صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

لماذا نتحالف؟ تساؤلات حول الأداة السياسية

شارك هذه الصفحة

على مدى عقود في التاريخ السياسي الحديث نهضت في ساحتنا السياسية التحالفات بأنواعها ثم تفككت.. لكن على ما بدا فإن تحديات الماضي تعود من جديد، مع إعلان كل تحالف.

التاريخ يفيد بأن الحركة الوطنية، ثم السياسية، شهدت تحالفاتها التي نهضت مبكراً لتواجه مرحلياً واجبات بعينها، أو تستهدف التأسيس لموقف استراتيجي من قضايا محددة.

في العام 1946 برزت الجبهة الاستقلالية بتحالف بين حزب الأمة وبعض الأحزاب والشخصيات، وفي العام 1954 انضمت إليها الجبهة المعادية الاستعمار- الحزب الشيوعي، وكان واضحاً أن هدف التحالف دعم قضية استقلال السودان، وظهر حينها الصادق المهدي في واجهة ذلك العمل التحالفي.

على مدى السنوات التالية، تتالت التحالفات السياسية في الساحة وسقطت لأسباب كثيرة، لكن يظل تحالف الشيوعي أيضاً وحزب الشعب الديمقراطي عقب ثورة أكتوبر باسم الجبهة الاشتراكية، محطة لا يمكن إغفالها.

التحالف الأبرز أثناء ثورة أكتوبر، كان جبهة الهيئات التي أعلنت في 25 أكتوبر 1964، قبيل أيام من مغادرة الفريق عبود للسلطة.

ومع وصول دبابات (مايو) إلى السلطة في 1969، نهض تحالف الجبهة الوطنية الذي ضم أغلب القوى السياسية في السودان، وناهض نظام نميري حتى وقّع الصادق المهدي اتفاق المصالحة الوطنية مع نظام مايو في بورتسودان 1977.

توقيع هذا الاتفاق أدى إلى انقسام التحالف على أساس الموقف من المصالحة، قبل أن يتراجع المهدي عنه، ويتمسك آخرون بالاتفاق.

وبعد انتفاضة الشعب في رجب أبريل على النميري، برزت تحالفات التجمع النقابي وتحالف قوى الانتفاضة والدفاع عن الديمقراطية.

التحالف التالي في التاريخ السياسي السوداني، نشأ باسم التجمع الوطني الديمقراطي، عقب انقلاب الجبهة الإسلامية في يونيو 1989، وشهد انضمام الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة الراحل دكتور جون قرنق.

استفادت هذه الصيغة التحالفية من تجارب العمل السابقة، واستندت إلى هدف إسقاط النظام واستعادة الديمقراطية، لكن هذا التحالف شهد هزة بعد خروج حزب الأمة القومي ثم توقيع الحركة الشعبية لاتفاق السلام الشامل مع نظام الإنقاذ.

وعادت قيادات التحالف إلى الخرطوم، بعد أن وقعت اتفاقية القاهرة مع النظام في يونيو من العام 2005.

في سبتمبر من العام 2009 تأسس تحالف قوى الإجماع الوطني بقيادة الراحل فاروق أبوعيسى، الذي ضم كلاً من الحزب الشيوعي وحزب الأمة والتحالف الوطني والمؤتمر السوداني والأحزاب الاتحادية والمؤتمر الشعبي وأحزاب البعث والناصري، وكان هدف التحالف أيضاً إسقاط النظام.

وبعد تفاعلات سياسية وخلافات شهد التحالف انقسامات حادة، تزامنت مع نشأة تحالف جديد يضم الأحزاب وقوى الكفاح المسلح ومبادرة المجتمع المدني باسم نداء السودان.

التحالف الجديد تعرض أيضاً لموجة من الخلافات أدت لخروج الحركة الشعبية لتحرير السودان قيادة الحلو، التي أفرزها واقع الانقسام في الحركة التي ساهمت في بناء التحالف.

الآن يشكل جزءا من تلك الحركة تحالف للموقعين على الاتفاق السياسي الإطاري مع قادة الانقلاب في 5 ديسمبر 2022، بينما مازالت الحركة بقيادة الحلو تحمل السلاح وتنتظر  ما تسميها “حكومة الأمر الواقع” للتفاوض معها.

ومع وجود تباين حول مردود التحالفات التي عُقدت على البلاد، يؤكد المحلل السياسي أنور سليمان أن التحالفات التي قيض لها النجاح هي التحالفات قصيرة الأجل، أي التحالفات التي تتأسس لمشروع وغرض سياسي واحد، وفي مدى زمني قصير، لكن (إن طال أمد التحالف تتفجر الخلافات وتحدث الانسلاخات، والتي تبدو للمراقب وكأنها تحدث لذاتها).

سبب فشل التحالفات السياسية والائتلافات هو (بالبداهة) ذات سبب تعثر التجربة الحزبية في السودان، وبالطبع البعض لا يقر بذلك، بل ولا يرى في ما هو حادث فشلاً، مع أن هذا ليس خلافاً في وجهات النظر ولا خلاف رأي، إنما خلاف في قراءة الوقائع، يضيف المحلل.

ويذهب سليمان إلى أن تعثر الأحزاب مرده إلى غياب أو عدم الالتزام بأسس إدارة الأحزاب والتنظيم بجانب ضعف البرامج، ما انعكس على تحالفاتها التي سرعان ما تنفض بسبب عدم الالتزام ببرنامج واحد.

ومع اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة نشأ تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، على قاعدة إسقاط النظام والالتزام ببنود الإعلان الموقع في يناير من العام 2019.

وقبل التوقيع على إعلان الحرية والتغيير الناظم لهذا التحالف، قالت الأحزاب المشاركة في اجتماع تمهيدي يوم 22 ديسمبر  2018، بدار الحزب الشيوعي، أنهم اتفقوا على العمل سويا لبناء مركز موحد للمعارضة يضم جميع الأطراف، بهدف دعم تحقيق مطالب الشعب برحيل النظام.

وقالت وقتها نائبة رئيس حزب الامة القومي، مريم المهدي، إن الحراك في الشوارع يلزمهم على مستوى وطني وأخلاقي وسياسي، بخلق مركز مشترك لقيادة الاحتجاجات الشعبية بغرض تقويتها ودعمها وتوفير الحماية لها حتى تصل لغاياتها.

وأعلن سكرتير الشيوعي الخطيب أنهم لن يقبلون أي مساومة على مطلب الشارع، أو انقلاب عسكري يعيد السودان للدائرة الشريرة، وطالب القوات المسلحة القيام بواجبها في حماية المواطنين العزل والتظاهرات السلمية التي تجتاح البلاد.

في وقت لاحق تم التوقيع على الإعلان المشترك وصدر في مطلع يناير من العام 2019.

من أبرز ما اتفق عليه في الإعلان التنحي الفوري للبشير ونظامه من حكم البلاد دون قيد أو شرط، تشكيل حكومة انتقالية قومية من كفاءات وطنية بتوافق جميع أطياف الشعب السوداني تحكم لأربع سنوات وتضطلع بوقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها بما في ذلك إعادة النازحين واللاجئين طوعاً إلى مواطنهم الأصلية وتعويض المتضررين تعويضاً عادلاً و ناجزاً ومعالجة مشكلة الأراضي مع المحافظة على الحواكير التاريخ، وقف التدهور الاقتصادي وتحسين حياة المواطنين في كل المجالات المعيشية، عمل ترتيبات أمنية نهائية مكملة لاتفاق سلام عادل و شامل، الإشراف على تدابير الفترة الانتقالية وعملية الانتقال من نظام شمولي يتحكم فيه حزب واحد إلى نظام تعددي يختار فيه الشعب ممثليه، إعادة هيكلة الخدمة المدنية والعسكرية (النظامية) بصورة تعكس استقلاليتها وقوميتها وعدالة توزيع الفرص فيها دون المساس بشروط الأهلية والكفاءة.

هذا إلى جانب إعادة بناء وتطوير المنظومة الحقوقية والعدلية، وضمان استقلال القضاء وسيادة القانون، والعمل على تمكين المرأة السودانية ومحاربة كافة أشكال التمييز والاضطهاد التي تتعرض لها، تحسين علاقات السودان الخارجية وبناؤها على أسس الاستقلالية والمصالح المشتركة والبعد عن المحاور مع إيلاء أهمية خاصة للعلاقة مع الأشقاء في دولة جنوب السودان، والتزام الدولة بدورها في الدعم الاجتماعي وتحقيق التنمية الاجتماعية من خلال سياسات دعم الصحة والتعليم والإسكان مع ضمان حماية البيئة ومستقبل الأجيال، إقامة مؤتمر دستوري شامل لحسم كل القضايا القومية وتكوين اللجنة القومية للدستور.

كما نص الإعلان  على الاتفاق على وقف كافة الانتهاكات ضد الحق فى الحياة فوراً، وإلغاء كافة القوانين المقيدة للحريات وتقديم الجناة في حق الشعب السوداني لمحاكمة عادلة وفقاً للمواثيق والقوانين الوطنية والدولية.

وبعد سقوط النظام البائد كانت مسألة خروج حزب الأمة القومي من التحالف بداية تكرار التجارب التاريخية، ثم تمت عودته وخرج الحزب الشيوعي لأسباب مختلفة صلبها عدم الالتزام ببنود إعلان الحرية والتغيير.

ويميز المحلل السياسي معتز الأمين بين نوعين من التحالفات السياسية، أحدهما مرحلي والآخر استراتيجي، مع تلاقي النوعين في بعض القضايا مثل المواقف السياسية المعلنة، والأخيرة مما تستند إليها أغلب التحالفات.

ويقول إن معظم الصراعات تاريخياً تنشأ داخل التحالفات المرحلية، لأن القوى السياسية يصعب عليها نقل التحالف إلى صيغة أكبر “تحالف استراتيجي”، وقوى الحرية والتغيير تعد نموذجاً لذلك، إذ تحالفت مرحلياً لإسقاط النظام لكن صعب عليها استراتيجياً نقل التحالف إلى مشروع وطني وتطوير ميثاق الحرية والتغيير.

ويرهن الأمين نجاح التحالفات أو فشلها بمدى تحقق الأهداف والغايات المعلنة من قبل الأطراف المتحالفة، مشيراً إلى وجود أطراف سياسية وقوى اجتماعية متحالفة على إبقاء الوضعية المختلة والمكتسبات الهشة منذ تكوّن الدولة السودانية الحديثة، ما يجعل تجربتها التحالفية ناجحة طالما أبقت لها على الوضعية المختلة للدولة.

مشهد اليوم تمسك بزمامه تحالفات ذات طبيعة مختلفة، ربما اقتضتها تحولات ما بعد انقلاب 25 أكتوبر 2021  والخيارات المطروحة على السودانيين.

في صدارة المشهد يقف تحالف جديد للموقعين على الاتفاق الإطارى السياسي، ويضم أحزاب الأمة القومي والمؤتمر السوداني والتجمع الاتحادي، بجانب المؤتمر الشعبي وأنصار السنة، وبعض الأجسام المهنية ومنظمات المجتمع المدني ولجان مقاومة.

وينازعه على التمثيل، تحالف الكتلة الديمقراطية الذي يضم حركة تحرير السودان بقيادة مناوي والعدل والمساواة قيادة جبريل إبراهيم، والحزب الاتحادي الأصل قيادة جعفر الميرغني، بجانب القوى الموقعة على مسار الشرق في اتفاقية سلام جوبا، والمجلس الأعلى للشرق قيادة محمد الأمين ترك.

وفي مكان أقرب لشارع الثورة يقف تحالف لقوى التغيير الجذري، وهي قوى ترفض البرامج الإصلاحية المتدرجة التي تطرحها قوى العملية السياسية استنادا على اتفاق 5 ديسمبر مع قادة الانقلاب، وتطرح عدم الاتفاق نهائيا مع قادة الانقلاب وإسقاطه لتحقيق كامل مطالب الثورة وبرنامجها لإعادة تأسيس الدولة.

التحالف المشار إليه يضم بشكل أساسي الحزب الشيوعي وتجمع المهنيين ولجان مقاومة وأجسام مطلبية وهيئة محاميي دارفور، وجميعها تلترم بشكل صارم تطبيق حلول جذرية لأزمات الدولة والبلاد عموما حتى لو تطلب الأمر استمرار مواجهة الانقلاب بمختلف الوسائل السلمية وإسقاطه، ما يضعها أولا في مواجهة تحالف قوى العملية السياسية الجديد.

وتقول هذه القوى إن الاتفاق بشرعنته لسلطة انقلاب 25 أكتوبر، هو منحةٌ ممن لا يملك لمن لا يستحق، فالشرعية هي حَقٌّ للشارع الثائر يمنحها من يشاء. كما أن تسمية العملية المستمرة بالتسوية السياسية أو العملية السياسية لا تغير من كونه تفاوضا ” سياسيا ” بين مكونين هما قوى الهبوط الناعم ووكلاء النظام السابق ممثلين في لجنته الأمنية مع إضافات جديدة من قوى كانت حليفة للنظام حتى يوم سقوط رأسه، وبهذه الطبيعة تكون هذه التسوية المبنية على التفاوض المباشر نقيضا” كاملا” لشعار الشارع (لا تفاوض، لا مساومة، لا شرعية، لا شراكة) وتكون القوى الموقعة بذلك خارج الكتلة الثورية بل مضادة لها.

لكن ما تعيشه ساحات السياسة الآن يطرح تساؤلات عن الأداة السياسية نفسها، وعن علاقة ما يجري بالماضي ومدى ارتباطها بتجارب الحراك السياسي المستمر منذ عقود.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *