«عندما يموت المرء بين أحضان بلد ممتن، ينتهي الألم، تنكسر سلاسل السجون، وأخيرا، تبدأ حياة الموت» خوسيه مارتي
لم يكن ليمضي العام 2022 الذي صنفه كثير من الناس من كافة أنحاء المعمورة، ضمن أعوام الكوارث، دون أن يمنحنا لحظة إشراق، لتبرهن لنا أنه وفي خضم الطغيان والحقد والشرور والوحشية التي تحيط بالناس في كل مكان في جنوب السودان، إلا أن المجتمع ما زال لديه بعض الأشخاص ذوي الاحساس والمهتمين القادرين على التضحية في سبيل المنفعة العامة. هكذا كان انطباعي عن النسخة الثانية من مهرجان ديرك الثقافي الذي عقد في جامعة جوبا بين 10 و 18 نوفمبر 2022.
لقد كان من دواعي سروري أنني حظيت بمتابعة الحدث الذي استمر أسبوعاً واحداً، ورفقة منظميه وضيوفه المميزين الذين حضروا لتشريف الاحتفالات. لم أكن قط معجباً بالمسرح والشعر والدراما، بالرغم من أنني، كنت أدرك بكل صدق منذ أيامي في جامعة الخرطوم أن المسرح والفنون والشعر والدراما هي طرق قوية لتوصيل رسائل النضال المكثفة والتي تقود في نهاية الأمر إلى التغيير الاجتماعي.
كان ديرك أويا ألفريد واحداً من طينة نادرة للناس الافذاذ الذين تركوا أثراً لاينمحي في تراب السودان، ولا تخطؤوا قراءتي، فأنا أقصد السودان الذي يتضمن السودان وجنوب السودان، والذين في سياقهما الحالي يظلان صنوين ثقافياً كما كانا قبل الانفصال. فالنضال من أجل الاعتراف الثقافي والتمازج الوطني الذي خاضه بمعية زملائه، مثل السماني لوال أرو ماج، وحنان ديرك، ومحمد عبد الرحيم قرني، ومارتين أتيم دي قاك، وآخرين، في مركز التثاقف والاستيعاب الاسلامي لم يكن يتطلب إثارة كل ذلك الغضب المستبد.
رحيله في مثل هذا العمر المبكر، لا يمكن تفسيره إلا بوصفه تحدياً لمن خلفوه، لمضاعفة جهودهم من أجل تحقيق القيم والمثل العليا التي عانى ديرك ورفاقه من أجل أن تجد آذاناً صاغية. وأن ينال التميز والاختلاف الثقافي للشعوب الأفريقية في السودان قبولاً في الثقافة السودانية السائدة. وكما قال السماني لوال، “جمعنا ديرك اليوم لمواصلة الرحلة”. كانت رسالة مهمة، تماثلها تماماً رسالة خوزيه مارتي، الزعيم الوطني الكوبي المقتبسة مقولتن أعلاه. بالنسبة لـ(ديرك)؛ فالحياة قد بدأت لتوها. فإذا كان للمهرجان الذي استمر اسبوعاً واحداً الفضل في أن يوقظ عدداً قليلاً، إلا أنني على ثقة من أن المناسبات القادمة كفيلة بإيقاظ الكثيرين، بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة.
لا يمكن لموضوعة “الثقافة كمعبر لبناء الأمة”، الا أن تكون أكثر دقة في التعبير. جنوب السودان، البلد الذي يضم 67 تشكيلة ثقافية اجتماعية(قوميات) ومستويات مختلفة من التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. بعض النزاعات والتناقضات واسعة الانتشار في البلاد، والتي تقوم على أسس إثنية، هي مورثة ومتأصلة في تنوعنا وفي الفشل في إدارته، ستمضي بينما تتعلم شعوبنا كيف تعيش مع بعضها. ولأن الثقافة – حصيلة أنشطتهم الحياتية وانتاجهم الاجتماعي، ميالة إلى التغير بفضل ما استعارته من ثقافة الآخرين، وفي الوقت ذاته تتخلص من بعض الأفكار، والممارسات والتحيزات المسبقة، فلا بد أن تأتي لحظة زمانية يتقاسمون فيها القيم نفسها. وهذا يعني أن الخطوط الفاصلة بين هذه التكوينات الثقافوإجتماعية ستختفي بينما تولد دولة جنوب السودان في فراش موت الإثنية.
هالليلويا! بيد أن كل ذلك سوف لن يأتي من تلقاء نفسه كمعجزة. لا، سيكون نتاجاً للصراع المحتدم بين الوعي والجهل، بين التقدم والتطور والرجعية والتخلف. وهذا ما يؤكد أهمية مهرجان ديرك الثقافي بوصفه عملية مستمرة ويؤكد أهمية رسائل التوعية الإجتماعية التي يحملها ويعنى بها. فإن بناء ثقافة وطنية في عملية ديمقراطية تتضمن القطاعات المختلفة من مجتمعنا هي مجرد مترادفة للتعبير عن بناء الأمة، بالنظر إلى أن مخرجات هذه العملية هي متطابقة وتشير إلى التقدم الاجتماعي والاقتصادي والثقافي لشعبنا. والذي يؤدي إلى رفع الوعي، والذي بدوره يقود على نحو خفي لتغيير مواقفنا (داخلياً) وسولوكياتنا (خارجياً) التي تتمظهر فيها التحيزات المسبقة، والكراهية، والعنصرية والتعصب الأعمى والشوفينية. فتغيير الموقف الداخلي يفسح المجال لتشكل تصور مغاير عن الواقع، ما يخلق دافعاً أقوى لتغيير ذلك الواقع.
الدراما المسرحية التي عرضت في اليوم الثالث وتحديداً (مأسياة يرول) و(ظل الحمار) تخاطب واقع الرأسمالية في مرحلة التراكم البدائي التي يمر بها جنوب السودان، في هذه التشكيلة الاجتماعية يسلب الأقوياء ملكية الأضعف. تذكرني بالوضع الراهن في أعالي النيل حيث عمدت مجموعة من نوير فانجاك إلى تنظيم أنفسها بهدف نهب ماشية شولو في محليات فنيكانق وفشودة. فهي توضح انهيار الدولة والرجوع إلى الطبيعة البشرية كما وصفها هوبز. حيث الحياة منعزلة وفقيرة وقذرة ووحشية وقصيرة. ومن ناحية أخرى، مدفوعاً بواسطة القوى البدائية لتراكم الثروة، يتحول كل شيء في المجتمع إلى سلعة. انفصال الحمار عن ظله، يحكي لنا عن القوة الداخلية المظلمة للرأسمالية، والتي هي الربح. هنالك مقولة رائجة مفادها إن أعطيت رأس المال ربحاً بنسبة 100%، وسيصبح مثيراً للإهتمام، ولو أعطيته 200%، يمكن تطبيقه في كل مكان، 300% وسوف يدوس رأس المال على كل القوانين البشرية. سواء أن كنا مدركين لذلك الأمر أم لا، فإن المحن التي ظل شعبنا يرزح تحت وطأتها منذ العام 2005 نتجت عن التنافس على التراكم البدائي للثروة.
لعبت الفنون، مثل النحت والعمارة والشعر والدراما والغناء وغيرها، تأثيراً هائلاً في تشكيل ردود الأفعال المجتمعية في مواجهة هذه الشرور، والحث على الكف عنها. التراتبية المجتمعية وظهور الطبقات العليا في المجتمع هو أمر قديم قدم الانسانية. تشكل الطبقات يظهر صورة خفية غير ملحوظة بيد أن تداعياتها يكون الاحساس بها بصورة مباشرة لأنها تولد التناقض بين الطبقات. على الدوام ظل نضال الطبقات الدنيا والطبقات المعدمة من أجل العدالة (المساواة والانصاف في توزيع الموارد)، الحرية والإخاء، يخلق دوماً تغيراً في المجتمع. انا على ثقة أن النسخة الثانية من مهرجان ديرك الثقافي ربما تكون قد حفزت بالفعل قوى النقد الاجتماعي. الكثير من المواقف والسلوكيات الغريبة وغير المعروفة لدى البيئات الحضرية بدأت في الظهور في المجتمع، ويبدو أنه ليس هنالك موانع ثقافية لمواجهتها، بالتحديد للقادمين من المناطق الريفية، ولذلك ينبغي فحصها وتثبيط انتشارها. وسيكون هذا دور النقاد الاجتماعيين والفنانين للمساهمة في هذا النضال.
في الختام، أود أن أعرب عن جزيل شكري لمنظمي الدورة الثانية لمهرجان ديريك الثقافي على اتاحة هذه الفرصة الرائعة لنا، لإعادة التفكير بشكل أكثر انتقادًا في عملية بناء الدولة في جنوب السودان، والمساهمة في تطوير ثقافة وطنية تتناسب مع التنوع الاجتماعي والثقافي في البلاد.