صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قراءة لقراءات: مسعى الفرد ومساعي الجماعة (1)

تصوير عاطف سعد
شارك هذه الصفحة

قصائد مذهبة وقصور منسية

“كَذاكَ الدَهرُ يُبلي كُلَّ شَيءٍوَلا يَفنى عَلى الدَهرِ القَصيدُ.. بشار بن بُرد

“الزمن الذي ينهبُ القصور، يثري الأشعار”.. (بحث ابن رشد)، بورخيس، تر: إبراهيم الخطيب، المجموعة القصصية (المرايا والمتاهات).

لمرتين، شعرتُ وأنا أقرأُ قصيدةً بأنني أرى الذهب، وليس هذا مجازا لنفاسة القصيدة، ولكن كانت الأبيات تتراءى لي كقطع ذهبية غاية في الإشراق، وجرسها  له رنين الذهب، وهذا راجع ربما لكون قافيتهما سينية، ورنة السين وتكرارها  يوحيان بهذا، والقصيدتان ليستا من قصائد المدح حتى يكون ذهبي المتخيل هو حُلم الشاعر جزاءً لقصيدته، وإنما جلهما  وصفي. إذن ما الذي جاء بالذهب؟ أهو لأن في القصيدتين مجلس شراب، وأثر الشراب عندي وغايته الإشراق، لا أحب الشمس ولا العالم مثلما أحبهما مخمورا.

في قصيدة أبي نواس وصفٌ لكأسِ خمرٍ ذهبية، وفي سينية البحتري وصفٌ لقصر آفلٍ يشرب عنده الشاعر خمرا توهمه بأن زمنا تاريخيا مضى ودرس حاضرٌ الآن وقائم، لكن هذا لا يفسر شيئا، الذهب عندي ليس في الأشياء الموصوفة، ولكن في المعنى، في كون القصيدتين تلتقطان وتصفان لحظتين زمنيتين عبقريتين. وكلا القصيدتين جاءتا من مرور الشاعرين في زمنين مختلفين ونقيضين بنفس المكان، بإيوان كسرى في المدائن، أبو نواس كان في صدر الدولة العباسية الأولى، والبحتري كان في إحدى لحظات اضمحلالها وضياع السلطة العربية وانتقال جزء منها إلى الأتراك، الذين قتلوا الخليفة المتوكل وصيروا الخلافة إلى ابنه وهو طوع أيديهم.

ينزل أبو نواس رفقة أصحابه بالمكان؛ فيبدو لهم صالحا للأنس واللهو، بينما يذهب البحتري إلى هناك قاصدا التأسّي، فهو في حال ضعضعة وانهيار تشابه حال القصر الماثل أمام عينيه، هو قصر يرثي قصرا، والبحتري بارع في رثاء القصور، وله قصيدة جميلة ومشجية في رثاء قصر المتوكل الجعفري.

لكن أي شعور بالزمن تخلفه كلتا القصيدتين؟ سينية النواسي القصيرة تبتدئ بأن المكان الآن خالٍ من آهليه، الذين لم يرتحلوا منذ مدة طويلة، لأن آثارهم باقية، الحديث منها والقديم، إنه شعور يقابلنا نحن الأحياء في الدنيا ويسم صلتنا بالموتى، لقد كانوا هنا وسَعِدُوا وشَرِبُوا زمنا، ونحن نخلفهم لنقضي زمنا سعيدا آخر ويستمر الشراب. 

ليس لأبي نواس هاهنا حس بالتاريخ، وإنما زمنه مطلق حتى أنه يسخر قائلا بأنه لم يدرِ من سبقه إلى هناك، فعنده أن وجودنا ليس مرتبطا بآخرين سابقين لنا، كل سعينا في الحياة مسعى فردي. أما البحتري فكان مثقلا بالتاريخ، كيانا تاريخيا صنعته أفعال الجماعة ومساعيها التي يتنكر لها في لحظة ضعْف، ويشيد بمساعي جماعة أخرى، وهذا الاختلاف يمكن تفسيره بتباين شخصيتي الشاعرين ومزاجهما وانتمائهما.. يقول الحسن بن هانئ:

وَدارِ نَدامى عَطَّلوها وَأَدلَجواِ  بها أَثَرٌ مِنهُم جَديدٌ وَدارِسُ

مَساحِبُ مِن جَرِّ الزَقاقِ عَلى الثَرىوَأَضغاثُ ريحانٍ جَنِيٌّ وَيابِسُ

حَبَستُ بِها صَحبي فَجَدَّدتُ عَهدَهُموَإِنّي عَلى أَمثالِ تِلكَ لَحابِسُ

وَلَم أَدرِ مَن هُم غَيرَ ماشَهِدَت بِهِبِشَرقَيِّ ساباطَ الدِيارُ البَسابِسُ

أَقَمنا بِها يَوماً وَيَوماً وَثالِثاًوَيَوماً لَهُ يَومُ التَرَحُّلِ خامِسُ

تُدارُ عَلَينا الراحُ في عَسجَدِيَّةٍحَبَتها بِأَلوانِ التَصاويرِ فارِسُ

قَرارَتُها كِسرى وَفي جَنَباتِهامَهاً تَدَّريها بِالقِسِيِّ الفَوارِسُ

فَلِلخَمرِ مازُرَّت عَلَيهِ جُيوبُهاوَلِلماءِ مادارَت عَلَيهِ القَلانِسُ.

مقولة بورخيس الواردة في بداية المقالة تجد تحققها البهيَّ في كلتا القصيدتين، وأكادُ أوقِن أن الفكرة جاءت من اطلاعه على سينية البحتري، فسياق الحديث كان عن الشعر العربي القديم. نحن نعرف أن الشعراء الجاهليين كانوا يقصدون أطلال ديار عشيقاتهم، طلبا لتحقق الذكرى وامتدادها في المكان، إنهم كما البحتري، يبتدئون قصائدهم بالشكوى من أثر الزمن المفرق لشملهم والمبعثر لديارهم، ويحنون لزمن ماضٍ، لكنه ليس زمنا تاريخيا كما عنده، إن قصيدة البحتري نقلٌ للشعر العربي من الزمن المطلق إلى التاريخ، ومن الذكرى إلى الخيال الخالص، حتى أنه يسخر من أسلافه عند رؤيته عِمارة القصر وتسحره تصاويره، فيتذكر ما كان يقف عنده أسلافه المهزومين للريح وطلب الماء والمرعى، قال:

حِلَلٌ لَم تَكُن كَأَطلالِ سُعدى

في قِفارٍ مِنَ البَسابِسِ مُلسِ

وَمَساعٍ لَولا المُحاباةُ مِنّي

لَم تُطِقها مَسعاةُ عَنسٍ وَعَبسِ

قصيدة البحتري مطولة، تبدأ بمناجاة للنفس، لتنتقل إلى تذكر وتخيل حضارة وملك بائدين، ليحدث عند ذلك العزاء وتقبل المصير. ولم تكن القصيدة استجابة مباشرة لمقتل المتوكل[i]، وإنما كتبها البحتري بعد ثلاث وعشرين سنة من ذلك الحدث، وما تزال باقية حتى الآن أطلال لإيوان كسرى بالمدائن في العراق، ولكنها وإن كانت أكثر قِدما من سينية البحتري، فإنها أقل خلودا من القصيدة.

يرى الجاحظ أن “كل أمة تعتمد في استبقاء مآثرها وتحصين مناقبها على ضرب من الضروب وشكل من الأشكال”[ii]، ثم يزعم أن العجم كانت تقيد مآثرها بالبنيان، ويذكر من صنائعهم المعمارية مدنا وحصونا، من ضمنها إيوان كسرى، فيما كانت العرب في جاهليتها “تحتال في تخليدها بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المقفى”، وإن شاركت العجم أحيانا في البناء، إن مآثر الفرس والعرب تجتمع بصورة مذهلة في سينية البحتري، فالشِعر العربي يتغنى بالعِمارةالفارسية، بل وكما أسلفت، يسخر من التقليد النموذجي في المطولات الشعرية العربية، أي الوقوف على الأطلال، بمقارنته بالتراث المعماري الخالد والمتمثل في الإيوان وتصاويره[iii].

هوامش وإحالات

[i] حقق ذلك محمد علي أبو حمدة في دراسته النقدية عن سينية البحتري الموسومة بـ (في التذوق الجمالي لسينية البحتري)، فعنده أن رحلة البحتري إلى فارس تمت حوالي عام 270 هجرية، فيما كان اغتيال المتوكل عام 247.

[ii] (في فضل الكتابة والكتاب)، كتاب الحيوان، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، تحقيق: عبد السلام هارون

[iii] الفتنة بنسق تفكير مغاير في إدراك العالم والصلة به -والتي تبتدئ كحيرة وتنتهي كاستشراق مفض إلى إخضاع زائف ومستحيل- تذكرني بنصين مفضلين عندي، وهما لبورخيس، الأول أمثولة (ملكان ومتاهتان) وتحكي أن ملك بابلونيا أراد إدهاش ملك عربي بإدخاله إلى متاهة صنعها رياضيو ومعماريو بابلونيا، يتيه الملك العربي داخل المتاهة، لكنه يتخلص منها وينجو بمعونة الله، يشعر الملك العربي بالإهانة فيقرر الانتقام، فيغزو بابلونيا، ويتمكن من ذلك، وبعد أسر ملكها، يذهب به إلى الصحراء، متاهة الشرق اللانهائية، وساخرا منه يقول له: أردتني أن أهلك في متاهة صنعها بشر، أما أنا فسأتركك في متاهة من صنع الله، ليدعه وحيدا في شساعة وتماثل وامتداد الرمل، بلا إله ليعينه وبلا معرفة بالنجوم، لينتهي ملك بابلونيا هالكا من الجوع والعطش. النص الآخر هو قصة (بحث ابن رشد) وسأتحدث عنها في مقالة تالية لهذا.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *