صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

قرنُ للنساء.. كيف كنّ في ثورة ديسمبر

مشاركة المرأة السودانية في ثورة ديسمبر

سودانيات في تظاهرة تنادي بالحكم الديمقراطي

شارك هذه الصفحة

فاتن علي

طوال فترة حكم الإنقاذ التي فرضت هيمنتها على المرأة، وجعلت منها عدوا للدين والدولة، وخلّصتها بإقصاء من مهامها العملية والمهنية، وممارسة حياتها الإنسانية بالدستور المعدل، كُل ذلك؛ قمعَ المرأة إزاء توظيف قدراتها، وقلّل من حضورها، وكاد أن يَخفي صوتها تماما. فالضعف الإداري، والفكري الناتج عن التربية، والضغط الأسري، والوصاية، جميعها؛ شكّلت مسيرة المرأة في الواقع الاجتماعي، لتكون نحو اتجاه خال من الإنجاز المعرفي، والتحصيل الفعلي في الحياة.

أسهم كل ذلك في تنميط الحياة الاجتماعية، التي عمل نظام الإنقاذ بشكل مباشر، أو غير مباشر، على محاربتها. واعتمد في ذلك، الخطابات الذكورية المتسلطة المُغلفة بالدين، وسرَّبها في نفوس الناس، كانسراب المياه في جوف الأرض. وجعل من كلمة الرجل قانونا يحكم به دولة البيت.

 كُل هذا التغييب والتهميش والكبت، خلق طاقة تراكمية قويّة جدا، طاقة رفض، وتمرد عظيمة للغاية ضد هذا نظام الإنقاذ، وتحولت كل المفاهيم والأساليب الظالمة التي مارسها النظام، وبشكل دائم، إلى مساهمة كبيرة لهذه الانتفاضة، ثورة تتقدم صفوفها الفتيات بأعداد كبيرة، يكاد يجزم الجميع بنسبتها التى كادت أن تفوق 70%.

ثورة تُقدم نماذج إنسانية، صادرة عن قيم اكتسبها الجيل بوعيه الخاص، وجهوده في المعرفة، نماذج ترى أن قيمة الإنسان تكمن في كونه إنسان، بلا صفة لونية، أو جغرافية كانت، ثورة وكأنها تخليص وتنقية من كل شوائب المجتمع، وعادات وأنساق، فشلت في الإجابة عن أسئلة الراهن، فصبغتها بالخطاب الإسلام السياسي على حساب حياة الشعب، وكرامته، وإنسانيته.

هنالك الكثير من القصص والدروس الأخلاقية  التي كنا نشهدها جميعا في كل مواكب الثورة، بعزمٍ لا تحده رصاصة، وسلمية التزم بها الجميع رغم الدماء، والتعذيب الذي وصل مرحلة الموت.

ــ عندما كتب الشاعر بلة محمد الفاضل:

الأُنثى مزهرِيَّةٌ يعبقُ شذاهَا بِالشَّارِعِ

بيد أن نظرات الشَّارِعُ حجرٌ

 كانت هناك ألف مزهرية تشقّ، وتتحدى عتمة الشارع وقسوته. ألف وردة تحاول أن تقول أنا الرحيق، وحديقة المستقبل. الكنداكة جود كمثال، لا الحصر، فمثلها هناك ألف جودٍ أخرى. ونقلا عن ما كتب في حقها على الفيس بوك:

أكتب عن المرأة وعن الثورة، عن الطبيبة، عن المهندسة والحبيبة. سأكتب عن المرأة والثورة.. بل حتى هذه الثورة هي (أنثى) في مدلولها اللغوي. (أنثى) في حراكها بما نشاهده من أبلغ درجات المشاركة النسائية في كل المواكب وبكافة الأشكال، (صوت ومشاركة المرأة ثورة، وصمت وتخاذل الرجل عورة)، سأكتب عن (جود) اسما على مسمى، لم تبخل بوقتها، بشعرها المقصوص من زبانية النظام، بيدها المكسورة من العسكر، بتهديدهم لها. فتاة كما قال عنها أبونا الثوري حميد :

بنية لا بتــلاوز لا بتخاف

زي الضفاف المــــا بتهاب

ضنب التماسيح والكلاب

جود التي تمارس نضالا يوميا مألوفا في مكانا ثوريا مألوفا (بري العز بري الصمود) ومن غيرها؟!

تجدها في شوارع حي بري، في أزقته، في بيوته العامرة بالتكاتف والمحبة، في اعتصامات ميادينه، في تظاهراته اليومية التي لا تتوقف.

ودون أيّ مبالغةٍ ستجدها في كل موكب،  قد لا تراها ولكنها حتما موجودة. تهوى الرفقة والصحبة وقررت ألا تكون وحدها أبدا؛ ففي كل موكب أو تظاهرة أو اعتصام (هاتفها لا يفارق يده) فامتهنت (التوثيق) ومارست (الإعلام البديل)، إعلام الثورة السودانية المجيدة. تم اعتقالها وتهديدها بقص شعرها إذا ما شاهدوها مجددا، فخرجت في الموكب التالي، وتم اعتقالها وقصّ شعرها. تخلّفت عن موكب أو موكبين لا بسبب الخجل الأنثوي من مظهرها وشعرها غير الموجود! بل بسبب كسر يدها من رباطة النظام الآسن. كانت  وما زالت تمارس مسارها الثوري وتنتزع حريتها كبطلة، برغم كل العنف الذي تمارسه الأجهزة الأمنية.

أيضا صديقتي مهاد، برغم خطورة الوضع، وتحذير الكثيرين لها، إلا أنها  احتفظت بهاتف أحد الثوار، بعد أن قام برميه عمدا، فور اعتقاله بموكب جرى يوم الخميس 14 يناير 2019  بالخرطوم، السوق العربي، ثم تواصلت مع أهلهِ بعد أن أعلنت عن ذلك بصفحتها الشخصية على فيسبوك، وتم التواصل مع أهله وإبلاغهم باعتقال ابنهم.. أهناك شجاعة أكبر وأعظم من ذلك؟!

ــ أن تخرج فتاة بمفردها، خذلها أهل الحي، فتحمل لافتة تقول عبرها: أنا موكب، أنا ثورة.

ــ كتب أحد الأصدقاء على الفيس بوك قائلا: “إذا كان القرن المنصرم هو قرن الإمبراطورية والفوضى والإرهاب؛ فإن هذا القرن هو قرن النساء، وعلى الرجال الذكور الاستعداد لذلك. فضلا. أنظر إلى الشارع السوداني، من لدن داعش لغاية الثورة الحالية”.

تُذكرني هذه التغريدة، عندما كنّا في أحد المواكب، من نهارات يناير 2019، بعد أن اشتدّ علينا الكر والفر، وأصبحت الأجهزة الأمنية تعتقل بشكل عشوائيّ، حُصِرنا في أحد بيوت حي العباسية، أم درمان، عدد من الفتيات والشباب، دار نقاش، بين من يريد أن يكون هنالك عنف مضاد، وآخر ينهى النقاش قائلاّ: يجب الالتزام بالسلمية التامة مهما حدث. ولو كلفني ذلك حياتي، لفعلت. وبشكلٍ عفوي قال آخر مازحا: “نحن الآن إذا أردنا فمقابل كل خمس بنات، ولد واحد! يا لعددكم الكبير”. جاء الرد من فتاة قائلة: “بل مقابل كل خمس بنات خمس آلاف ثورة، وفكرة، وقضية مسكوتٌ عنها، وأخرى تم خنقها في جو الأسرة، وجلسات المصاطب، وستات الشاي، وزيارات الجمعة، وصينية فطور الأضحية… إلخ”. ثم أكملت أخرى قائلة: “اليوم قد خرج معظمنا للشارع دون علم أهالينا، خرجنا دون أن نكترث للعنف والاعتقالات التي قد تلحق بنا، فبيوت الأشباح تلك، والتي نعلم تماما  قد نمضي إليها تحت أيّ لحظة، لهي اليوم؛ أفضل بألف مرة من بيوتنا التي استعبدت إرادتنا، سلبتنا حق الرأي، وحق القرار والاختيار.

إننا نسترد حقنا؛ حق الحياة، الذي كفله لنا الدين أولا، ثم القانون ثانيا، ثم الكرامة في أصالتها لكوننا بشر. بدراية تامة، وشجاعة لا تقهر، وعزيمة في جرئتها وعيٌّ ومعرفة، فنعلم أن كل الأبواب التي نخرج منها، إلى أين قد تمضي بنا، ومتى يمكننا التوقف، ومتى نقول لا، ونعم. كُل ذلك؛ لا يخرج من إطار الأخلاق والكرامة، والاحترام.

تظاهرات في الخرطوم

هذه الثورة تعمل على إعادة القيم الحقيقية والأخلاق بين الناس، تُعيد إصلاح ما أفسده النظام من السلوكيات الأخلاقية في التعامل والحذر بيننا خاصة كشاباتٍ وشباب، تعمل الثورة أيضا على رتق فجوة النوع التي صنعها النظام بمشروعه الإسلامي الفاشل على جيلٍ كامل، وعلى إعادة تأهيل منبر النقاش الحرّ وفق ما تشترطه الآليات والأدوات المتاحة. كذلك من بشريات ثورة الكرامة، أنها تبشّر على تنفيذ التوافق العملي بالكفاءات والقدرات الإمكانية.

عليه؛ كل ما تُأكده الثورة اليوم، هو إعادة أرضية واحدة، يقف عليها إنسان السودان، بتعدده وتنوعه الثقافي ـ والأثني ـ والعرقي، جغرافيا اسمها السودان. فمن لا يؤمن بذلك، لن يستطيع مصباح ديوجين أن يريه  الأشياء على حقيقتها.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *