صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

هل تنجو الواقعيَّة السياسيَّة؟

إرشيف الثورة السودانية
شارك هذه الصفحة

بعد أن أعلنت قوى الحرية والتغيير عن توصّلها لاتفاق مع قادة انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان، تصاعدت أصوات رافضة لهذه الخطوة، التي قد تُصبح مخرجا للجنرالات من المحاسبة على الجرائم التي تم ارتكابها خلال عملية قمع المقاومة في شوارع البلاد.

ووفقا للقوى الداعمة لهذا الاتفاق، فإن ما يمكن أن تُنجزه قوى الثورة بالتنازلات المقدمة من قادة الانقلاب، ومن خلال الدعم الإقليمي والدولي الذي تعتبره حاسما وفق المعطيات الماثلة؛ يُمثِّل فعليّا مطلب الشارع بأكمله: تفكيك الانقلاب واستعادة مسار الانتقال المُختطف.

ومع أن هذه القوى تنطلق من أرضية ترغب في أن تكون متماسكة، وإطار تريده أن يتسم بالعقلانية السياسية، وقد تستند في خطابها الموجّه للشارع على معادلات واضحة بالنسبة لها، فإن ذات الأرضية والخطاب قد يصبحا بلا مردود في ظل تجذّر قيم الثورة، ولا عقلانيتها، في النواة المُحرِّكة على الأقل.

مستويات غير مسبوقة

وبدا أن الأصوات الرافضة لخطوة التحالف السياسي تكتسب قوتها من الشارع بالأساس، ومن وقع مشاهد القمع والسحل والقتل التي واجه بها قادة الانقلاب الثوار في كل مكان، والتي تصاعدت لمستويات غير مسبوقة، مع استمرار المقاومة وإصرارها على إسقاط الانقلاب، حتى بعد أن وسَّع الانقلابيون من تحالفاتهم الداخلية والخارجية، وباتت التكلفة أعلى من أيّ وقتٍ مضى.

بعد عام كامل من الانقلاب، فإن تأثير هذه الأصوات الرافضة حتى لإرجاء المحاسبة يبدو واضحا في فعاليات المقاومة والوسائط، ما قد يلقي بشكوكٍ على إمكانية حشد كل الشارع خلف الاتفاق المرتقب.

الواقع أن أعداد الضحايا خلال عامٍ كامل من وقوع الانقلاب بَلَغَت- بحسب إحصائيات رسمية- نحو 119 شهيدا وشهيدة، لقوا حتفهم بالرصاص والدهس، بجانب آلاف الجرحى والمصابين والمفقودين. وتُظهر التقارير أن الوحشية التي واجهت رافضي الانقلاب في شوارع الخرطوم والولايات، بَلَغت حد اغتصاب النساء وحرق المنازل والمتاجر والممتلكات الخاصة.

تُظهر التقارير الحقوقية أيضا حالات اختفاء قسريّ بلغت العشرات، في ظل عجزٍ كامل للجهات المعنية عن تقديم مساعدة لأسر الضحايا، فيما شملت تلك الحالات أطفالا دون الـ16 عاما.

توازنات القوى

وكل ذلك لم يعد مجرّد أرقام لخسائر بشرية ومادية قد تكون هناك فرصة للتعامل معها، فقد ترسّخ، وفق مراقبين، ككابوس يصعب تجاوزه بناء على معادلة سياسية تحكمها الواقعية وتوازنات القوى.

في 17 نوفمبر 2022 كتب أحد ثوار الخرطوم على جدران شارع قرب قيادة الجيش، “لن ننسى ولن نغفر”، هذا مع أن الحشد الرئيسي للثوار في تلك المناسبة كان في الخرطوم بحري، على بعد عشرات الكيلومترات شمال ذلك الجدار.

وبينما يدفع من يدعمون إجراء هذه التسوية بضرورة استعادة مسار عملية الانتقال الديمقراطي التي قطعها الانقلاب بأي ثمن، في إشارة لحتمية تقديم تنازلات لقادة الانقلاب قد تصل غض الطرف- ولو مؤقتا- عن مساءلة الجنرالات تحديدا؛ ترفض قوى من شارع الثورة ولجان مقاومة- على وجه الخصوص- تقديم أية تنازلات أو حتى مجرّد تواجدهم في المشهد، وتطالب بالعدالة متمسّكة بموقفها بأن (لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية) للانقلاب ومن شايعه.

لكن الشاهد على ما يتوجب على الحرية والتغيير وداعمي الاتفاق إنجاحه، تصريحات لرئيس حزب الأمة القومي، فضل الله برمه ناصر، صدرت الأسبوع الماضي بالتزامن مع تسريب النسخة النهائية من مشروع الوثيقة الدستورية الجديدة، التي تضمّنت تعديلات قام بإجرائها قادة الانقلاب.

سنّ السكاكين

التصريحات تفيد بأن العسكريين يبحثون عن ضمانات من المدنيين قبل تسليم السلطة إليهم، مُذكرا في هذا الصدد بحديث محمد حمدان دقلو بعدم إمكانية تسليم السُّلطة، وهناك من (يسنّ لهم السكاكين).

وناصر هنا يذكّر أيضا بأن الاتفاق ليس نهائيا، بمعنى أنه يمكن أن يقبل أي إضافات أو تعديلات تُوسّع من قاعدة القبول بين قوى الثورة، لكنه يحذر أيضا من أن مستقبل العملية السياسية بأكملها يعتمد على الضمانات الممنوحة للانقلابيين بعدم المحاسبة على تلك الجرائم.

تلك الاشتراطات الواضحة من قبل الانقلابيين، ربما تكون الباعث الأساسي لموقف لجان مقاومة مدينة الخرطوم، التي لم تنتظر صدور النسخة النهائية للوثيقة الدستورية وأعلنت، بعيد ساعات من التصريح، أنها لن تخون دماء الشهداء وعهدهم، كناية عن مضيّها في إسقاط الانقلاب ومحاسبة قادته، وأوضحت استمرار مواكبها حتى إسقاط الانقلاب وكل من يشاركه.

ومع أن هذا الموقف يتّسق مع المواقف الثابتة للجان المقاومة في كل مكان من البلاد، فإن مياها كثيرة قد جرت تحت هذا الجسر، إذ بدا أن بعض التنسيقيات ولجانها توافق على العملية السياسية مع بعض الاشتراطات، مثل إقرار العدالة والعدالة الانتقالية وتفكيك بنية النظام البائد بجانب مراجعة اتفاق سلام جوبا الموقع مع الحركات المسلحة، وضمان أن تكون لقوى الثورة غالبية مقاعد المجلس التشريعي.

وترى اللجان المتفائلة بأن طريق الاتفاق قد يُحقّق أغلب مطالب الشارع السوداني، على أن يتم استكمال تلك المطالب من خلال الدفع داخل مؤسسات المرحلة الانتقالية. على أن الحوار، داخل فضاء اللجان ومنصاتها حول الموقف، لا يمضي بهذا الهدوء. كما أن التكهّن بمآلات هذا الحوار تظلّ مغامرة غير مضمونة النتائج.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *