لعل من المعلوم أن السودان الحديث (منذ استقلاله عن المستعمر 1956) من البلدان التي لم تستقر مذ حينها سياسيا، بل واجتماعيا واقتصاديا على طريقةٍ يرى لها نموذج البلد الذي يسعى بقوة صوب مواكبة حركة التقدم الحضاري، والتطور والتمدن والازدهار على كافة الصعد، وأكثر من ذلك، إنما ظلت حبيسة إعتقال دائرة (سميت بالشريرة في الوسط السياسي والصحفي والأكاديمي أحيانا)، قوامها نظام ديمقراطي إجرائي ينسفه انقلاب عسكري، سرعان ما تعصف به انتفاضة شعبية، وهكذا دواليك بالتوالي، ورفضا لذلك، ومطلبا وإرادة لمعالجة هذه الوضعية قامت أكثر من ثلاث موجة احتجاجات جماهيرية للانتقال الديمقراطي (انتفاضة أكتوبر 1964، انتفاضة أبريل 1985، والثالثة: ثورة ديسمبر 2018).
وبالطبع لكل حركة احتجاج سياقها، وظروفها، وآلياتها، وعوامل نجاحها أو فشلها، ولكن يبقى أن التخطيط المنظم، والرؤية الواضحة، والآليات الفاعلة من أهم متطلبات تحقيق تلك الأهداف التي قامت على أساسها هذه الانتفاضة، أو تلك الثورة بالمعنى العمومي الدارج.
من هذا المنحنى سنحاول تتبع سؤال نظرية التغيير؛ “لأنها من الطرائق الأكثر فعالية لتحقيق الأهداف المرجوّة، وطرحها حلولا فعالة لتنظيم هذه العملية ضمن برامج دقيقة ومفصّلة تنظم عملية التغيير المنشود”، وأسئلته الاستراتيجية، وشروط الانتقال الناجح، ممكنات نقل حراك الاحتجاج الجماهيري الراهن من مرحلة الغضب الشعبي العفوي لإحداث تغيير ما نحو مرحلة التخطيط المنظم للقيام بثورة تغيير حقيقي، جذري وشامل. كل ذلك سعيا لاستجلاء أسئلة الحاضر وأجوبته استشرافا بمستقبل هذا الحراك الأطول نسبيا.
يقصد بنظرية التغيير، وبالإنجليزية Theory of Change أداة استراتيجية تستخدم لفهم وتصور كيفية تحقيق الأثر وقياسه ومتابعته، حيث تعد نظرية التغيير إحدى الطرق الهامة للأفراد والجماعات وغيرها، ترغب في إجراء تغيير ما أو تنفيذ برامج، أو أي عمل آخر، والسعي الحثيث نحو إيجاد أثر ملموس، وقابل للقياس على أرض الواقع. ومما تتميز به نظرية التغيير عن غيرها من الأدوات الاستراتيجية، هو أنها تتعامل بشكل أكبر مع الواقع، وتظهر بوضوح العقبات والسياقات والمتطلبات التي ستواجه طريق التغيير المطلوب.
كما تتميز أيضا– وهذه مكوناتها الستة- بالبدء بالأثر المرجو تحقيقه أو الهدف النهائي (مثل أن يصبح السودان من نماذج الديمقراطية في العالم)، وتنتقل منه إلى شروط أو متطلبات حدوث هذا الأثر، بحيث تتسلل الأسباب المنطقية وصولا إلى البرامج تجعل الشروط واقعا ملموسا، ثم المؤشرات، وهي أدوات قياس تحقيق شروط الأثر المرغوب، ثم الافتراضات، وهي المعتقدات حول لماذا سيتحقق الأثر بعد تحقيق الشروط، ومن ثم الموارد والمدخلات، وأخيرا، مسار التغيير، وهو المخطط الذي يربط يوضح العلاقة بين كل مكونات النظرية.
تشير الدراسات إلى صعوبة تحديد التاريخ الأول لاستخدِم مصطلح (نظرية التغيير) بشكل دقيق، ولكن يتم التثبيت على أنها بدأت مع بداية التسعينيات، ومن ثم بدأت تكتسب شعبية أكبر تدريجيا لعدة أسباب، أهمها: قدرتها على تحديد المشكلات الأساسية، وأسبابها الجذرية وعواقبها، فضلا عن البحث المنظم في النتائج قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل للتدخلات اللازمة ومستوياتها وأثرها وتأثيرها حيال النتائج؛ سواء كانت ناجحة أم فاشلة أو محدودة النجاح.
وبالتالي إنها نظرية منظمة منضبطة تعمل على توضيح شامل لكيفية حدوث التغيير المطلوب إحداثه في سياقٍ معين، ويركز خصوصا على الربط بين الأنشطة التي نؤديها لإحداث التغيير وبين الكيفية التي تؤدى بها هذه الأنشطة وسلسلة النتائج الناجمة عنها؛ لتحقيق الأهداف المرجوّة.
وتعبّر نظرية التغيير عن خطة استراتيجية شاملة لتحليلات دقيقة (تحليل SWOT)، ومستوعبة كافة المتغيرات الماثلة والمحتملة، مع وضع التوقعات والمخاوف بشأن مستويات النتائج النهائية والمرحلية. وعادةٍ ما يتم وضع نظرية التغيير عند التخطيط، وحتى في مرحلة التقييم والمراقبة، كما أن فائدتها تكمن في تطوير أسئلة التقييم وتحديد الفجوات والمؤشرات اللازم رصدها ومتابعتها.
ثورة ديسمبر..أسئلة حول التغيير المطلوب
من أهم مداخل عمل تقييم موضوعي لحراك (ثورة ديسمبر 2018) في السودان، هو تبادر سؤال نظرية التغيير وأسئلته الاستراتيجية، وحقيقة وجودها في رؤية وأنظار قوى الاحتجاج الجماهيري وقاداتهم؛ هل فعلا- في مرحلة ما من مراحل حراكنا- وضعنا نظرية ما حول طبيعة التغيير المطلوب إحداثه على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، على المدى القصير والبعيد؟ وما مدى أهمية طرح سؤال نظرية التغيير وتتبعها على مستوى مشروع جماهيري ضخم بحجم تغيير جذري حقيقي وشامل على أربعة مستويات التغيير المعلومة (التغيير على مستوى الفرد، ومستوى العلاقة، والثقافة، والهيكلية)، وإلي أي مدى يمكن أن يسهم حضور هذه النظرية في تحقيق هذه الثورة المنشودة؟ بل هل نحن نحتاج إلى هذه النظرية من الأساس على هذا المستوى من المشروع (على اعتبار أن ثورة ديسمبر مشروع تغيير ثوريّ)، وإذا سلمنا بضروريتها، أين تحليلنا لنقاط قوتنا وضعفنا، والفرص والمهددات المتعلقة بتحليل (PESTEL)، وهو اختصار بالأحرف الإنجليزية الأولى للعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية والبيئية والقانونية، ومن يقوم بصياغتها ويضعها؟ ولماذا نضعها، وفي أي مرحلة من مسيرة التغيير المطلوب؟
بشكل عام، يمكن القول إن مشروع كالعمل بإرادة شعبية لإحداث تغيير ثوريّ شامل وجذري على تلك المستويات الأربعة التي أشرنا عليها أعلاه أقل ما يحتاج إليه ويتطلبه بشدة، هو ضرورة وجود رؤية استراتيجية شاملة وواضحة ودقيقة وعملية، قائمة على تأطير مفاهيمي منهجيّ رصين مستند على معطيات المشهد العام بالبلاد، وعلى كافة الأصعدة، ذلك أن طبيعة المشروع بهذا الحجم يصعب تحقيقه وبلوغ نهايته المقصودة دون توافر طريقة تفكير مبدعة ومنطقية تعمل على صياغة الغاية أو الأهداف المرجوّة في شكل خطة عمل استراتيجية محكمة وسياسات دقيقة وآليات مختارة بحكمة، ومسارات تتبع واضحة، وجداول أنشطة، وبرامج محددة بصورة مباشرة وعملية؛ فالارتجال والعشوائية في مثل هذه المشاريع الكبرى قد لا تؤتي ثمارها كما هو مطلوب، وقد لا يحالفها الحظ السعيد: النجاح.
فثورة فيما تعني علميا إحداث نقلة نوعيّة شاملة وجذرية وحقيقية في كافة مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ أي أن المسألة تحتاج إلى تخطيط وتحليل وأنشطة، آليات تنفيذ، وموارد، ومتابعة وتقييم، ومدى زمني، قد يطول طالما الغاية في الأساس بعيدة واستراتيجية وذات أبعاد شمولية وجوانب تخاطب الجذور وأصل الأشياء.
خطوات لوضع نظرية التغيير
1. يبدأ التخطيط في نظرية التغيير بتحديد الهدف بعيد المدى المطلوب تحقيقه، وبالتالي ما طبيعة الغاية الكبرى للإرادة في التغيير من خلال حراك جماهيري سلمي، وما الخطوات والبرامج التي تحققها؟ أي ما الهدف البعيد لقيام ثورة ديسمبر كمشروع تغيير ثوري حقيقي يسعى صوب إحداث نقلة نوعيّة شاملة وجذرية في السودان كجغرافيا، مجتمعات، سياق حضاري عالمي، ورؤية للعالم والحياة والإنسان؟ بل السؤال الأساسي للإشكالية الجدلية هنا، هل نحن أفرادا وجماعات وسياسات وطرائق تفكير، نريد فعلا برأي ورؤية الجميع تغييرا ثوريا جذريا، أي الانتقال من هذه الوضعية إلى أخرى ننشدها؟ وما شروط ومنطلقات هذا التغيير المطلوب؟ أليس هذا الحراك الجماهيري الاحتجاجي يعد من تمظهرات سياقات موضوعية أخرى فرضت نفسها بقوة وفق توافر ظروف وسياسات داخلية وخارجيّة؟ إذا كانت الإجابة بالسالب، ما مسوغات عدمية ذلك ومحدداته؟
2. تحديد نتائج قابلة للقياس، وجميع المتطلبات الضرورية لتحقيق الهدف؛ أي ما النتائج المتوقعة للبرامج القصيرة المدى التي تصب في تحقيق الغاية الكبرى. مثلا لطالما كان انخراط المؤسسة العسكرية في دهاليز السياسة مسألة ذات أبعاد تاريخيّة لا ثقافية، أي ثمة عوامل بعينها ورّطتها في الولوج، لا أن دخولها كان ذا طابع أساسي ثقافي، أي أنه ضرورة وجود، لا عامل ظروف وسياقات ألقت بظلالها على التوّرط، إذن ما الشروط التي يمكن الأخذ بها بإخراجها، بل تساعدها في التعاطي مع خروجها بموضوعية وتعزز لها عملية الإبعاد بمنطق ورؤية مقبولة وروح مسالمة مع المسألة؟
3. تحديد الافتراضات الأساسية عن سياق عمل النظرية التي تساعد في تحديد الأسباب التي تجعل بعض الروابط بين الأنشطة والنتائج غير ممكنة عمليا. مثلا، هل ثمة روح جماعية فعلا للمشاركة الفاعلة في إحداث هذا التغيير المطلوب بكافة متغيراته وتحليلاته وسياقاته ونتائجه المتوقعة سلبا وإيجابا؟ هل حقيقة ثمة وعٍ عام للجميع بضرورة القيام بهذه الثورة، ولهم الإلمام الجيد بجوانب وسياسات القضايا التي تغطيها عملية الانتقال النوعي القادم؟ ماتحليلنا لكل المتغيرات عبر (SWOT) و(PESTEL) بشكل دقيق وواضح وحقيقي ومتكامل؟ هل المدة المعينة كافية لتحقيق الأهداف المرجوّة القصيرة والمتوسطة والبعيدة المدى؟ هل بالفعل الرغبة في إجراء تحوّل نوعي شامل نابع من صميم إرادتنا الحرة الواعية، والمستقلة أفرادا وجماعات، شعوبا ودولة؟ وهكذا دواليك.
4. تصميم البرامج وتحديد التدخلات التي قد تؤدي إلى النتائج المباشرة المطلوبة، وتحديد الموارد المادية واللوجستية اللازمة، وتوضيح الأطراف المتأثرة والمسؤولة عن التنفيذ والمتابعة. أي هنا يجب أن نحدد أهداف ثورة ديسمبر الذكية SMARTT، والأنشطة التي تحققها بتحديد الموارد ومصادرها، والمبادرات المحتملة، والداعمين، ونوافذ الاستثمار الأمثل، ثم من هم الذين ينفذون برامج الحكم والسياسة؟ ومن يقومون ببرامج الاقتصاد؟ ومن الذين ينفذون خطط الثقافة والتنوع والمجتمع؟ ومن يعملون على تنفيذ أنشطة الإعلام والهوية؟ وهكذا.
5. تحديد معايير لقياس نجاح الأهداف الذكية وأنشطتها. هنا لابد من وضع مقاييس معرفة مستويات تحقيق الأهداف وأنشطتها عمليا، وما تشملها من معايير التقييم والمتابعة والمراقبة والتقويم والمعالجات العاجلة والمرسومة مسبقا. مثلا كيف ومتى ندرك فعلا أن المؤسسة العسكرية أصبحت خارج اللعبة السياسية وتفاعلاتها المرتبطة بالحكم وتوازناته؟ وإلى أي مدى نحن في الطريق الفعلي نحو تحقيق عقد اجتماعي دستوري شامل متفق عليه لدى الجميع، يؤسس لنموذج المجتمع الديمقراطي الحر والذي يقوم ببناء دولته حسب وعيه السياسي العام، وإرادته الحرة، وصوته المستقل؟
6. كتابة ملخص المشروع، وهنا يمكن كتابة نظرية التغيير كخطة استراتيجية محكمة دقيقة توضح الأسباب التي تجعل الجميع يؤمنون بنجاح هذا التغيير المنشود من خلال هذه الثورة الشاملة، مع إمكانية شرح كيفية حدوث هذا التغيير، قبل كتابة الافتراضات والتجارب والدراسات التي استندت إليها هذه الثورة إذا وجدت، مثل لو استلهمت الفاعلين من تجارب الانتقال التي طالت بعضها في تحقيق أهدافها، وقصر بعضها الأخرى كتجربة الانتقال في ألبانيا عقب انهيار الاتحاد السوفيتي، وتجربة أذربيجان عقب استقلاله من المنظومة الشيوعية، وتجربة بيلاروسيا بعد استقلاله 1991، وتجربة جورجيا، وهايتي، والثورة البرتغالية في أوكرانيا، أو أي تجارب ثورية أو إصلاحية هدفت نحو معالجة قضايا المجتمع والدولة وفق طريقة تفكير مبدعة لبناء عقد اجتماعي جديد مقبول بإرادة شعبية خالصة.
لأجل إنجاز تلك الوضعية الجديدة المرغوب فيها من خلال إحداث ثورة تغيير حقيقي لابد من الوعي واستدراك شروطها ومنطلقات تحقيقها، وعوامل تعزيزها عبر تحديد طريقة تفكير مبدعة ومنطقية وعملية (تخطيط استراتيجي) تعمل على صياغة الغاية الكبرى بدقة ووضوح وتفصيل وشمولية مع وضع الأنشطة والبرامج والاستراتيجيات والآليات والمعايير والمسوغات التي تبرر حقيقة تحقيق هذا التغيير المطلوب، وبالتالي يبدو أن هذه الأسئلة التي قاربناها في هذه المقالة نعتقد أنها من صميم مشروعية وجود هذا الحراك الثوري الجماهيري بالبلاد ومحددات نجاحه، بل نكاد نجزم اعتقادا أنها من أهم متطلبات القيام بهذه الثورة، ذلك لما لها من معنى بعيد كتلك الثورة التي حولت البشرية من حقب الظلام إلى عصر مختلف تماما؛ الثورة الفرنسية، إنما هي الثورة التي جعلت من هذه المقالة شروط لكتابتها وأهداف للتوصية بها عمليا.
صحافيّ، باحث، وقاصّ