بعد ساعات من إعلان قادة انقلاب 25 اكتوبر في السودان نيتهم التوصل لتفاهمات تسمح للتيار الإسلامي بالعودة للمشهد، خاطب الأمين العام للحركة الإسلامية على كرتي مؤتمرا تنظيميا لها في ولاية الجزيرة، في أول خروج علني لقياداتها، بعد أن أسقطت ثورة ديسمبر النظام الذي كانت تقوده وحكم البلاد نحو ثلاثة عقود.
يأتي هذا التطور اللافت في ظل حالة من الاستعصاء تواجه الاتفاق السياسي الإطاري الذي وقعته قوي مدنية مع قادة الانقلاب في ديسمبر من العام، بهدف خروج الجيش من السلطة وتسليمها لحكومة مدنية.
يوم السبت، قال الفريق ياسر العطا، وهو أحد قادة انقلاب 25 أكتوبر، إن الجيش يعتزم توقيع اتفاق مع التيار الإسلامي لإبعاد التطرف الديني، وضمان ترسيخ الديمقراطية وعدم الانقلاب عليها.
وقال العطا نصا “إن الجيش يعمل على ترسيخ الديمقراطية مع القوى السياسية النبيلة والقوى الاجتماعية المخلصة لبذر قيم التصالح والتسامي وعمل اتفاق ما مع القوى المبعدة بأمر الثورة من التيار الإسلامي.
وبعد ساعات قال كرتي الذي خاطب محفل تنظيمي للحركة الإسلامية في ولاية الجزيرة إن ماتم في 11 أبريل 2019 انقلابا حقيقيا ضد دولة منتخبة من رئيسها إلى أدنى مستوى للحكم المحلي من قبل أحزاب تتشدق بالديمقراطية.
ويحمل هذا الخروج العلني للمسؤول الأول في الحركة الإسلامية تساؤلات حول موقف قيادات الانقلاب ومدى التزامهم بدعم برنامج ثورة ديسمبر المجيدة، وفق التعهدات المبذولة، كما يحمل في طياته دلالات على انفصال قيادات الحركة عن توجهات الشارع السوداني في هذه المرحلة، ومترتبات تجربتها في الحكم.
كانت الجبهة الإسلامية القومية، والتي تمثل تيار الإسلام السياسي في السودان، قد استولت على السلطة بالقوة عبر انقلاب عسكري في يونيو من العام 1989م
وجاء الانقلاب لقطع الطريق على المؤتمر الدستوري الذي تقرر إقامته وقتها لحسم قضايا تمثل عصب الصراع السياسي وقضية الحرب في السودان.
ففي 15 ديسمبر 1988 خاطب رئيس الوزراء وقتها الصادق المهدي (الجمعية التأسيسية- البرلمان) طالبا الموافقة على عقد المؤتمر الدستوري في 31 ديسمبر، وأن تفوضه باتخاذ الإجراءات اللازمة لتحقيق ذلك. ولكن حزب الجبهة الإسلامية القومية بقيادة الراحل د.حسن الترابي أبدى تحفظا حول الطلب.
وكانت دعوة المهدي لهذا المؤتمر إيذانا بتوجه الحكومة لإقرار السلام في البلاد بعد تلكؤ، وقبول اتفاقية السلام السودانية التي وقعها شريك الحكم، الحزب الاتحادي الديمقراطي مع الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة الراحل د. جون قرنق.
ولم يكن تحفظ الجبهة حينها، إلا تأكيدا على معارضتها الاتفاقية، وما يتطلبه السلام من تنازلات من قبل الحكومة وأطراف الملعب السياسي، لكنه كان أيضا بداية لعملية التآمر على الديمقراطية.
الشاهد أن مبادرة السلام السودانية التي وقعت في 16 نوفمبر 1988 بأديس أبابا من قبل محمد عثمان الميرغني، زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي، وقائد الحركة الشعبية لتحرير السودان الراحل د. جون قرنق، نصت على تأكيد مبادئ الوحدة وإعلاء رابطة المواطنة، على أي رابطة أخرى، وتجميد كل القوانين المنسوبة للإسلام إلى حين البت في أمرها في مؤتمر قومي دستوري، تشارك فيه كل القوى السياسية والاجتماعية والعسكرية.
ومع استمرار معارضة الجبهة الإسلامية لطريق السلام الذي اتفقت عليه الأطراف المختلفة، جرت محاولات لتوحيد الساحة السياسية تجاه قضية السلام، وتمخض عنها ما عُرف باتفاق القصر الذي وقع في أبريل 1989 برعاية رئيس الوزراء آنذاك، الصادق المهدي، ومشاركة كل الأحزاب والنقابات وممثلي قواته المسلحة، وغابت عنه الجبهة الإسلامية القومية.
وقد اتفقت كل هذه الأطراف على نبذ الحرب وحل المشكل السوداني سلميا، والتأكيد على كل الاتفاقات السابقة مع الحركة الشعبية، وهي كوكادام ومبادرة السلام، بجانب توفير الجو المناسب لتنفيذ الاتفاق بإلغاء القوانين التي أصدرها جعفر نميري (1983)، والمنسوبة للإسلام، مع إجراءات أخرى، فضلا عن قيام المؤتمر الدستوري داخل السودان بمشاركة الحركة الشعبية.
بعد أقل من ثلاثة أشهر وقع انقلاب 30 يونيو ليصبح طريق السلام أثرا بعد عين، وتدخل البلاد هوة عميقة تحاول الآن الخروج منها بعد اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة ، لكن من ذات النقطة.
يشار إلى أن أبرز أجندة المرحلة الانتقالية، وفق قوي الثورة، تتمثل في تفكيك بنية تمكين النظام البائد التابع للحركة الإسلامية، في مؤسسات الدولة والاقتصاد والحياة العامة، ضمانا لتحقيق العدالة وترسيخا بقيم المساواة، ووفتح الطريق لانتقال مدني ديمقراطي عبر إقرار السلام وعقد مؤتمر دستوري، بجانب النص في وثائق الانتقال على حظر مشاركة هذا التيار السياسي خلال المرحلة الانتقالية.
ويبدو أن تصريحات العطا تحمل رسائل اشتراطية استباقية، في خضم ترتيبات تجري بتسارع لتوقيع الجيش على اتفاق جديد مع تحالف من المدنيين تقوده الحرية والتغيير، بهدف إطلاق مرحلة انتقالية ثانية تقودها حكومة مدنية، لكن يضمن بقائها العسكريين.
ويبرر العطا هذا التوجه بإبعاد هذا التيار عن التطرف الديني وجلبهم للطريق المعتدل للسير مع الجميع، لضمان ترسيخ الديمقراطية وعدم الانقلاب عليها مجددا.
ويمثل العطا أيضا أحد قيادات المجلس العسكري الانتقالي، الذي تفاوض معه المدنيين من أجل تسليم السلطة بعد سقوط نظام البشير، َوهو ذات المجلس الذي انقلب على حكومة المرحلة الانتقالية، بعد أن رفض تسليم قيادة مجلس السيادة لمدني حسب ما نص الاتفاق والوثيقة الدستورية لمرحلة الانتقال.
وأصبح انقلاب 25 أكتوبر مدخلا لإعادة كوادر الحركة الإسلامية إلى مواقعهم في جهاز الدولة في العاصمة الخرطوم والولايات، بجانب تجميد العمل بلجنة تفكيك تمكين نظام 30 يونيو.
ويرى محللون أن خروج نشاط الحركة الإسلامية إلى العلن، وإعلانها دعم الجيش في مواجهة القوى التي تدعم الانتقال المدني الديمقراطي، محاولة للاستقواء به من جديد في مواجهة الشارع الذي أسقط نظامها لصالح مشروع الانتقال.
وأشار المحلل عمر الطيب إلى أن الحركة الإسلامية ظلت تاريخيا تحاول استخدام الجيش لقطع الطريق أمام المشاريع الوطنية التي تطرحها القوى الداعية للانتقال الديمقراطي في السودان بهدف معالجة أزمات الدولة المستفحلة، بسبب حالة عدم الاستقرار السياسي.
ويربط بين العقبات التي واجهت عملية انتقال السلطة للمدنيين بعد إسقاط النظام البائد، وبين عمق بنية تمكين الحركة وكوادرها في جهاز الدولة والمؤسسة العسكرية والأمنية والاقتصاد.
وسيق الظهور العلني لعلي كرتي، تسريبات تشير لوجود اتفاق مع الحركة الإسلامية على شطب البلاغ المفتوح في مواجهته، على خلفية المشاركة في تقويض النظام الدستوري عبر انقلاب الإنقاذ في يونيو من العام 1989.
ويعتقد المحلل أن الحديث المتكرر عن ضعف القوى المدنية وعدم جماهيرتها، بجانب تبنيها لبرامج سياسية وفكرية بعيدة عن طبيعة الدولة ومعتقدات شعبها، مقدمة لإعادة الحركة الإسلامية للمشهد عبر قادة الانقلاب، وتكريس واجهاتها في الحياة السياسية خلال المرحلة المقبلة.