وهو ديوان من حوادث الشعر الدارج السوداني يمتح من النهر منذ أوان حقيبته ودوبايه، حتى مصب الحداثة الشعرية الدارجة في أواخر القرن العشرين، وتتنوع طبقاته بقصدية تقتضيها صنعة الديوان الشعري؛ متنقّلاً بين سيولة محمد بشير عتيق، وغريب الشيخ محمد ود الرضي، وغنائية إسماعيل حسن، وشجنية عمر الطيب الدوش، والتفاتة أزهري محمد علي إلى بساطة التعبير الشعبي، وهجين اللغة لدى محجوب شريف، وصورية عاطف خيري.
وبذا يقدم ديوان “غفاري” – متجاوزاً شعر الثورة إلى ثورة الشعر – منجزاً يعرض بانوراما تتخلّق في عمق النسيج الشعري اللافت للشاعر محمد الشيخ.
وهو ديوان يتجاوز أيضاً الاستهلاك اللغوي الذي وقَعَ للشعر الدارج طوال العقدَيْن الأخيرَيْن، في سبيل الوصول إلى خصوصية جمالية تتنوع مصادرها وتبني هرمها وسط أهرامات الشعر السوداني.
قصائد مشحونة بالجدل الصوري – إن جاز التعبير – لتكشف عن أبعاد العلاقات بين الموجودات والمفاهيم، فالصورة ليست بعيدة أو قريبة، وإنما هي بالقدر الذي يجعلها كاشفة عن ضمير شعري مؤرّق بالعلاقات:
“انعكاس صورتك عليْ
بِمْتَحِنْ صدق المرايات”. صـ 93 (الديوان)
أو عندما:
“سمّيت الحراز
في عرف المجاز
أبا ذر الغيوم”. صـ11 (الديوان)
أو:
“شجاع بختار أعيش الخوف
نقيض كلمة (حياة)، (اطمئنان)”. صـ26 (الديوان)
ورغم ما يعتري الكتابة من انشغال بما سميناه الجدل الصوري في قصيدة محمد الشيخ؛ إلا أنها – قصيدته – لم تفقد غنائيتها في عباب الصور. والغنائية المعنية هنا هي ما يشكل الاستفاضة في حوار الذات وصهر الوجود فيها كما يذهب الرومانسيون:
“عليك هذا السديم الفيني
يا هذا السؤال أهجس
وفك رسن القلب والحس
مستف بالهواجس أنا
ولسه تكيل ظنون وتدس!
قبل تنصيبي في عرش السؤال شاعر
أكنت تقيس مُروَّتِي سَاهِي
كنت تَجِسْ”. صـ14 (الديوان).
وهو ديوان مفرط أيضاً في إيقاعيته، ومنهمك في التكوين الموسيقي للجملة بحيث تبدو الكلمات راقصة مع صخب صوتي يملأ حنجرة المغني تطريباً:
“المطر نبشك؟
نبشني
الحنين نتشك؟
نتشني..
الوجع في الفرقة هبشك؟
ألف موت بعدك هبشني!”. صـ24 (الديوان)
تضع قصيدة محمد الشيخ اللحظات اليومية في اختبار ما هو شعري، فينقل الكلمات من سياق استخدامها اليومي إلى سياق الشعر بلا كثير عناء، إلا ما يوازي إعادة ترتيب المشهد الشعري في القصيدة:
“ولسه بضحك،
في مقالب الصحبة،
تعجبني قعدات البنات،
قطيعة تورق الخدرة
وحكاوي وشمشرة”. صـ120 (الديوان)
إن شعرية ديوان “غفاري” للشاعر محمد الشيخ، لهي امتداد أكيد لشعريات القرن العشرين السودانية، وفتح لنافذة جديدة في الشعر السوداني باللغة الدارجة، تلقي بالضوء على الوجدان السوداني في صورته الشعرية.
نًشر الديوان في 134 صفحة من القطع الصغير من منشورات دار جامعة الخرطوم للنشر 2021م وطُبع بمطبعة جامعة الخرطوم.