وفئات عديدة؟

الآن يتحرك الناس بشكل شامل من أجل قضاياهم ومصالحهم المباشرة، ولا توجد عملية سياسية أبعد من هذا. أما ما يحدث في قاعة الصداقة هذه الأيام (المرحلة النهائية للعملية السياسية) فهو عبارة عن اجتماع في صالون كبير معزول عن الشارع، حتى أن المشاركين فيه من قوى سياسية وقادة عسكريين ومؤسسات مجتمع دولي، فإن وجودهم لا علاقة له بمؤسساتهم.

هل من فرص لتحقيق إجماع على أساس برنامج سياسي، حتى في ظل هذه المعطيات؟

هل نحن بحاجة لاجماع على برنامج سياسي؟ ربما نحن بحاجة لنظام سياسي لإدارة الاختلاف حتى داخل البرامج. نجحت وحدة قوى الثورة والجبهة المدنية الموحدة في تعطيل تخلق نظام سياسي ديمقراطي، وسمحت فقط بصعود سياسيين عاطلين عن الموهبة والخيال إلى السلطة، وخلقت أكبر انحراف في مسار السياسة لدينا؛ لذلك فإن سيادة العقل السلطوي والطموح، وإهمال قضايا التأسيس تاريخيا، وكيف يحكم السودان، وغياب البرامج التي تخلق التنمية والالتزام بالحقوق والحريات، وبالتالي، صيانة حقوق الإنسان وسيادة حكم القانون، كل هذا ساعد على تناسل قهر الدولة وسلسلة الانتهاكات الضالعة فيها، ومن خلال هذا المنطق السياسي ظل الجيش والقوات النظامية هي “الحزب السياسي” الأكبر إذا جازت لي تسميته.

حتى الآن نحن نفقد أهم شيئين للتطور والبقاء في الفضاء المدني المستقل والسياسي: المؤسسية والمحاسبة.. لذلك طغت مؤسسات الدولة وامتيازات السلطة الرسمية على الأداء السياسي، وانتقلت حتى للقوى الاجتماعية: القبيلة وزعاماتها والطائفية ومشايخها، ارتبطوا بجهاز الدولة الرسمي.. الآن قبل الحديث عن استعادة المسار السياسي على السودانيات والسودانيين استعادة الدولة.

نظام إدارة الاختلاف في البرامج، كيف يمكن الوصول إليه؟ هل الطريق واضح بالنسبة للغالبية التي تتحرك من أجل استعادة الدولة، من خارج قاعة الصداقة؟

بالنسبة لي هذا مرتبط بشروط كثيرة، وإن كان من السهل القول، موضوعيا، إن هذه الغالبية قادرة على ابتداع نظام سياسي بنهاية الأمر.. لكن هل من الممكن أن تقل التكلفة؟ وهل التهديد الذي يمكن أن تشكله الأقليات من نخب السلطة سيزيد من هذه الكلفة؟ وهل يمكن أن يخلق ردة؟ على كل حال، الردة ممكنة وليست مستحيلة، لكنها فعل النخب! لكن هل يمكن أن تستسلم الجماهير؟ هذا السؤال لا يجب إغفاله، لأنه من المهم أن نفهم الواقع من خلال تجاربنا وتجارب غيرنا في أن الجماهير يمكن أن تعود إلى حالة اللامبالاة، خصوصا مع تربص كبير وعدم قدرة أو رغبة النخب في التعلم.

مهم أن نفهم أن المستقبل يقتضي مراجعات، حتى داخل النخب التي تهدد الانتقال والتحول الدميقراطي، من سياسين وقادة جيش.. بالمقابل، حركة الجماهير نفسها يلزمها أن تمتلك أدوات عمل سياسي، وتمارس السياسة هي نفسها وتخلق بدائل مؤسسية، وكذلك تعمل على إصلاح مؤسسات الدولة الأكثر تأثيرا على حالة الانحلال السياسي، واستمرار إرث عنف الدولة وانتهاكاتها.

الاحتجاج وحده ليس كافيا وتطاول أمده سيعيد الناس إلى حالة الإحباط واللامبالاة، لذلك من المهم فتح نافذة خلاقة ورؤى لديها القدرة على فض الاشتباك وتجاوز العقل السياسي السقيم القديم.

عموما، ما يحدث الآن في السودان هو ثورة بمعناها الأشمل: سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وتهديدها سيكون تهديد لبقاء السودان نفسه، بمعنى أن هذه الأغلبية إذا لم تبتدر هذا النظام لن تكون هناك دائرة جديدة للحلقة المفرغة أو الدائرة الشريرة مثلما كانت تتكرر: ثورة، انتقال، انقلاب…إلخ. فمنذ استقلال جنوب السودان أصبحنا نحن أمام سيناريو “فض السامر”، أنظر ما يحدث في دارفور الآن، والذي حدث في النيل الأزرق، وما يحدث في الخرطوم أيضا.

وحدة قوى الثورة والجبهة المدنية الموحدة، يرى البعض أنها من شروط النجاح في تحقيق أهداف الثورة؟

في السودان، ومنذ مؤتمر الخريجين وحتى قبل ذلك ثورة ٢٤، دائما ما كانت الوحدة موجودة، ودائما ما تم توظيفها لصعود أشخاص ما إلى السلطة دون بحث القضايا التي تم التوحد خلفها، أو الالتزام بالمبادىء التي كان يتم المناداة بها، حدث هذا في أكتوبر، وأبريل أيضا، هناك كتابات لسودانيين لم تكن جزءا من السردية الأساسية، كما لم يتم الإحتفاء بها في السردية البديلة: أبو القاسم حاج حمد، صالح محمود إسماعيل. سودانيون كثر لا يعرفون أن أحمد خير المحامي هو صاحب فكرة مؤتمر الخريجين مثلا، لكن الأزهري الذي اعترض على الفكرة هو من ترأس المؤتمر لاحقا.

لا أعتقد أن وحدة القوى الثورية تختلف عن دعوات “وحدة أهل القبلة” أو أي من دعاوى الإسلام السياسي الأخرى التي تم تصميمها لمصادرة آراء الأفراد مقابل الجماعة (كأنما هناك مزاج جماعي لا يتشكل من آراء الأفراد)، ولكن هناك طريقة حتمية لخلق المزاج العام وواحدة، هي طريقة الجماعة عند الإسلاميين، أو الوحدة العربية، مثلا، التي أنتجت تنظيمين شموليين، البعث في العراق وسوريا، وناصر والفكر القومي في مصر. لا أعتقد أن دعوات وحدة قوى الثورة اختلفت عن واجب احتكار السلطة من قبل القوى الثورية لإنفاذ تصوراتها، وعلى نحو ما، حدث مثلا في الثورة البلشفية. لم تكن لتتيح تخلق نظام ديمقراطي أو تحفل ببناء مؤسسي. في الحقيقة لقد وجدت الدعاوى من بنية الدولة الموجودة أفضل معين لبسط نفوذها وفرض سيطرتها: دولة مركزية قابضة هي نفسها صيغة مثلى لنظام شمولي، لذا لم تعمل النخب التي تدعوا لوحدة قوى الثورة على تفكيك مركزية الدولة منذ الاستقلال، وتغافلت عن توصيات مؤتمر جوبا في ٤٧ ورفض الحكم الذاتي للجنوب، لاحقا لم يتم تطوير نظام حكم فيدرالي في السودان، الغريب أن نظام ديكتاتوري هو الذي عبأ بهذا وبقضايا الحكم المحلي في فترة نميري الأولى عندما تبنت (مايو) تصورات أكاديمي مثل الدكتور جعفر محمد علي بخيت.

مسألة وحدة قوى الثورة من أخطر الشعارات التي تم التحايل بها دائما على قضايا التأسيس والتوافق على نظام سياسي لدينا، ودائما ما سمحت بتقدم أقليات فكرية دقيقة التنظيم، أو أفراد يغلب عندهم الطموح لاختطاف المشهد. أنت ترى الآن نماذج كثيرة حاضرة، وكثيرا ما نردد (أربعة طويلة وتسعة طويلة)، وعند التدقيق قد نجد أن حتى هذا الاختطاف هو لأفراد محددين، وليس لأحزابهم حتى!


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *