قضيتُ سحابة اليوم أشاهدُ من خلالها أصدقائي يُصفّقون في قاعة القصر الجمهوري، ولا أجدُ تفسيراً لذلك، لكل جالس بجانبي، لكلّ من التقيتُ، لكل روحٍ غائبةٍ عن المشهد، وكانت تُحلّق في ذهني الخالي خلوّاً يائساً من هذا العالم الذي يُصفّقُ معهم، بينما يقف القَتَلة، بسهولة مُذهلة، ويتحدّثون عن العدالة.
ما الذي يُريد أن يُثبته السودانيّون؟ سمعت هذا السؤال من أوروبيين كُثر، إذ هم زملاء عمل، أصدقاء، وأحباب. فعليّاً روابطي الشخصيّة بالأوروبيين واسعة لدرجة كبيرة، منذ ما يقارب العشرين عاماً من عمري، بينهم كثير من البروفيسرات والأكاديميين اليوم، وهنالك من أصدروا كتباً حريفة: نساء ورجال، قادة، كُتاب، مُترجمون، إلخ إلخ. لكن يظلُّ هذا السؤال مركزيّاً نوعاً ما: ما الذي يُريدُ السودانيّون أن يُثبتوه؟
أريد أن أجيب عن السؤال: يريدون أن يثبتوا أن الإنسان، في النهاية، إنسان؛ أن المساومات السياسيّة والتنازلات أمام من قتلوا الناس، تبجيلهم، وإعزازهم، والتصفيق لهم، تناقض مقولة إلهيّة أساسيَّة في حق من يقتل النفس بغير حق. هذه مسألة بسيطة وتؤدي للكتابة القاتمة والتنبؤ السوداوي بمصير بلادٍ يرقدُ في حضنها نيلان عظيمان، وحضارة تمتد من شرق إفريقيا إلى غربها الأقصى؛ بكل جمال فنونها وآدابها، وحرصها العظيم على تخليد الديانات الأرضيّة والسماويَّة. هؤلاء الناس، السودان، خلال وجنوب صحراء قارّة إفريقيا الأم، البحيرات والغابات، قد حفظوا كل عهدٍ وامتلكوا الأخلاق الكافية لكي يرفضوا كلّ ديكتاتوريّةٍ ويقاوموها: منذ الاستعمار، إلى هكذا استعمار اليوم من بني جلدنا، والذي لا يفترقُ عن جلد أيّ إنسانٍ في عالم اليوم.
صورة عصام عبد الحفيظ
نحنُ ندرك أن لا ثورةَ سودانيّةً ستنجح إن لم تكن الثورة عالميَّة. مع هذه التسوية، مرةً أخرى، تواجه شابات و”شابَّات” السودان العالم بأسره. وها أرى أشباح الأنبياء السودانيين جميعاً تُحلّق حولهم: عمر خيري، محمود محمد طه، محمد المهدي المجذوب، وأبو ذكرى.
التعليم بالنار.
البشر لا يتعلّمون دون نار، هكذا قال ربّنا، وكذلك يَفعل. بمحبّته العميقة لخَلقه أنشأ لنا الجحيم. أدخلنا فيه مراراً وتكراراً ولا يزال، والتاريخ يتحوّل لولباً مقيتاً يكرّر نفسه بحرقةٍ لا ندري كيف ولماذا علينا احتمالها.
أليست هذه آياته؟ كلما انسلخ جلدٌ تبدَّلَ بجلدٍ آخر؟
والأسئلة البديهية مثل: لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان؟ أرسلت لي رندا محجوب، شاعرتنا العظيمة، هذا السؤال ذات عيدٍ من أعياد إخواننا المسلمين، ولم أجد أية إجابة.
يريد السودانيّون أن يثبتوا أن الإنسان لا يزال إنساناً، وأن هزيمة العالم مُمكنة. لقد حدثت فعلاً: رُكّعت المملكة العربية السعوديّة، كذلك الإمارات، ومصر، بكل مخابراتها الجاهلة، هُزِمت. مصر بالتحديد لم يتقدّم لها أيُّ أحدٍ بشكر طوال مراسيم الجنازة القوميّة التي حدثت بالأمس. حقيقة، لم يُصدّقها أي إنسان، وفيهم أصحابنا الجالسون في المقاعد الأمامية.
“الرجالُ” السودانيّون العجائز. يا إلهي!
في شأن واحدةٍ من الإجابات عن كيف سينصلح حال السودان؟ قلتُ: العالم، بالتأكيد، سينصلح إن تمت إبادة شاملة لأجيالنا في لحظة واحدة، عليهم -شاباتنا وشبابنا- أن يُعيدوا ضبط المصنع على أسسٍ لا يجب أن يكون لنا دخلٌ في تحديدها أو، حتّى، الحديث عنها.
بالتأكيد لن يصلوا إلى ما يصبون إليه، لكنّهم، في طريقهم، يلهمون جميع شعوب العالم بأن الإصرار التافه على التمرّغ في القاع الأخلاقي المهجور، الموت من أجله، الفداء، الإيمان بالإنسانيّة، تحقيق الأفلام السينمائيّة واللوحات التشكيليّة وأشعار الشعراء: منحوتات الأبطال والكوشيّات، منذ آلاف السنين، لا تزال ممكنة، يظلّ حلماً لم يَعشهُ الإنسان من مدّة ليست بالقصيرة.
هذا الحلم القديم الذي يراودُ كلّ طفلٍ يرىَ مُلهِمَاً -كما حدث لي مع بوب مارلي أو أمل دنقل وماريا ريلكه- حلم تغيير العالم؟ لقد حدث. لقد غيَّر السودانيّون العالم. بوجوههم المغبّرة دائماً، بأياديهم النحيلة، بوجوههم الوسيمة، فكلّما التقيت شباب وشابات السودان أرى حلماً بشريَّاً تحقَّق، وكلما قرأتُ ما يكتبون، ورأيتُ ما يرسمون، ولمستُ ما يتغنون به، رأيتُ حلماً قديماً قد تحقق.
لقد تفاوض السياسيّون والعسكريّون والمكافحون المُسلّحون على جثث الشابات والشباب ودمائهم، لا بأس، هذا يحدثُ في جنوب العالم باستمرار، ولن يتوقّف عن الحدوث. وعندما أقول الجنوب فإننا، في أمريكا الجنوبيّة، وآسيا، وإفريقيا، جميعاً جنوبيّون. هذه الحدود الوهميّة فيما بيننا، بما فيها ما حدّده الاقتصاد: شمال وجنوب.
كنّا جميعنا بشرٌ فقراء، ولا زلنا، نستعبدُ بعضنا، وننال من إنسانيتنا بحقارة لا مثيل لها. وكلما نهض نموذجٌ جميلٌ موسيقيّ وفني وثوري وساخر حدّ العدم، حدّ بذل الروح؟ نقوم بتدميره.
أستطيع أن أتصوَّر كوابيس فولكر التي مرَّ بها، والتي تتمركز في النَفس الإنساني القايم، ذلك الرسوخ الجذري المخلوق من جثث أنبياءٍ كُثر، ودماء من حملوها بأيديهم: هؤلاء الشباب والشابات.
تظلّ الشابات والشباب هم من يحكمون المُستقبل، وهنالك أمل عظيم وجميل في من تحمَّل أمانة المعلومات منذ نعومة أظافره، يتشابا إلى الهاتف الذكي كما تشابينا على مقود السيّارة. وذلك فرقٌ لو تعلمون عظيم.
هذه مرحلة حسَّاسة من الوحدة التي لن تعقبها وحدة، آخر علامة نصر في تاريخ المجتمعات البشريّة القديمة، قِيَم الوطنية البائسة وحدود البلاد التي ليست لها قيمة حقّاً، تغرق مع نهاية عالم الألفية الماضية في السودان فقط، آخر ثورة أخلاقيّة حيّة على الإطلاق: أنتجت هذه التسوية مساحة عظيمة لوحدة الخيال والشعر، وحدة الثوّار أمام مشروع تجريف الإنسان.
هذه مرحلة فقط، والمراحل ستأتي تباعا. فإن رأت الثورة السودانيَّة نفسها كمُلهمة لشعوب العالم، على الثائرات والثوّار أن يستعيدوا مكانتهم:
الشارع للمكنات.
شاعر، كاتب ومحرر ثقافي