صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

لعبة اكتشاف الشيء بالشيء في (تلك الأشياء)

شارك هذه الصفحة

النجمُ نافذةٌ على أبدٍ     ويدٌ تلوحُ في السمواتِ

تروم هذه المقالة محاولة دراسة ديناميكية العلاقة بين (الداخل / الخارج) (الذات / الموضوع) عبر السفر الشعري الضخم (تلك الأشياء) للشاعر الراحل في مارس من العام 82 في القرن الفائت، محمد المهدي المجذوب، وهو ديوان يلتزم صرامة القصيدة العمودية، متشظية الموضوعات. ورغم أن تجربة شاعر كالمجذوب تجربة تتمرد على تمردها ذاته، إذ لا يمكن دراستها بشكل تصاعدي خطي؛ فسرعان ما يتم الارتداد عن أسلوب وسمات إلى أخرى. وينفتح المشروع الشعري لديه على مطلق المراحل الزمنية التي مر بها الشعر العربي، فتنفتح التجربة كأنها انبعاث ضوئي من كوكب بعيد يملأ ضوؤه مدى العين أينما وقفت في لحظة من الكون الشاسع. نلحظ أنَّ تاريخ قصائد ديواني (نار المجاذيب) و(تلك الأشياء)، كما هو موجود على وجوه القصائد يكاد يكون واحداً (الثلاثينيات وحتى الستينيات) لكن القصائد في الديوانين تعرب عن اختلاف عميق بينهما رغم اشتراكهما في الشكل العمودي للقصيدة العربية. تبدو القصائد في (تلك الأشياء) أكثر حركية وعمقاً، بينما في (نار المجاذيب) أكثر التصاقاً بالخارج الاجتماعي والسياسي والديني.

إن الحركة التي تعتري القصائد في (تلك الأشياء) يصعب اقتناصها حيث تتموج القصائد لا على نسق محدد؛ بل تتحرك مفتوحة في قصرها وطولها وعلى اختلاف طبائع مواضيعها؛ لكن ما يبدو من خلال الملاحظة أن هناك حركة تنتثر من خلال القصائد التي عادة ما تبدأ من الوعي الواقعي أو الحياتي البسيط كقصيدة (تهنئة بالعيد) والتي يعبر عنوانها عن مقصدها:

بني نقر حياكم العيد واسلموا

ليسلم دين قيم وذمام

تقاكم على النيل المقدس نخلة

رؤوم وظل طيب وغمام

أمامكم المجذوب ضوء ورحمة

وليس له غير النبيِّ إمام                                             (تلك الأشياء ص 148)

ولكن سرعان ما يجد القارئ نفسه مقذوفا في فوهة انفجار السؤال المضمر حينما ينفجر في القصيدة سؤال الشعر مدويا ومنبعثا في شكل موجة تعلو القصيدة وتلقي بظلالها عليها، في محاولة القصيدة تحريك اليومي والبسيط والاجتماعي باتجاه الذات المتفاعلة مع الخارج:

تحملت عبئا من تراثي غرامه

ثقيلا يؤود الأوفياء غرام

ينادمني شعري وفي الشعر نشوة

عواقبها محذورة وعرام

سقاني وألهاني فهل ظن كرمه

شفاني وهل يشفي العفاء جهام

لقيت به في زحمة العيش أدمعا

وبدد قلبي في القلوب زحام

أحدث فيه الصمت والصمت شاطئ

مجاديف أوتاري عليه ركام                                             (تلك الأشياء ص 149)

إنه نوع من الالتفات إلى مأساة الذات الذي تديره القصيدة، جاذبة الموضوع من الخارج كالمغناطيس، عاكسة غربة الداخل وانكساره تجاه الخارج، حيث يصير الشعر نشوة محذورة العاقبة وحاجة متكررة إلى شفاء النفس القلقة، والتي لجأت تحدث وجود الصمت عن وجودها وتنتهي القصيدة المتنازعة وهي تقدم اعتذارها للخارج الذي بدأت منه:

سلام عليكم لا تحبون رؤية

رأيت فضوء البابلي ظلام

تذكرت نصحا طاهر الكف رده

 شبابي وحب الناصحين خصام

تلفت بعد الشيب اجتاز أدمعي

إليكم ودمع النادمين حطام                                              (تلك الأشياء ص 149)

وبإجالة النظر في قصائد أخرى نرى تواتر هذه الحركة من الخارج إلى الداخل حيث تحمل القصيدة على عاتقها دحرجة الموضوع باتجاه الذات مرتطمة بها ومولدة للأسئلة حيث تنفتح هوة تناقضات العالم والذات. هكذا ستبدأ قصيدة (حب وصلاة)- 1948:

هش فستانها المشجر ممشوقا يريني أناقة وابتكارا

تملأ الكوب جائشا وتصفيه وتبدي من صفوه ما توارى

فض أعماقها سفور فما نلقي ستارا أو خشية أو فرارا

ينعت في يدي تكسر عينيها تبوحان بهجة وانبهارا

صاح في معصميك عسجدك الشادي بريقا لاعبته مستطارا

وذبحنا حياتنا وانتفضت بعثا بلوناه لذة وانهيارا                         (تلك الأشياء ص 12)

إنها حالة وصف بها يتحد موجودان خارجيان في اكتشاف شعري مدعوم بانزياحات تخرج من طور التشبيه وتستعصم بالاستعارة في تقديم المعنى، حيث تتخذ المرأة صفة الكوب يانعا في يد العاشق يلي ذلك اتحاد زمنين (زمن الحياة.. زمن البعث) في مقابلة تزيد كثافة المحمول الشعري بين (اللذة والانهيار) حيث اللذة تمثل زمن الحياة والانهيار يمثل زمن البعث. ويلقي النص في ما بعد بالخارج تجاه الذات مولدا تموجات الأسئلة، كنتيجة لارتطام الخارج بالداخل باذرا السؤال في تربة القصيدة:

أأنا الجامح الجسور الذي خالف رأي الشراع شاف منارا..؟           (تلك الأشياء ص12)

ينبذر السؤال كاشفا عن روح تتأرجح بين قلق المعرفة وطمأنينة الركون إلى المتعارف عليه، ومن ثم يتمدد:

وقضائي الذي صنعته مصير دار عصف الرحى عليه ودارا       (تلك الأشياء ص12)

وينفتح الشعر على جدلية شائكة العلاقة بين التسيير والتخيير حجبا وافتضاحا بين شطري البيت بانيا علاقة رياضية من خلال جملة البيت، فالقضاء من ناحية هو صناعة الذات ومن أخرى فهو المصير المنعكس من الفعل اليومي للذات نفسها:

وتمضي القصيدة في محاولة الإجابة؛ ولكن أية إجابة تلك التي تفضي إلى سؤال والسؤال يفضي إلى إجابة، في فعل لا يتوقف عن الإثارة الذهنية والوجدانية لسؤال الحياة. يقول:

أنا مشكاة نورك الخالد الباقي أعاني السؤال والأخبارا

كان شوقي الطريق تفسحه الشمس أكانت تشع ضوءا معارا          (تلك الأشياء ص13)

تتمدد القصيدة في تموجها وحركتها مخلخلة لحظات السكون والطمأنينة في داخلها، وتتموج اللغة وكأنها تشع من فرط تمردها ومن ثم تعود إلى الخارج مرة أخرى، والذي تتمثل فيه لحظة ضعف الذات:

رحلت رفقة وأبصرت نجما باسما خلف غيمة يتوارى

ساهم في القطار أسلمه السواق أرسانه فصاحا وعارا

أيهذا القطار جانب قرى النيل سرابي زادها والقفارا

ربة الحب كاشفة فمزقت الوصايا مسابحا وانكسارا                   (تلك الأشياء ص13)

هكذا ترحلت اللغة لتعود إلى سردية الحياة التي بدأت منها في جرأة تستخدم المفرد العادي وتعيد إنتاج طزاجته في قصر اللغة الشعرية. إنها لغة مفتوحة القاموس لا تتورع عن استخدام مفردة (السواق) يومية الاستخدام، وهي لغة تكاشف نفسها وتنحت طريقها نحتا بارعا. نرى هذه الحال (الانتقال من موصوف خارجي إلى الداخل) في قصيدة (الفقراء 1947).

تحاول هذه القصيدة وهي في مستهل الوصف أن تنثر وتيرة السؤال من خلال تكرار البيت:

أي معنى يلوح وهو خفي بين تلك الحروف والأسماء..؟            (تلك الأشياء ص348)

فتعلن تمهيدها للحظة التعانق بين الخارج والداخل من خلال تكرار البيت على مرتين في النصف الأول من القصيدة ومحاولة تكثيف السؤال المتكون بصيغة الحيرة:

أإذا جابهوا الحقيقة هابوها على طول نية وابتغاء

أم ترى يذهلون عنها إلى غيب جلاها وردهم عن لقاء

أم ترى يزهدون جنة رضوان دعتهم إلى نعيم البقاء                 (تلك الأشياء ص349)

تتوالى هذه الأبيات بعد وصف حال الفقراء:

خيبوا وافد الربيع وردوه ندي الخطى إلى الصحراء

يقطعون الضحى سرابا وفي الليل يهيمون في دخان المساء        (تلك الأشياء ص348)

تمر القصيدة بحالين انتقاليين متداخلين في نصفها الأول حيث يختلط وصف الحال بالحيرة السائلة إلى أن تتدحرج الأسئلة باتجاه الذات ملتفتة إليها في نصفها التالي وهي تحاول تقديم إجاباتها، ولكنها ليست إجابات ساكنة تطفئ حرارة المشهد الشعري.. إجابات تشع بالأسئلة المضمرة والمستبطنة في داخلها مستغنية عن صيغ الاستفهام والتعجب وعلاماته اللغوية، بخلق علاقاتها الشعرية بين المتناقضات.

فقراء الهنود إني منكم في سكوني ووحشتي وامحائي

مثلكم غير أنِّي أعبد الأرض وما في جنانها من رياء

غير أنِّي غرست جسمي في الرجس وصالحت ظلمتي وضيائي

يئس الخير في جوانحي السفلى تَشَهَّى طهارة الأنبياء

إن إشراقة الصباح هي الرؤية ألا تشهدونها في امحائي

إن شُحَّ النفوس أورث إحصان العذارى وعفة الأتقياء

إنْ تكن طاعتي لأجر فخير من صلاتي خطيئتي وابتلائي

أعرف اللذة المبيدة والشوق ولذع الندامة البكماء            (تلك الأشياء ص349)

تتمثل إشراقة الصباح كقوة معرفية تصل إلى حد الرؤيا، لكن الضوء الذي يفتح نافذة الحس الأولى يطفئ صاحب الرؤيا نفسها؛ كما تتجلى بوجه من الوجوه صورة الصوفي الملاماتي حيث ترتفع الذات الإنسانية من موقف الطاعة مقابل الأجر إلى مقام الابتلاء بالمحبة التي لا تدرُّ أجرا غيرها. وينكر النص التقابل الثنائي عن طريق المصالحة بين المتناقضات وبناء علاقاتها على الخروج من فخ تناقضها.. ولكن تعود القصيدة ثانية إلى الخارج الذي بدأت منه:

واحتمالي مكاره الوطن القاسي ومسعاي حائرا وادعائي       (تلك الأشياء ص349)

ويقر النص بتساوي الحالين الزهد والرغبة:

 غاية الحالتين يأس وخوف وأعاليل كاذبات الرجاء      (تلك الأشياء ص350)

إن الشعر في النماذج المذكورة يندمج في (الخارج/الموضوع) ويتحرك به باتجاه الذات مرتطما بها لتكشف القصيدة عن عوالمها الكلية.. فالموضوع يوجه ضربته باتجاه الذات المؤرقة بتناهيها وفرادتها واتساعها وبحريتها التي تسلبها إياها قسوة ما يحيط بها من عالم. ويقع الشعر في مهوى الثنائية (الذات/ الموضوع) (الداخل/ الخارج) ليتجلى كوسيلة بينهما لا مناص. ويؤثر الموضوع على الذات بقدر ما تؤثر الذات على الموضوع في تفاعل مستمر. ولعل للعنوان (تلك الأشياء) دلالة مستبطنة للوعي بأطراف الثنائية (الخارج/ الداخل) (الذات/ الموضوع)؛ فكلمة شيء بالمعنى الأنطولوجي هي الكلمة التي تجرد لنا ما هو خارج عن ذواتنا.. فلا بد – إذن – أن تكون قصائد الديوان مولعة بخلخلة الثنائيات من داخلها. وإن القصائد إذ تمارس لعبة اكتشاف الشيء بالشيء تعلن عن تمردها عن أحاديات الرؤية والنظر واللغة أيضا وتستند إلى كثافة قاموسية لا تضاهى بالنسبة إلى فضاءي زمانها ومكانها.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *