صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

حتى لا يخيِّرنا الجيش مرة أخرى بأن نذهب إلى “الدايات”

الصورة من أعمال أحمد حسب الرسول
شارك هذه الصفحة

في السادس من أبريل 2019، كانت البلاد على موعد مع حدث عظيم، هو بلوغ الثورة السودانية أعلى ذروة حركية لها في الشوارع، وذلك في سعيها الدؤوب للإطاحة بواحدة من أعتى الديكتاتوريات في الإقليم.

ففي الأسبوع الأخير من شهر مارس من العام نفسه، كان التنادي ليوم 6 أبريل يمضي على أشده من أجل تكرار مشهد ظل مكررا في الفضاء العام بمتوالية ثورية تحدث كل 25 إلى 30 سنة. إذ ظلت الثورة تتكرر بشكل حركي على مدى 150 سنة ماضية، ربما منذ الثورة المهدية التي اندلعت في 1881م؛ فما من عقدين أو أكثر قليلا إلا وكانت ثمة ثورة في السودان.

كان اليوم مهيبا وبطوليا لكونه انعقد تحت زخم الرصاص القاتل المميت؛ فحين وصل الثوار السلميين إلى هدفهم: ساحة القيادة العامة بالخرطوم، سرعان ما استقر الرأي بينهم على انعقاد اعتصام لمدة مفتوحة من أجل الحصول على الحكم المدني الكامل، طبقا لرؤى متعددة للحكم المدني، وهي الرسالة التي فهمت خطأ من قادة الجيش في يومها، بل إن قادة الجيش وقتها أعلنوا أنهم على استعداد لنجدة نظام عمر البشير المترنح، لكن، بطريقة ما، استطاع يوم 6 أبريل أن يضع حدا لتفضيلات بعض القادة للبشير، وأن يضع الجيش في مواجهة مصيرية.

وفي كل الأحوال، نجح اعتصام القيادة، وتبعته اعتصامات شبيهة في الأقاليم من أجل منع تكرار المآلات السياسية المريرة التي أعقبت ثورة السادس أبريل قبل أكثر من 30 سنة، حيث أسقطت الجماهير وقتها ديكتاتورية جعفر نميري عبر الشارع، وذهبت فرحة إلى البيوت، فأضاعت بذلك فرصة ثمينة لبناء الديمقراطية والانتقال الديمقراطي.

في الواقع، قد ترغب الجيوش في بعض الحالات في التخلي عن السلطة والعودة إلى الثكنات، إن لم يكن بإلحاح المدنيين فعلى الأقل بسبب إرهاق الحكم، وهناك نماذج يمكن الإشارة إليها في هذا الصدد: غانا 1969، وتشيلي وكوريا الجنوبية في السنوات الأخيرة من عقد الثمانينيات، والسودان مع المشير سوار الدهب، مع استصحاب التحفظ الذي يبديه بعض النقاد السياسيين على هذا الأخير، وعلى القوى السياسية التي تنصلت عن (وثيقة الدفاع عن الديمقراطية) قبل أن يجف مدادها ولم تتحرك بما يكفي لإتلاف انقلاب الجبهة الإسلامية.

لكن الميثاق نفسه عاد الثوار في لجان المقاومة وكتبوه بشكل يومي احتجاحا على انقلاب البرهان في 25 أكتوبر.

قبل تبلور فكرة الاعتصام لدى الثوار، كان التنادي إلى يوم 6 أبريل 2019 هو بمثابة اعتراف من الثوار السلميين ببنية الدولة الحديثة، ومؤسسات الدولة الحديثة التي تحتكر العنف ولا تسمح باستخدام السلاح إلا لمؤسسات معينة ومحددة، من بينها القوات المسلحة.

في الواقع جاء الثوار إلى القيادة العامة وكانوا قد حصلوا بالفعل على السلطة والمدنية، وذلك باحتلالهم للفضاء العام، إذ كانت الحياة وقتها تمضي وفقا لما يريدون، وكل حركة من الحكومة الرسمية وقتها كانت رد فعل متواضع لحركتهم الأصل، لكن جاءوا فقط، في ذلك اليوم، ليذكروا مؤسسة الجيش بدورها الطبيعي المتعلق بحمايتهم من البطش، بعد أن ألحقت بهم القوات الملثمة وكتائب الظل القتل والأذى الجسيم؛ ففقدوا أرواحا عزيزة.

 بطريقة ما، يمكن تحليل خطوات الثوار إلى القيادة العامة بأنها محاولة لتحييد الجيش حتى لا ينخرط في التمادي في الانحياز ضد الثوار.

كان استقبال الجيش لرسالة الثوار قد تباطأ وجاء بعيدا عن المغزى في بادئ الأمر، إذ فهم أن اللجوء إلى ساحاته كان بمثابة التفويض والوضوء الأخضر من الثوار كي ينقلب القادة على نظام عمر البشير، وبعبارات صريحة عبّر أحد القادة برتبة فريق أول، وبالكثير من المكاواة، بأن سلطة الجيش في السياسة وإدارة الدولة نافذة، وإلا فقد كان أمام الثوار أن يعتصموا أمام مستشفى الدايات (مستشفى لتوليد النساء بأم درمان).. قبل أن يعود الجيش نفسه وينقلب على الحكومة الانتقالية التي تكونت في أغسطس 2019م بشراكة مع (القوى المدنية الموقعة على إعلان الحرية والتغيير).

لأسباب متعددة كانت رغبة الجيش للابتعاد عن الحكم غير مكتملة في 1989م، ولم تكتمل حتى بعد 30 سنة مع مجئ عبد الفتاح البرهان، الأمر الذي يحتم بناء حواجز أقوى في وجه أي انقلاب محتمل. وبما أن السودان الآن بين يدي (عملية سياسية، تسوية، إنهاء انقلاب) لا ينتظر أن تتقاعس القوى السياسية عن المضي في طريق البناء الديمقراطي وتحصين الديمقراطية، وألا يكون الذهاب إلى “الدايات” هو الرأي السرمدي الراسخ لدى مؤسسة الجيش المهمة.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *