صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

هل سيرتي مطابقة لحياتي في الرسم؟

شارك هذه الصفحة

لا أدري متى بدأت الرسم، وجدت نفسي هكذا، أشخبط على هوامش الكتب المدرسية، سطح درجي المدرسي، حوائط المباني، وكّل الأسطح الممكنة. تراكمت التجربة.

التهمت حياتي بأكملها.

قد يكون لهذا علاقة بالبيئة المحيطة. فتحتُ عيناي على أشجار النيم الضخمة والكثيفة الأغصان المتناثرة في حوش بيتنا في القضارف، تسلّقنا أغصانها، علّقنا عليها مراجيحنا من الحبال.

تتسرّب خيوط الضوء خلال أغصانها وأوراقها المتشابكة والكثيفة، وتبدو كخيال ظلِّ عملاق في الليالي المقمرة، لا أزال يمتعني تأمُّل شجرة ويحزنني كثيراً الإبادة الممنهجة التى تتعرض لها الخضرة.

أمّي كانت ترسم، نوعاً من رسوم نمطية، طيور، وأزهار على قاعدة مثلثة الشكل، كانت ترسم على الملايات والمفارش بأقلام الكوبيا، بعد أن ثبت القماش على صينية كبيرة ثم ترشها بالماء، نفس ما يفعلة رسامو الألوان المائية- شدّ الورقة على البورد، واقتصاد الماء- ثم تملأ المساحات المرسومة بخيوط ملوّنة زاهية، كنتُ طفلاً أراقب ذلك.

كانت أول من انتبه إلى مقدرتي في الرسم، ورغم عدم الرضا العام عن الرسم باعتباره عملاً لا جدوى منه، وكلام فارغ، خاصَّة بعد قراري دراسته واحترافه، إلا أنها كانت في مناسبات مختلفة تعبر عن إعجاب وتعاطف حقيقي مع شغفي بالرسم.

كان من المفترض أن تلتحق بالمدسة ولكن… (أبوي نكرنا)! تحكي بمرارة أن مسؤولي التعليم الإنجليزي، كانوا يبحثون عن البنات في سن المدرسة، لإلحاقهن بالمدارس التي أنشئت حديثا تلك الأيام لتعليم البنات، وهو أمر لم يكن يستسيغه السودانيون في ذلك الوقت.بالكاد تقبلوا تعليم الأولاد.

عندما سأل الموظف الإنجليزي والدها، وكان بدكانه بالسوق ما إذا كان عندة فتيات يريد لهنّ التعليم، كان جوابه (أنا ما عندي بنات)، مع أنه، في الحقيقة، لم ينجب سوى خمسة ذكور وسط جيش من الإناث.

لوحة للفنان التشكيلي عبد الله محمد الطيب

لوحة تشكيلية للفنان عبد الله محمد الطيب

وبرغم هذا نالت من معرفة المدرسة ما يمكّننها من كتابة الرسائل عند اللزوم وبعض القراءة، ما أهلها لتأسيس تجمع نسائي، منتصف الستينات، ملحقة به روضة للأطفال، اهتم– التجمع- بمحو الأمية في أوساط نساء الحي والأشغال اليدوية ونشاطات شبيهة، خاضت بسببه صراعات مع بعض عناصر جماعة الإخوان المسلمين بالقضارف، الذين حاولوا توظيفه أجندتهم.

أذكر عن عودتي من المدرسة الأولية، كما كنا نسميها، كانت تأخذ مني شنطة الكتب، تخرج محتوياتها وتبدأ في مراجعة ما درسناه، تصحح أخطائي في حدود معلوماتها، حتى إذا صادفت ما يصعب عليها، أتخذ أنا موقع المعلم. كان هذا عينه ما يحدث مع أخوي الأكبر والأصغر، حتى السنة الرابعة الابتدائية، بعدها تبدأ المرخلة المتوسطة وتنقطع هذه الصّلة، رُبَّما بسبب التعالي الذي يعترينا كأولاد وسطى وبنقرا إنجليزي كمان- وماذا يملك نظامنا التعلمي أن يقدم سوى التعالي الأجوف؟

حقيبة المدرسة الأولية تلك المصنوعة من قماش الدمورية، كانت هي السطح الذي نهضت عليه أولى محاولاتي في الأداء العلني للعمل التشكيلي. اسم التلمذ، الفصل، مكتوبة بخط كبير ومبذول فيها جهد تزييني واضح. بعضهم كان يكتب حكمة، قولا مأثورا أو اسما لبطل تاريخي إذا ما توافق اسمه الأول أو الثاني مع اسمه، فكان من ضن زملائنا خالد بن الوليد وعبد الرحمن النجومي، وهكذا.

الحقيبة كانت أشبه بالجلدران التي تتراكم عليها طبقات من الكتابات والأشكال.

حين كنت أعمل مصمما بالقسم الفنِّي بصحيفة الأيام، بعد تخرجي مباشرة في كلية الفنون، كنت قلقا ومتبرما، فلا جو العمل ولا الطمأنينة الساكنة في كنف الأسرة كانت تشبع روحي، فبعد فطامي القسري من كلية الفنون، لم ينتبه لمعاناتي سواها، أمي. وجدتها يوما تتحدث إلى نجار من الحي حول تصنيع طاولة كبيرة، وتزامن حضوري مع سؤاله عن أبعادها، (خلاص، عبدالله حيشرح ليك)…

لقد كانت تتباحث معه حول طاولة لي، للرسم. اقتطعت تكلفة تصنيعها من ما كنت أقدمه من مساهمة في ميزانية البيت. وكم كانت عظيمة الفائدة تلك الطاولة، أنجزت على سطحها معرضين بالمركز الثقافي البريطاني، بالخرطوم وأم درمان.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *