صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

يوم بكى أخي الأكبر

أعمال حسب الرسول

شارك هذه الصفحة

وجدتنا ثورة أكتوبر 64، ونحن لا نزال أطفالا.. شاركنا في التظاهرات والمواكب، بدافع الفضول والشقاوة وكبرنامج.. وبدفع من معلمينا في المدرسة الوسطى أحيانا.. وليس بوع ثوري مدرك، طبعا، وإنما بدايات وعي أخذت تنمو من بيتنا الكبير في ودمدني، وكان بيتنا سياسيا، ضم أنصارا واتحاديين وشيوعيين، بل وأخوان مسلمين.. (الاستدراك لحداثة تنظيم الأخوان وقتها ومحدودية انتشاره). أحد أفراد البيت، قضى مع زملائه من طلاب جامعة الخرطوم ستة أشهر في سجون نظام عبود، عقابا لهم على مقاومة الدكتاتورية والاستبداد.

ثورة أكتوبر كانت أشبه بمعجزة.. شعب أعزل وتنظيمات نقابية ومهنية ليست بكثيرة، وأقل منها المشاركة الحزبية، وسط بحر مائج على نطاق المنطقة العربية والأفريقية: دول مجروحة الكبرياء، خارجة لتوها من فترات استعمارية عصيبة، دكتاتوريات عسكرية– بعضها شعبوية، كما الناصرية- مدعومة بأحلاف دولية حاملة لأطماعها الاستعمارية.

وسط هذا الخضم المائج أبحر السودانيون بسفينة أكتوبر، يرفعون مشاعل من روايات القمع وقصص المقاومة وأمجاد النضالات الماضية، يكشفون بها مواضع الخلل في النظام العسكري الدكتاتوري.. ويحملون منظومة حيوية من الرؤى والأفكار والتوجهات التقدمية، لحقبة ستينيات القرن الماضي، تنير لهم طريق الهجرة السريعة إلى مستقبل التنمية والنهضة والكرامة، يهتف مغنيهم (وتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا).

تشكلت حكومة أكتوبر في الأول من نوفمبر 64،  برئاسة السيد، سر الختم الخليفة، أحد رواد التعليم في جنوب السودان، وقيادة جبهة الهيئات، وهي تحالف نقابي- سياسي تسيطر عليه النقابات والاتحادات المهنية والمثقفين، كان حاملا لرؤى وأهداف الثورة.

لم يمض وقت طويل حتى برز خلاف بين تيارين برزا بعد أكتوبر. ضم التيار الأول الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة وجبهة الميثاق الإسلامي (الأخوان المسلمين)، واتخذ اسم الجبهة القومية، وضم التيار الثاني جبهة الهيئات يدعمها الحزب الشيوعي السوداني وحزب الشعب الديمقراطي.

الأسباب المعلنة لذلك الخلاف هي اتهام الجبهة القومية لرئيس الوزراء، الخليفة، ولوزراء جبهة الهيئات، بأنهم يعرقلون قيام الانتخابات، بسبب سيطرة مجموعة محددة على جبهة الهيئات.

قلنا إن ما ورد كان الأسباب المعلنة، لكن دعونا نسمع الأسباب الحقيقية لذلك الخلاف. في دراسة بعنوان (في ذكرى 21 أكتوبر 1964): تقول د. فدوى عبد الرحمن علي طه في تلك الدراسة: “اتضح من الصراع الذي دار بعد تكوين الحكومة الانتقالية الأولى أن ظهور القوى الحديثة ممثلة في العمال والمزارعين والحزب الشيوعي، وما وجدته تلك القوى من تأييد بين قطاعات واسعة خاصة الشباب، كان مدعاة لتخوف القوى التقليدية على مكانتها في الحياة السياسية ومن ثم سعيها للإسراع بإجراء الانتخابات”.

لذلك طالبت الجبهة القومية، وتضم الأحزاب الثلاثة، باستقالة الحكومة، وهي لم تكمل بعد أربعة أشهر. أصدر أحد أقطاب حزب الأمة بياناً ذكر فيه: “أن لحزب الأمة القدرة على تغيير الحكومة، إلا أنهم يفضلون حلاً مدنياً.. [لكن] إن لم ينجح ذلك الحل فسيجد حزب الأمة نفسه مجبرا على استخدام القوة”..

كان ذلك في اليوم الثاني من شهر فبراير 1965.. بعد يومين من ذلك البيان، تقول د. فدوى، “امتلأت العاصمة بآلاف من الأنصار الذين وفدوا من الأقاليم وهددوا الحكومة وطالبوا باستقالتها”.

تجمعنا، بعض إخوتي وأبناء أخوان وأخوات، يدرس بعضهم في العاصمة، حول المذياع في بيتنا، مساء يوم 18 فبراير، بعد تنويهات متكررة للمواطنين، بانتظار بيان مهم من السيد سر الختم الخليفة.

تحدث الخليفة في أول البيان عن رضائه بما قامت به حكومته في ثلاثة أشهر ونصف، وانتقل بعدها إلى الخلاف بين الموقعين على ميثاق ثورة أكتوبر، وقال إن ذلك الخلاف أفسد الجو السياسي، حتى وصل موضع أعلن فيه استقالته “حرصا على مصلحة البلاد وسلامتها”. حينها انفجر أحد إخوتي ببكاء عال وهرع راكضا بعيدا عنا..!

طافت هذه الذكريات بذهني وأنا أتابع اليوم، 5 ديسمبر 2022، مراسم التوقيع على الإعلان الإطاري. مشتركات كثيرة بين ذاك اليوم وهذا. تلخصها مرة أخرى كلمات بروفيسور فدوى طه. فاليوم، بعد ثورة ديسمبر، كما بالأمس بعد أكتوبر قد “اتضح للقوى التقليدية .. أنه من الممكن أن تنشأ في السودان حركة سياسية مستقلة عنها، تتكون .. من منظمات نقابية ومهنية وجماعات سياسية لم يكن لها شأن من قبل.. تستطيع نسف أي حكم قائم وتشكيل سلطة لا تنتمي للقوى التقليدية”. فـ الأحزاب التقليدية تتمسك بالديمقراطية الشكلانية التي تقتصر على الجانب السياسي، وتستبعد المضامين الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية، التي تنصف المجموعات الثقافية “الإثنية” غير العربية الإسلامية- كما تؤكد د. فدوى في دراستها المذكورة عن ثورة أكتوبر.

وكذلك هو الحال الآن، فمجمل ما جاء في الاتفاق السياسي الإطاري الموقع اليوم، غير معني بتجسيد شعارات ثورة ديسمبر، ولا بتحقيق غاياتها، ولا بإحداث التغيير الديمقراطي التنموي، الذي نادت به، وإنما بعرقلته والقفز عليه، ما استطاعت إلى ذلك سبيلا: ويبقى، أخيرا، أن البكاء ليس هو الحل، وإنما مواصلة النضال من أجل تحقيق الآمال.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *