صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قراءة لقراءات: مسعى الفرد ومساعي الجماعة (5)

شارك هذه الصفحة

البحث عن الأطلال أو الجِدّة والقِدم في الكلمة والصورة والعمران

بليتُ بِلى الأطلالِ إن لم أقف بها…

-المتنبي

لم تأسِرني خمرةُ المتصوِفة، وإن سَقانِيها أبو داؤود بصوته على أطلال مدينة سواكن، في فيلم (انتزاع الكهرمان)[i] لحسين شريف، عندي هي رمز كاذب، وكلنا نتذكر كذبة مصطفى سعيد في إحدى محاضراته بالجامعة، حين زعم أن خمر أبي نواس كانت رمزا لأشواقه الروحية وتوقه للمطلق، وهذا كلام يصدقه من لم يذق الخمر، ومن لم يعرف أبا نواس. باستمرار يحيل الطيب صالح للحسن بن هانئ، ففي الموسم ينشد مصطفى سعيد لإيزابيلا سيمور عدة قصائد له، وفي مقدمة (ضو البيت بندر شاه) يقتبس أبياته في وصف إبهام الرؤية والضلال الذي يجلبه تداعي الصور في الذاكرة وما يتلوه من الشك عند الوقوف على رسوم ديار الأحبة:

أَلا لا أَرى مِثلي امتَرى اليَومَ في رَسمِ
تَغَصَّ بِهِ عَيني وَيَلفُظُهُ وَهمي
أَتَت صُوَرُ الأَشياءِ بَيني وَبَينَهُ
فَجَهلي كَلا جَهلٍ وَعِلمي كَلا عِلمِ

وهذا وقوف عجيب أمام الأطلال، أخذه الطيب صالح أخذا لطيفا لتطابقه مع تصوره عن الصلات بين الماضي والحاضر والمستقبل، ولموافقته لبنية الرواية القائمة على الحلم والوهم.

وفي مفتتح الجزء الثاني من الرواية (مريود) يقتبس مرة أخرى أبياتا للنواسي في وصف تذكره لعشيقةٍ وامتناعها عليه، ويأخذها إلى آفاق الصِناعة والتأليف الأدبي، يقول النواسي بعد أن يصف الإشارات المضللة التي تبعثها امرأة له، فهي تؤاتيه طرفها فتطمعه فيها، لكن لسانها عفيف، مما يتركه في حال ممزوجة من الرجاء واليأس في وصل هذه المرأة الدانية بالفعل والنازحة بالقول:

غَيرَ أَنّي قائِلٌ ما أَتانيمِن ظُنوني مُكَذِبٌ لِلعِيانِ
آخِذٌ نَفسي بِتَأليفِ شَيءٍواحِدٍ في اللَفظِ شَتّى المَعاني
قائِمٌ في الوَهمِ حَتّى إِذاما رُمتُهُ رُمتُ مُعَمّى المَكانِ
فَكَأَنّي تابِعٌ حُسنَ شَيءٍمِن أَمامي لَيسَ بِالمُستَبانِ

والتأليف حسب السياق القصصي للقصيدة مقصود به التوليف بين الشاعر وعشيقته، فضاعف صالح من أبعاده ومراميه، كما أن الأبيات توافق مزاج الجزء الأول من الرواية وعوالمها الخيالية المبهمة والمجهولة الأزمنة، المتواشجة والمتقاطعة، كما تماثل تصور الطيب صالح للأسطورة.

في حوار منشور في مجلة الكرمل في عددها التاسع[i]، يتذكر صالح مرة أخرى الشاعر الحكمي، ويقارن بينه وبين المتنبي، وكيف أن أبا نواس متفوق في الفن، رغم تخلفه عن المتنبي في الشعر، وأنه خلافا له عرف الثمن الذي ينبغي للشاعر دفعه نظير الفن فأبى أن يفعل ذلك، فيما دفع المتنبي الثمن، كل هذا في رد على سؤال عن المأساة وأخْذ الأديب لعمله بجدية. وهذه الإجابة تفسر الكثير عن شخصية الطيب صالح ورؤيته للأدب.

كل هذا التذكر والاقتباس جاءا من تساؤلي عن القِدم والجِدة، والصلة بين الأزمنة، وفي الحقيقة دفعني هذا التساؤل لتذكر عدة أفلام مصرية ورواية (حدث أبو هريرة قال)[i] للمسعدي، الأفلام هي: (المومياء) لشادي عبد السلام، و(القبطان) بطولة محمود عبد العزيز، وتأليف وإخراج سيد سعيد، و(عفاريت الإسفلت)[ii] لأسامة فوزي. بالطبع فـ (المومياء) أعظمها وأكملها بصريا وتقنيا وفي الحبكة والمنظور العميق للعلاقة بين الماضي والحاضر[iii]، بينما (القبطان) كان أكثرها طموحا فلسفيا نحو تعريف هذه الصلات لأنه كان يحاول تعريف الزمن نفسه وفكرة الخلود، فيما (عفاريت الإسفلت) كان عبقريا في المزج بين الصورة والحكاية.

نعلم أن الفن حاضرٌ أبدا، خاصة الشِعر، ولكن ماذا عن السينما والصورة؟ كيف ندرك الزمن الماضي فيها؟ هذا التساؤل دفعني للمقارنة بين شعورنا بالزمن المجلوب بالكلمات وشعورنا بالزمن المجلوب بالصورة، كانت الكِتابة إلى حدٍّ ما اكتشافا للزمن وتقييدا له ونقلا لأزمنة ماضية نحو غيوب مستقبلية مجهولة -واختراع الكتابة عندي أعجب من اختراع الكاميرا- بينما يبدو حضور الصورة مربكا، فالصورة هي في مكانٍ آخر، لذا فإن محاولة حسين شريف في فيلمه (انتزاع الكهرمان) لتصوير أطلال مدينة سواكن -والوقوف على الأطلال عادة شِعرية قديمة كما نعرف، اختُصت بها الكلمة- ومزج الصور بخمرية ابن الفارض مغناة بصوت المغني أبوداؤود، رغم عبقريتها إلا أنها قاصرة عن جعلنا نشعر بالزمن الآفل، وإن سَفتهُ الرياح وسكنتهُ الأشباح. ويكفي مقارنة مجتزأ الفيلم المنشور في اليوتيوب بأبيات أبي نواس المذكورة أعلاه، لندرك الفرق بين أثر الكلِمة وأثر الصورة[i].

تنبني رواية (حدث أبو هريرة قال) على أشكال سردية تراثية مثل الحديث المروي، كما أن زمانها نفسه وعالمها هما أرض الحجاز: مكة والمدينة قديما ومدن عربية مجاورة لهما، وشخصيتها الرئيسية موغلة في القِدم اسماً ورسماً، وباحثة عن الجِدة[i]. تبتدئ الرواية بانقطاع ككل مفتتح لرواية، يقطع صديق الراوي سير حياته ليطلب منه مرافقته في رحلة لرؤية منظرٍ عجيب، يرتحلان عبر الصحراء عند الفجر وعند موضع بعينه يريان صبياً وفتاة يرقصان عاريين فوق كثيب رملي، عائشين في البراءة الأولى، هامَ صديق الراوي بهذا المشهد وبكى، وبلبل هذا المرأى حياة أبي هريرة، فصار في انتقال دائم وبحث حثيث عن الجِدة وأحيانا عن القِدم، فتنقل بين البوادي والديانات والنساء، وصحِب القوافل ومضى وحيداً، وعاش مع الجماعة حينا وفارقها زمنا طويلا. المهم أنه عاش تجربة وجودية بالغة الأثر في بحثه عن الله والمعنى والحقيقة، وتتشابه بنية هذه الرواية مع بنية رواية (ضو البيت –  بندرشاه)[ii] للطيب صالح، وذلك في تداخل الأزمنة الموغلة في القدم بالحاضر، وفي المدى الزمني المتسع للأحداث والتحولات، فأبو هريرة لم يكن شخصا واحدا محدودا بزمان ومكان بعينه، ولكنه شخوص عدة في دهور متباعدة، وكذلك (بندرشاه) يبقى وجوده غامضا وتتضارب الروايات حوله.

لنعد لخمر أبي نواس، مازحني صديق قبل عدة أيام بصدرِ بيت له، يقول فيه: وخدينِ لذاتٍ مُعللِ صاحبٍ، فبحثت عن القصيدة ولم أكن قرأتها من قبل، وكانت قراءتها ساحرة للغاية، كان الحكمي يقول بأنه لا ينبغي أن يقول أحدهم شِعراً في الخمر وهو حي، وقد صدق، ولا بعد موتهِ والله. القصيدة تصف اللحظات التي تسبق الفجر، يتذكر الشاعر الخمر فيصطبح بها، ويوقظ صديقه ويسقيه خمرا معتقة، ولعل أبا نواس كان يؤمن بقِدم الخمر وبكونها جوهر الوجود وأنها الأول الذي لا سابق له، ولعل مصطفى سعيد لم يكذب كثيرا في زعمه. يقول في بيتٍ عجيب رفقة أبيات مشرقة، أن هذه الخمر سرٌ كتمه الزمانُ دهرا طويلا ثم باح به بدافع الإملال لا غير، قال:

عَمِرَتْ يُكاتِمُكَ الزَمانُ حَديثَها حَتّى إِذا بَلَغَ السَآمَةَ باحا
فَأَباحَ مِن أَسرارِها مُستَودَعاً لَولا المِلالَةُ لَم يَكُن لِيُباحا
فَأَتَتكَ في صُوَرٍ تَداخَلَها البِلى فَأَزالَهُنَّ وَأَثبَتَ الأَرواحا
فَكَأَنَّها وَالكَأسُ ساطِعَةٌ بِها صُبحٌ تَقارَبَ أَمرُهُ فَاِنصاحا

وهنا، عند نهاية القصيدة، تداخل صبحُ اليوم بصبحِ الكأس، وهذا مزجٌ بديع.

تاريخ استعارة

صِفَةُ الطُلولِ بَلاغَةُ القِدمِ فَاِجعَل صِفاتَكَ لِاِبنَةِ الكَرمِ

-أبو نواس

 أحبُّ تتبع نسب الاستعارات، فالمجاز يبين الكثير عن وعي قائله، وكذلك المفارقة، كانت وقفة امرؤ القيس أمام الأطلال أمرا حقيقيا وتجربة مَعِيشة، وكذلك طرفة وبقية شعراء الجاهلية، أما آخرون مثل أبي نواس والمتنبي، فكانت بالنسبة لهم مطلعا أملاه بناء القصيدة النموذج، صور مثل قول المتنبي:

بَليتُ بِلى الأطْلالِ إنْ لم أقِفْ بها
وُقوفَ شَحيحٍ ضاعَ في التُّرْبِ خاتمُهْ

أو قوله في مخاطبة طلل:

إِثلِث فَإِنّا أَيُّها الطَلَلُ نَبكي وَتُرزِمُ تَحتَنا الإِبلُ
أَولا فَلا عَتبٌ عَلى طَلَلِ إِنَّ الطُلولَ لِمِثلِها فُعُلُ
لَو كُنتَ تَنطِقُ قُلتَ مُعتَذِراً بي غَيرُ ما بِكَ أَيُّها الرَجُلُ
أَبكاكَ أَنَّكَ بَعضُ مَن شَغَفوا لَم أَبكِ أَنِّيَ بَعضُ مَن قَتَلوا

صور ومعانٍ تجريدية كهذه، مثل أن يجيبه الطلل ويتحدث إليه، لم تكن لترد بذهن الأقدمين، لأنهم بالفعل حين خاطبوا الطلل كانوا في حالة انذهال، يستدركونها مباشرة بالقول إن الحجارة لا تتكلم، قال الأعشى:

ما بُكاءُ الكَبيرِ بِالأَطلالِ وَسُؤالي فَهَل تَرُدُّ سُؤالي

أو قول لبيد في معلقته:

فَوَقَفتُ أَسأَلُها وَكَيفَ سُؤالُنا صُمّاً خَوالِدَ ما يُبينُ كَلامُها

أو حسرة امرؤ القيس:

وَإِنَّ شِفائي عَبرَةٌ مَهَراقَةٌ فَهَل عِندَ رَسمٍ دارِسٍ مِن مُعَوَّلِ

أما معنى مثل تشارك الربع وفؤاد الشاعر لحالة الخواء كالذي قاله المتنبي أو كقول أبي نواس:

وَإِن كُنتُ مَهجورَ الفِنا فَبِما رَمَت يَدُ الدَهرِ عَن قَوسِ المَنونِ فُؤادي

فذلك لا يكون عند شعراء الجاهلية. وتشبيه لبيد بن ربيعة لاستبهام الرؤية وتراوح الطلل بين التجلي والخفاء بالكتابة الدارسة التي تتجدد بكتابة أخرى تنسخها، أي كتابة على الكتابة، هذا التشبيه شبيه بما نفعله نحن قراء القصائد القديمة، حين نحول أعيننا عن متن القصيدة إلى هامشها، حيث يقبع المعنى، قال:

وَجَلا السُيولُ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أَقلامُها

هوامش وإحالات

[1]لا توجد نسخة كاملة للفيلم على شبكة الإنترنت، وإنما مجتزأ قصير معروض في اليوتيوب. صدر فيلم (انتزاع الكهرمان) في العام 1975، للمخرج السوداني حسين شريف.

[1](تفتيت العالم)، حوار للطيب صالح في السوربون، منشور في العدد التاسع من مجلة الكرمل في العام 1982.

[1]رواية (حدث أبو هريرة قال) للأديب التونسي محمود المسعدي، تم تأليفها قبل عام 1940، ونشرت كاملة للمرة الأولى عام 1973.

[1]في فيلم كـ(عفاريت الأسفلت) لأسامة فوزي الصادر عام 1996، يمتزج الشكل الأولي لفن الرواية: الحكي، بالصورة؛ ففيه تتناصّ قصص من (ألف ليلة وليلة) يرويها حلاق لزبائنه الفاعلين في أحداث الفيلم – عن الموت والجنس والحكي وتداخل العلاقات- تتناص وتتقاطع مع حيوات الشخصيات الرئيسية في العمل. القصص لا ترتبط بأحداث الفيلم بشكل مباشر وآلي في تتابع المشاهد سوى في لقطة واحدة، فبعد شجار بين الصديقين يخرجان من عند الحلاق ليعلق هو قائلا بأن علاقتهما شبيهة بعلاقة شخصيتين في قصة حكاها قبل قليل. لكنه ربما يحدث عندنا نحن مستمعي الحكايات وعند أبطال الفيلم -في المشهد الأخير يتخيل أبطال الفيلم أنفسهم بتبلبل علاقاتهم: اشتهاء كل واحد لامرأة أو أم الآخر وخفاء الأمر عنهم، بقصة تماثل منطق قصتهم: يبحث بعض الأشخاص في إحدى الليالي الألف عن زوجاتهم  وحبيباتهم ويحاولون التعرف عليهم من ملمس أقدامهم وروائحهم-  فعملية الحكي ودخولها في عالم الشخصيات المستمعة والرائية، بالإضافة للتناقض بين أسلوب الفيلم الذي يعرض حياة واقعية بفجاجتها وبضيق أماكنها وإفراطها في الفوضى، مقابل اتساع الحكايات وخيالها ومنطقها المبلبل، هو أمر مدهش وبديع. مشاهدة لاحقة للفيلم بينت لي أن هذا التمازج ليس نموذجيا؛ لكن مجرد اقترابه من ذلك هو أمر مبهج.

[1]في كتابه (تأملات حول المنفى)، وفي مقال بعنوان (شعائر مصرية)، يقرأ إدوارد سعيد الفيلم الصادر عام 1969 باعتباره نقدا سياسيا ونبوءة بالتحولات التي ستطرأ على مصر بعد النهاية المحتملة لعهد جمال عبد الناصر وبدء عهد السادات. وهي قراءة وإن أهملت الجميل مقبولة على عِلاتها.

[1]لنبدأ أولا من الوعي: يرغب وعي الفرد في الحضور والتحقق هاهنا والآن والإدراك لذلك الوجود، مستمرا ومتصلا مثل نهر لا نذكر بدايته ولا ندري إلى أي يابسة سينتهي. لكافكا أمثولة يطابق فيها معنى الوعي مبنى العمارة، ففي أمثولة سور الصين العظيم التي يرويها بنّاء مشارك؛ منزعج من كون بناء السور قد تم بشكل متقطع لا متصل؛ وأن تلك الطريقة في البناء تسببت في ترك فراغات هائلة في السور تنافي الغاية من بناءه؛ فمنها قد يتسلل العدو المجهول. وهذا الوعي الهائل المشيد على مدى قرون طويلة هو وعي الجماعة أو لا وعيها؛ حيث لكل فرد منها مساهمة فيه دون أن يتمكن من الإلمام بكافة مساهمات الآخرين. لكن وعي الفرد يرغب أيضا في الغياب والتلاشي؛ في التراجع خطوات إلى الخلف ليراقب السور ويرى النهر. ليختبر، ويسائل ذلك الحضور وجدواه: مستلقيا على السرير أو مواجها لشاشة؛ أي في حال سكون مراقبا نهر الزمن المتدفق عبر الكلمات والصور عبر استعارتي النهر والمعمار والمفاهيم التي تمثلها: الانقطاع والاتصال، الحركة والسكون يمكننا أن نقارب العلاقة بين الكلمة والصورة.

[1]يشتغل المسعدي على تمثل الإنسان في أزمنة ماضية عبر اللغة ومعان إن لم تتلاشَ فهي ضئيلة الحضور في الحاضر ضآلة حضور منابعها ومنها الطبيعة.

[1](ضو البيت بندرشاه) رواية من جزأين للطيب صالح، نشرت في السبعينات من القرن الماضي، وتحدث عنها الطيب صالح في حواره المشار إليه أعلاه قائلا: “أحاول في هذه الرواية، أن أقوم بعملية استكشاف طويلة لعلاقتنا نحن بماضينا، وحاضرنا، ومستقبلنا، عن طريق تقصي حياة على مستوى معين، وشخصيات تعرف عليها القارئ في (عرس الزين). ومن ثم أمضي على مستوى آخر، بشكل أسطوري مرتبط ببيئة معينة”. العدد التاسع من مجلة الكرمل العام 1982.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *