بعد نحو 8 سنوات من الرهان على سياسة القوة الحاسمة، اضطرت الرياض لتحريك رقعة الدبلوماسية ناحية عدوتها طهران، في خطوة قد تذيب جليد الخلاف بينهما، لكنها، في ذات الوقت، تفتح مضمار الأسئلة أمام حلفاء بذلوا الدماء والجهد من أجل حرب تم الترويج إلى أنها “مقدسة”، ومن بين هؤلاء كانت الخرطوم التي سيضعها قرار المملكة العربية السعودية بالتقارب مع إيران أمام أسئلة ملحة، فهل ستقرر سحب قواتها من اليمن؟
منذ عقود خلت، كان لليمن حضوره في الذاكرة السودانية، ومرتبط على الدوام، بـ (دكان اليماني) وبالتعليم والتبادل الثقافي والموسيقار اليمني ناجي القدسي، الذي عاش في السودان وأنتج عشرات الألحان لمغنين سودانيين، فضلا عن مأثرة المربي السوداني، الشيخ القدال سعيد القدال، الذي تنسب إليه نهضة التعليم باليمن في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية.
لكن أمر هذه الذاكرة الثقافية تبدل في ثماني السنوات الماضية، وذلك في أعقاب الحرب المندلعة في الأراضي اليمنية بواسطة (التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن)؛ إذ شارك في هذه الحرب مقاتلون سودانيون من قوات الدعم السريع والجيش السوداني منذ انطلاق (عاصفة الحزم) عام 2015م.
وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الجنود وصل إلى 30 ألف جندي، أغلبهم من قوات الدعم السريع، قاتلوا بأعداد متناقصة في جميع مراحل تطورات الحرب اليمينة، بدءا من (عاصفة الحزم) إلى عملية (إعادة الأمل) ووصلا إلى مرحلة عقد الاتفاق السعودي الإيراني، الذي أبرم أمس الأول، بعد 7 سنوات من قطع العلاقات بينهما. ويتوقع المراقبون أن يكون لهذا الاتفاق تأثيره على السياسة الداخلية السودانية ضمن تأثيراته على دول الإقليم.
وفي الواقع، قد يساعد الاتفاق الإيراني السعودي في مسارعة قائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو، لإكمال دمج قواته في الجيش السوداني، من واقع أن هذه القوات فقدت جدواها الاقتصادية وستكون عبء عليه متى ما انعكس هذا الاتفاق على تحقيق سلام في الداخل اليمني.
وتكونت قوات الدعم السريع بتشريع من برلمان حكومة الإنقاذ في يناير 2017م للقتال إلى جانب النظام. لكنها بنهاية 2018 أعلنت عن استقلاليتها السياسية في خطاب شهير ألقاه دقلو أعلن فيه التزامه بدعم ثورة ديسمبر المندلعة حديثا.
ومنذ ذلك التاريخ يشار إلى إن قوات الدعم السريع لديها نفوذ سياسي واقتصادي واسع، وتكسب إيرادات ضخمة من مشاركة قواتها في الحرب اليمنية، وتجارة الذهب، والمشاريع التجارية الأخرى.
لكن من هنا، من مراحل مشاركة الجنود السودانيين، أخذت الذاكرة المشتركة بين السودان واليمن تحمل شيئا آخرا غير الثقافة وألحان ناجي القدسي وذكريات أستاذ علم النفس اليمني، الدكتور نزار غانم، الذي كتب كتابا بخصوص الذكرى العزيزة، ونحت مصطلحه (السونامية) للربط بين البلدين.
وتاريخيا، يشير التعداد السكان لعام ١٩٥٦م إلى أن العدد الكلي لليمنيين في السودان بلغ (٥٤٥٣) يمنيا و(٧٢٠) حضرميا و(٤١) عدنيا، ما يؤكد متانة الروابط بين البلدين في العصر الحديث، وقد أبرمت رسميا اتفاقية بين اليمن والسودان عام ١٩٦٩م للتعاون في مجالات الزراعة والاتصال، وتم افتتاح أول سفارة لليمن بالخرطوم في العام ١٩٧٥م.
وفي العام 2015م، اتخذ الرئيس المعزول عمر البشير قرارا بمشاركة قوات سودانية في حرب اليمن لصالح دعم التحالف السعودي الإماراتي بمزاعم حماية الحرمين وإعادة الشرعية إلى عبده ربه منصور هادي (حليف الرياض وأبو ظبي، في ذلك الوقت) ودحر جماعة عبد الملك الحوثي اليمنية المدعومة من إيران.
ومضى نظام البشير لدعم تحالفه مع السعودية، وأعلن عن قطع العلاقات الديبلوماسية مع إيران عقب هجوم على البعثة الدبلوماسية السعودية في العاصمة الإيرانية (يناير2016).
وضمن تداعيات قرارات عمر البشير، يتبادل البلدان، في الوقت الحالي، التوابيت والقتلى والجرحى وآلاف المفقودين في حرب تجد من يشعلها، ولا يبدو أن الأطراف، الداخلية والخارجية، ترغب لها في نهاية عاجلة.
ففي حين وافق نظام عمر البشير على إرسال جنود سودانيين إلى اليمن، لم تفعل ذلك دول مثل باكستان ومصر، رغم ما لها من ارتباطات استراتيجية بالسياسات السعودية، الأمر الذي قاد إلى إدانات أخلاقية وسياسية لقرار البشير، بنيت هذه الإدانة على نقد التبعية البادية وسوء تقدير النظام، وكذلك على التشكيك، ابتداء، في الرواية المهيمنة بشأن الحرب، وربما أصبحت هذه الإدانة جزءا من وقود الثورة التي أطاحت به في أبريل 2019م.
لكن، مع تلك الإدانة، لم تثر مسألة عودة الجنود السودايين من اليمن بشكل جدي إبان حكومة رئيس الوزارء الانتقالي، لما قبل الانقلاب، د. عبد الله حمدوك، وانشغل السياسيون بقضايا أخرى كانوا يرونها أكثر إلحاحا.
وبعد نحو 4 أشهر من اختياره رئيسا للوزراء، قال د. عبد الله حمدوك إن الحكومة الانتقالية في السودان “ورثت الانخراط في الأزمة اليمنية من نظام الرئيس المخلوع عمر البشير… وأن حكومته قادرة على سحب جميع القوات السودانية من هناك”.
وفي العام قبل الماضي قال رئيس المجلس السيادي، وقتها، عبد الفتاح البرهان، إن الوجود العسكري الحالي لبلاده ضمن قوات التحالف العربي هدفه إعادة الشرعية في اليمن، وإن بلاده مع الحل السياسي للأزمة اليمنية وإعادة الهدوء فيها، وأن هذا الأمر لن يتم بمعزل عن رؤية الحل السياسي، وأشار إلى أن بقاء المقاتلين السودانيين أو عودتهم مرهون بما يمكن أن يتحقق واقعيا بشأن الحل السياسي، بما يحقق المصلحة التي أدت إلى تكوين التحالف.. أما الآن فما زال البرهان في صمت لم يمكنه حتى من رفض أو الترحيب بالاتفاق السعودي الإيراني.
رئيس هيئة تحرير صحيفة الحداثة