صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قراءة لقراءات: دحض المجاز

شارك هذه الصفحة

جاز امرؤ القيس إلى أجساد عشيقاته، أحراسا ومعشرا عليه حِراصا لو يُسِرون مقتله[i]، والرماحُ لامعة الأسِنة حالت بين المتنبي وتذوقِ ريقٍ عذبٍ كالماء[ii]، وأخبرت إحداهن شاعرها بأن يتمتع ليلته تلك فهو لا محالة مرجومٌ غدا أو مُسَيف[iii]. ومثلُ هذا كثير عند شعراء الأقدمين، أن يجتازوا نصوصا وأحكاما وأعرافا استحالت لضرباتِ سيوف وطعناتِ رِماح. والمتنبي لعله أحب امرأة من قوم ذوي مِنعة – يفترض محمود محمد شاكر أنها خولة أخت سيف الدولة الحمداني – ولذا فهو لا يلقاها إلا والسيف بينهما، وله أبيات جميلة للغاية في وصف هذه الحال، يقول مرة إن عطرَها يترك أثرا طيبا على نجاد السيف[iv]، ويصف قُبلةً كان السيفُ معيقا لانسيابها وهو بها غيرُ عليم، ويقول إن إحداهن تقطر السيوفُ دما إذا لسانُ المحبِ سماها[v]، وفي أبياتٍ ثلاثة يصف استحالة الحصول عليها ويعدد حراسها، بدءا بغبارِ الخيل وحتى الرائحة الطيبة المنبعثة من البخور[vi]، وفي بائيته الواصفة لأعرابيات شبيهاتٍ بجآذرٍ حُمرِ الحِلى والمطايا والجلابيب، يذكر أن هوادجهن سارت منيعةً على دماءِ الفُرسان المصبوبة[vii]، وهذه حُمرة الجسد والملبس تسيرُ على حُمرة الدم القانية.

أي نصوصٍ نجتازها الآن؟ القرآن كامِلاً برواية حفص عن عاصم، ترجمات ضي رحمي، رواية قَرأتَها مؤخرا، جسد المرأة محاط بحراس يقتل بعضهم بعضا، لكنك لن تعرف أيُ حارسٍ سيواجهك هذه المرة! وإن كانت نصوص غير مرئية تحجب المرئي كله أو بعضه.

أخبرني صديق متدين -نصاً لا سلوكاً- بأنه حقق إحدى صور امرئ القيس ذات ليلة، وهي الصورة البشعة لامرئ القيس وهو يضاجع امرأة بينما هي مشغولة بإرضاع طفلها[i]، هذه المرة كان عليه هو أن يجتاز نصوصا وموانعَ محكمة، ضحى بالسُور في سبيل صورة، وأورثته هذه التجربة أرقا وذنبا لا ينمحي، قلت له ساخرا بأنه دونكيخوته وأعوذ به من أكون سانشو بانثا.

في جنته وجحيمه، يدحض أبو العلاء المعري مجازات شعراء القِدم، يُدخلِ مُراسِلَهُ ابن القارح الفردوس عبر مجاز، وبمشيئة الله المتحققة والقادرة على تحويل الكلمات إلى حقائق معاينة في العالم الأخروي. فعبر آية تتحول سطور ابن القارح المنجية إلى أشجار هائلة في الجنة، في ظلالها توجد حورٌ عين وولدان مخلدون وتحتها تجري الأنهار، وهذا الانتقال والتحول ليس بهِ تجاوز للنص الديني، فهو خيال تعززه آيات وأحاديث. نعرف مثلا أن تسبيحا لعدد بعينه يُبنى به قصر للمُسَبح في جنته الموعودة، المهم تنبني (رسالة الغفران) على ذات بنية ومفارقة رواية (دونكيخوته) لسيرفانتس، يحمل ابن القارح وهو في السبعين من عمره أدبه ومكتبته إلى العالم الأخروي حيث لا مجاز، ويلتقي بشعراء تدحض تجربتهم الأخروية مجازاتهم الحسية – إبصارا وسمعا ولمسا وشما وذوقا – فما خبروه ها هنا من اللذائذ يفوق كل مجازاتهم الفانية، لا ريق الحبيبة هو هو، ولا أعناق أباريق الخمر، ولا صوت الغِناء، فابن القارح يجلب من ذاكرته شِعرَ الدنيا ليتبدد في نعيمِ الآخرة، غيرِ الموصوف ولا المُنال حتى والمُرجأ باستمرار، فالمعري -عدا مراتٍ قليلة – لا يصف لذةً بعينها قد تحققت، وإنما يقارن ماضياً بماضٍ، ففي الجنة يحضرُ النثر ويتلاشى الشِعر. فيما يحمل ألونسو كايخانو وهو في الخمسين من عمره مكتبته إلى عالم دنيوي وواقع حاضر، وفي كلا العملين يُدحَض الخيال أو المجاز، لأسباب مختلفة.

أن يكون الحس في العالم الأخروي يقظا وحادا، ولا يقبل المجاز مطلقا، أمرٌ مفهوم، وهنالك آيات وأحاديث تؤكد استحالة تخيله في الأصل، وما ذكر منه يجيء في سبيل التقريب لا غير. في مقابساته[i]، يسأل أبو حيان التوحيدي صديقه أبا سليمان المنطقي عن عِلة أن أهل الجنة لا يسأمون لذائذهم، فيجيب أبو سليمان أن من عادة الحس في الدنيا الكلال والملال، أما الآخرة فشأنها مختلف، لأن اللذائذ وإن كانت حسية فهي في حقيقتها عقلية، والعقل كما يؤكد هو لا يسأم معقوله.

يدحض محمد الأمين الشنقيطي في كتابه (منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز)، عبر حجاج منطقي في الغالب ولغوي أحيانا، أقلَّ مجازات القرآن، ويزعم متبعا درب أسلاف بعينهم ألاّ مجاز في اللغة في أصلها، وأن ما يسمى مجازا إن هو إلا أسلوب من أساليب العربية، محكوم بالإطلاق أو التقييد. ودافعه لدحض المجاز كلامي، وهو الرد على القائلين بوقوع المجاز في القرآن في آياتِ الصِفات، تنزيها لله من تصورات بعينها أنشأتها فرق المتكلمين. وحِجاجه قائم على فرضية دينية وهي التنزيه والإجلال، فالله لا يمكن أن يقول كذا أو يكون كذا، وهي مقبولة على كلٍ.

أما أبو القاسم الشابي في كتابه (الخيال الشعري عند العرب)، فيستخف بمجازات الأقدمين ويصفها بالضحالة وفقر الخيال، ويرجع ذلك لأسباب تاريخية وحضارية ولطبيعة العرب أنفسهم. وأقواله مقبولة أيضا على عِلاتها، ككل نقدٍ أدبي.

سئِم المعري الشعر في مرحلة بعينها من حياته، ففي مقدمة ديوانه (سقط الزند) يقول: “والشِعرُ للخلد مثل الصورة لليد يُمثلُ الصانع ما لا حقيقة له، ويقول الخاطر ما لو طولِب به لأنكره”. طلب المعري الحقيقة وهو أعمى، والعِميان موسوسون بالعقل رغم افتقادهم لحاسة ينظر إليها كمبتدأ للتصور والفكر.

صديقي المتدين في الأعلى، يرفض أدباءً بعينهم وعلماء بلاغة ولغويين، فقط لأن عقيدتهم لا تماثل عقيدته، فهو يرى أن تنظيرهم في اللغة باطل لأن عقيدتهم كذلك، وأن هنالك تفاسير بعينها وتصورات هي الحق، لكنه متسق، فهو لم يكتفِ بالمجاز، وإنما سعى لتحقيقه، وقد كان.

رغم أن ابن القارح ذكر في غيظ قصة ادعاء المتنبي للنبوة في بدايات رسالته إلى المعري، وهي رسالة ملأى بذكر المجدفين من الشعراء، إلا أن متن (رسالة الغفران) وهو محاكاة ساخرة للعالم الأخروي، يغفل مصير المتنبي، فلا هو في الجنة ولا النار. في الجزء الثاني من الرسالة والذي يتضمن رده على ابن القارح يدافع المعري عن المتنبي بشدة، ويذكر رواية مغايرة لتلقيب أحمد بن الحسين بالمتنبي، لكن رغم سَوْقه لأحكام فيما يتعلق بما اعتقده شعراء مثل أبي نواس وأبي تمام وآخرين من المحدثين، فإنه لا يصرح بشيء بشأن المتنبي.

متن الرسالة يغفل مصائر شعراء كثر، ففردوس المعري وجحيمه معدان لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام، ولهذا مبرر لغوي وتاريخي وجمالي، فالرواية الصحيحة لقصائدهم ونسبة بعضها هي موضع تساؤل المعري، فهو يسأل الأقدمين على لسان ابن القارح عن قصد استخدامهم لمفردة معينة من غريب الكلام، أو عن صحة نسبة بعض الأبيات أو القصائد إليهم.

إذن، فالانشغال اللغوي فيما يلي إعراب أبيات أو معاني مفردات يطغى على الانشغال بمحاكمة الشعراء عبر أقوالهم، يجيء ها هنا تساؤل آخر: هل كانت رسالة ابن القارح دافعا من الناحية الأدبية والجمالية لكتابة رسالة الغفران؟ المقارنة بين الرسالتين لا تعزز هذا الاحتمال، فتعقيد العالم المتخيل وثراؤه وحيل السرد المتبعة في أعظم عمل نثري باللغة العربية لا يمكن أن تكون وليدة حادث عرضي كرد على رسالة، إنه عالم مشيد عبر زمان طويل ومنبعه ذاتي. الرد هو في الجزء الثاني من الرسالة، وقد يكون في ذلك سبب آني: اختبارا لعقيدة المعري ومسائلة لها، وفي ذاك الجزء يقول المعري “وإذا رجع إلى الحقائق، فنطق اللسان لا ينبئ عن اعتقاد الإنسان، لأن العالم مجبول على الكذب والنفاق”.

نحن نعرف أيضا أمرين، أولهما معاناة المعري من اتهام معاصريه له بالزندقة وثانيهما نظرته للشعر التي طالها التغير بتقادم عمره، فهو يتبرأ من أبيات من شِعرِ شبابه لأن بها “مغالاة في مدح الآدمي بصفات هي لله”، ويؤلف كتابا يبرئ فيه نفسه من تعسفهم في تأويل شعره، ويدحض فهمهم، ويقدم آخرَ قريبا من الدين.

إن (رسالة الغفران) يمكن قراءتها من الناحيتين، يمكن للمنتقصين أن يجدوا فيها ما يعزز اعتقادهم في المعري، وللمتعصبين أن يجدوا في الثناء المطول على الله والصادق لمن يستبين أملا في نجاة المعري. لكن هذا ليس ما يهم، فالمعري أولا علمنا أن الإيمان والكفر أمران أكثر تعقيدا من التعبير عنهما بالكلام، وبالنسبة لمن ولدوا تحت سلطة نص ديني ممتد في الزمان فإن الفكاك بالغ الصعوبة. فالجسد كله محاط بذلك النص، ولكي يتم الخلاص يستلزم الأمر استبدالا للجسد. ما يهم هنا أن الرسالة بحق معجزة في اللغة والخيال، وهي نص تأسيسي كمقام دونكيخوته في الرواية الأوروبية، فكلاهما ينبع جوهر خيالهما من القراءة، فجنة المعري مشيدةٌ لذائذها من مزيج من لذائذ شعراء الدنيا الطاغية حد التعبير عنها شعرا، ومن النعيم القرآني المعد للمؤمنين[i]، وإن أردنا السخرية يمكننا أن نوغل في المقارنة باتخاذنا للمعري رمزا، فهو كما يروى كان زاهدا في لذائذ الدنيا، ويجزم البعض-وأنّى لهم أن يعرفوا؟- أنه ما جرب لذة قط، إنه يقارن بين متوهمين: نصوص الشعراء والنص القرآني، بلا أي مرجعية فالجسد ملغي، ولعله ظن الفردوس هكذا.. أن تكون بلا جسد. فيما دونكيخوته يتغلب المقروء والمتخيل عنده على ما يفترض أن يكون معاشا وحاضرا.

تساءلت مرة عن السبب في الإفراط في اللذائذ الحسية وكمالها المتوهم وإغفال تلك الذهنية، ناسيا لغفلتي أن الرسالة نفسها كنص هي اللذة الذهنية التي يقدمها المعري لنا، وأن ابن القارح لم ينصرف إلى موضعه في الجنة ويخلو بحوره إلا بعد أن أكمل جولاته في الحوار مع شعراء الجنة والجحيم، فهو قد سأل ربه أن يمتعه بأدبه في دنيته وآخرته، ويكون له ذلك، فبعض شعراء الجنة أنستْهم أهوال القيامة قصائدهم، أما من كان في الجحيم فأغلبهم عاجز عن الرد لما هو فيه من العذاب.

لقد أحب المعري المتنبي، وأنا أحب المتنبي خالصا، وأحبه ممزوجا بمحبة المعري له، وعنايته به في شرحه لأشعاره، ومعاتبته له في معانٍ قالها، ولا أحد أعلم من المعري بحقيقة المتنبي، ولهذا أغفل الحكم عليه، ودافع عنه في وجه مزدريه، وطمح لأن يكون مثله في الشعر، وهو وإن فاته ذلك فما فاته مقامه العظيم في النثر.

هوامش وإحالات

[1]قال امرؤ القيس في معلقته:

تجاوزتُ أحْـرَاسـاً إِلَـيْـهَـا وَمَـعْشَراً     عَـلَّـي حِـرَاصـاً َلوْ يُـسِـرُّوْنَ مَـقْـتَـلِي

[1]قال المتنبي من لاميته في مدح سيف الدولة:

ومَا شَرَقي بالمَاءِ إلاّ تَذكّراً     لمَاءٍ بهِ أهْلُ الحَبيبِ نُزُولُ

يُحَرّمُهُ لَمْعُ الأسِنّةِ فَوْقَهُ          فَلَيْسَ لِظَمْآنٍ إلَيْهِ وُصُولُ

[1]قال جران العود النميري:

وَقُلنَ تَمَتَّع لَيلَةَ اليَأسِ هَذِهِ    فَإِنَّكَ مَرجومٌ غَداً أَو مُسَيَّفُ

[1]قال المتنبي من لامية في مدح سيف الدولة:

وَقَد طَرَقتُ فَتاةَ الحَيِّ مُرتَدِياً    بِصاحِبٍ غَيرِ عِزهاةٍ وَلا غَزِلٍ

فَباتَ بَينَ تَراقينا نُدَفِّعُهُ           وَلَيسَ يَعلَمُ بِالشَكوى وَلا القُبَلِ

ثُمَّ اِغتَدى وَبِهِ مِن رَدعِها أَثَرٌ     عَلى ذُؤابَتِهِ وَالجَفنِ وَالخِلَلِ

ويعني بالصاحب سيفه.

[1]قال المتنبي من قصيدة في مدح عضد الدولة بن بويه في فارس:

كُلُّ مَهاةٍ كَأَنَّ مُقلَتَها    تَقولُ إِيّاكُمُ وَإِيّاها

فيهِنَّ مَن تَقطُرُ السُيوفُ دَماً   إِذا لِسانُ المُحِبِّ سَمّاها

[1]قال المتنبي في أولى قصائده في مدح سيف الدولة:

حَبيبٌ كَأَنَّ الحُسنَ كانَ يُحِبُّهُ     فَآثَرَهُ أَو جارَ في الحُسنِ قاسِمُه

تَحولُ رِماحُ الخَطِّ دونَ سِبائِهِ    وَتُسبى لَهُ مِن كُلِّ حَيٍّ كَرائِمُه

وَيُضحي غُبارُ الخَيلِ أَدنى سُتورِهِ  وَآخِرُها نَشرُ الكِباءِ المُلازِمُه

[1]قال المتنبي من قصيدة في مدح كافور الإخشيدي:

سَوائِرٌ رُبَّما سارَت هَوادِجُها    مَنيعَةً بَينَ مَطعونٍ وَمَضروبِ

وَرُبَّما وَخَدَت أَيدي المَطيِّ بِها   عَلى نَجيعٍ مِنَ الفُرسانِ مَصبوبِ

[1]قال امرؤ القيس في معلقته:

فـمِـثْـلِـكِ حُـبْـلَـى قَـدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ      فَـأَلْـهَـيْـتُـهَـا عَـنْ ذِي تَـمَـائِـمَ مُـحْــوِلِ

إِذَا مَـا بَـكَـى مِنْ خَلْـفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ        بِـشَـقٍّ وتَـحْـتِـي شِـقُّـهَـا لَــمْ يُـحَـــوَّلِ

[1]المقابسة الخامسة والثلاثون (في عجيب شأن أهل الجنة وكيف لا يملون النعيم والأكل الخ)، كتاب (المقابسات) لأبي حيان التوحيدي

[1]إن الجسد الأخروي مشبع بلذة مبهمة ولا يمكن وصفها إلا عبر الإحالة لنقص التجربة الدنيوية في تجليها الأبهى: شعرا.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *