صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قراءة لقراءات: مسعى الفرد ومساعي الجماعة (2)

شارك هذه الصفحة

الوهم وغياب الحس التاريخي

وتَوَهَّمتُ أَنَّ كِسرى أَبَرويزَ مُعاطِيَّ وَالبَلَهبَذَ أُنسي

-البحتري

وَلَم أَدرِ مَن هُم غَيرَ ما شَهِدَت بِهِ بِشَرقَيِّ ساباطَ الدِيارُ البَسابِسُ[i]

-أبو نواس

أنا مَن ضيّع بالأوهام عُمرَه نسي التاريخَ أو أُنسي ذِكرَه

-علي محمود طه المهندس

ما الغاية من رواية مصطفى سعيد لقصة حياته لمحيميد؟ إن الغاية من القص مُتبدّلة وكذلك معنى القصة وأثرها؛ ففي البداية يؤكد مصطفى سعيد أن القصة لن تؤثر على وجوده هو في القرية، وأنه يرويها خشية من جموح خيال محيميد، لأنه درس الشعر. وفضول وخيال محيميد حُفِزا عبر لعبة سردية متقنة وقصدية من مصطفى سعيد، فكؤوس خمر احتساها – مجبراً وتحت إلحاح محجوب حسب رواية محيميد، فيما هي استدراج محكم وإشارات محفزة بعثها مصطفى للراوي ليولد فيه الرغبة في الاستماع للقصة. لقد اختار مصطفى سعيد قارئه بعناية، رجل خاض تجربته ذاتها في الاغتراب في بلاد المستعمِر – تطلق عن لسانه ليتغنى بشعر إنجليزي عن الحرب العالمية الأولى. بعد اختفاء مصطفى سعيد، تتحول غاية القصة عبر رسالة تركها لمحيميد، فهو يطلب منه أن يعتني بولديه ويجعله وصياً عليهما. وفي ختام القصة، وفي أقصى لحظات وعي الراوي بمصطفى سعيد، يدرك حينها الغاية، عند دخوله لغرفة مصطفى سعيد وتفتيشه لمكتبته، يدرك حينها أنه كان ضحية لتلاعب وأن مصطفى سعيد اختاره لأنه يريد أن “يُكتشف كأثر تاريخي له قيمة”.

هذه الدوافع والغايات لا تُفسِّر كُلَّ شيء، أو أنها تفسر ما يلي مصطفى سعيد[i]، ولكن ماذا عن الراوي؟ فهذه القصة تقرأ أيضاً كإعادة موْضعة له في التاريخ، كتنبيه له على نص منسي وتاريخ مطمور ومُتجاهَل، أحداث أحدثت انقطاعاً في بنية وعيه، أي الاستعمار والحداثة، لكنه مثل أبي نواس كائن غير تاريخي، وإن ظن نفسه كذلك، فيما المأساة التاريخية وسمت كما البحتري مصير مصطفى سعيد، والذي على العكس يزعم أنه منبتٌّ وغير ذي صلة بالجماعة، فيما هو يسعى للانتقام لها.

بعد سماعه للقصة، تبدأ أوهام عديدة في التبدد، وتنتفي مجازاته عن صلته بالطبيعة أو بالجماعة؛ فنص مصطفى سعيد يمحو الفصل الأول ببطء، ثم يهيمن على الفصول التالية للثاني، والراوي لا يذكر ولو لمرة أنه رد على مصطفى سعيد أو ناقشه ليلة سماعه القصة، ولكنه يرد عليه ويجادله باستمرار في لحظات استعادته للقصة بعد ذلك. وارتباط الوهم بغياب الحس التاريخي، هو ما نعرفه من سينية البحتري، فالشاعر الحاطُّ من مساعي قومه، ينسى أو يتناسى أن عبساً وعنساً وغيرهما من قبائل العرب هي التي أفرغت الإيوان من أكاسرته، وجعلت فيه مأتما بعد عُرسِ، أم أنها الليالي يا أبا عبادة؟[i]

شخصية خيالية أخرى مستغرقة في الأوهام وساعية للبطولة، كانت فاقدة للحس التاريخي، وهو ما ولد أوهامها أولاً، ثم كان للوهم نفسه طريقته في محو الذاكرة والتاريخ[i]، فدونكيخوته بلغت به أوهامه أن يتخيل قطعاناً من الخراف جيوشاً مُتحاربة، ومن موضعه ذاك راح يعدد لسانشو الأمم المتحاربة لحظتها، فذكر جنباً إلى جنب أمماً وقبائل قد وجدت وأخرى خيالية[ii]. ويتوهم البحتري بعد شربه للخمر في الإيوان أن كسرى أبرويز ينادمه ويؤانسه البلهبذ، وقبلها أمام صورة معركة أنطاكية بين الروم والفرس، يصف حركة متخيلة لجيوش الفرس والروم المتحاربة داخل المنحوتة، حركة ملؤها الصمت والسكون، لكنها تبعث في نفسه وفي نفس سامعه الذي يخاطبه الارتياع. يرتاب البحتري من الصورة فيبدأ في تلمسها ليستيقن سكونها، ثم يستدرك بعدها على نفسه، ويتساءل إن كان ذلك حُلماً أطبق الشك على عينه، أم أماني غيرن حدسه وظنه[iii].

رغم الحيل السردية المتعددة والمضاعفة لواقع العمل الخيالي، بدءاً من القصة داخل القصة، وحتى انعكاسات المرايا، والنصوص المخطوطة – دراسات مصطفى سعيد عن الاقتصاد والاستعمار – ومكتبته ورسوماته وصور بعض من عرفهم؛ إلا أنه لا وجود لحلم في بنية رواية (موسم الهجرة إلى الشمال)، هذيانٌ نعم، أوهام متلاشية كذلك، تدرُّجٌ في التذكر أيضاً، ولكن لا حلم[i].

 

مصادر ومراجع

[1]انظر (قراءة لقراءات: القراءة كحدث)، لكاتب المقال، بموقع مجلة (جيل جديد) الإلكترونية 2016.

[i]نعرف أن الوهم، على النقيض من المتخيل، ليوجد عليه أن يلغي الحاضر لا أن يجاوره، ما يفترض أن يكونه الحاضر. ولأجل استمرار مثوله وتكراره عليه أن يمحو الماضي شاملا أوهامه أيضا، طبيعة الوهم هذه نجدها ماثلة في أعمال مارتن سكورسيزي، فعنده تفقد الصلة السببية والمنطقية بين شخوص الفيلم ومرجعياتهم التاريخية/ الواقعية حتميتها عبر الوهم، فلا ماضي ترافيسبيكل في (Taxi Driver) عام 1976، لا حاضره الذي شاهدناه قد حدث بالفعل. فعزلته/ استغراقه في الوهم ولجوؤه إلى العنف في أحلام يقظته لإنقاذ فتاتين، بالمجمل فشخصيته الماثلة ليست نتاج الحرب وأهوالها -الحرب التي نعرفها من خلال مقابلة العمل التي أجراها في مفتتح الفيلم- إذن من هو ترافيسبيكل بلا تحليل نفسي وبلا مرجعية تاريخية؟ ببساطة، هو شخصية خيالية. وعلى النقيض من المتخيل أيضا، لا يمثل الوهم قوة وحدة في الحس وإنما يشير لكلاله ومحدوديته.

[1]في دراسته (موسم الهجرة إلى الشمال، أو الجغرافيا التي قلبت معادلة التاريخ)، من كتاب (شرق وغرب، ذكورة وأنوثة: أزمة الجنس في الرواية العربية)، يأخذ جورج طرابيشي على مصطفى سعيد ربطه بين لحظتين تاريخيتين، باعتبار اتصالهما: أي الحروب الصليبية والاستعمار، فيقول إن كلا الحدثين ينبع من دوافع مختلفة وأن العلاقة بينهما هي علاقة انقطاع لا استمرار، فأوروبا الحملات الصليبية هي أوروبا الإقطاع، بينما أوروبا الاستعمار هي أوروبا الرأسمالية.

[1]في السينية، يقف البحتري حيث ضل الملك العربي في أمثولة (ملكان ومتاهتان) لبورخيس، مفتونا بالمتاهة لكنه على العكس من الملك قادر على الخروج منها، فهو قد مضى إليها باختياره، طالبا للعزاء.

[1](الفصل الثامن عشر) من القسم الأول من رواية (دونكيخوته)، سيرفانتس، تر: عبد الرحمن بدوي

[1]قال البحتري يصف تصاوير معركة على جدران الإيوان:

وَإِذا مارَأَيتَ صورَةَ أَنطاكِيَّةَ    ارتَعتَ بَينَ رومٍ وَفُرسِ

وَالمَنايا مَواثِلٌوَأَنوشَروانَيُزجي الصُفوفَ تَحتَ الدِرَفسِ

في اِخضِرارٍ مِنَ اللِباسِ عَلى أَصفَرَ يَختالُ في صَبيغَةِ وَرسِ

وَعِراكُ الرِجالِ بَينَ يَدَيهِفي خُفوتٍ مِنهُم وَإِغماضِ جَرسِ

مِن مُشيحٍ يَهوي بِعامِلِ رُمحٍوَمُليحٍ مِنَ السِنانِ بِتُرسِ

تَصِفُ العَينُ أَنَّهُم جِدُّ أَحياءٍ لَهُم بَينَهُم إِشارَةُ خُرسِ

يَغتَلي فيهِم ارتِيابي حَتّىتَتَقَرّاهُمُ يَدايَ بِلَمسِ

[1]على العكس من ذلك، تنبني رواية (ضو البيت بندرشاه) للكاتب نفسه على حلم، ففي ليلة بعينها يعم حلمٌ ما جُل منامات رجال القرية، فمحيميد، وسعيد عشا البايتات، والطريفي ود بكري، وآخرون، جميعهم يرون الحلم ذاته–حلما يقع في مركز رواية (ضو البيت بندرشاه) وزمنها- ويسمعون نفس الصوت الداعي لهم للتوجه إلى قصر قديم، بقيت أطلاله على حواف القرية، لكنهم في الحلم أو في حالة الجذب يذهبون كلا على حدة في ليلة واحدة أو عدة ليالي، ليجدوا القصر ماثلا أمام أعينهم، الحرس على بواباته، وأصوات غناء الجواري تترامى من شرفاته، وفي الداخل يجدون بندرشاه وحفيده وأبناءه/ عبيده يمضون لياليهم في طقس متكرر وأبدي. يحمل هذا اللقاء معنى مختلفا لكل منهم: قد يكون تفسير علة وجوده، أو سببا في الثراء، أو منح السلطة.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *