صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

عن عِمارة بلا معماريين

شارك هذه الصفحة

واجهة برج ديفيد، كاركاس- فنزويلا، المصور ايوان بان
وفاء عبد العظيم محمد*

هذه المقالة بمثابة تتبع للحظات في سيرة وتاريخ المفهوم (عمارة بلا معماريين)، منذ ظهور هذا المفهوم لأول مرة في الستينيات، ثم لاحقا في عباءة (فينمينولوجيا العمارة)، وحتى الاستخدامات المعاصرة له، وما قد يعني لمستقبل العمارة!

“عمارة بلا معماريين”؛ كان اسم معرض أقيم في متحف الفن الحديث بنيويورك (موما)، في الشهور الأخيرة من العام 1964 والأولى من العام 1965. وكانت فكرة المعرض قد نبعت من برنارد رودوفيسكي،  وستكتسب فكرة المعرض والمصطلح، عبر السنوات، عددا من المعاني

المعنى الأول، وهو موضوع المعرض: عمارة السكان المحليين حول العالم، وهو العنوان الفرعي للمعرض والكتاب، ومقدمة للعمارة غير المؤصلة. قام رودوفيسكي بجمع عشرات الصور الفوتوغرافية لأنواع من المباني، إلى جانب أنماط وتقنيات بناء مختلفة حول العالم، كما أتى بعمارة مجهولة المصمم، صنعتها الحاجة والصدف، وصقلت عبر مئات السنين، ربما لدرجة الكمال، كل هذا في محاولة من رودوفيسكي لتقديم “الآخر الثقافي.”

ما أراد إثباته بالمعرض هو نوع من المعارضة لعقيدة عمارة الحداثة، ومقاومة للزعم القائل بأن كل شيء يمكن أن يصمم، وأنه يمكن إحداث التغيير المجتمعي عن طريق التدخل العمراني، وأن العمارة تمتلك هذا النوع من القوة لتغيير حياة الناس وأفكارهم، وأن هذا التغيير لا يمكن أن يكون عفويا، أي، لايمكن أن نصمم شيئا دون أن نعرف الهدف أو الغاية النهائية منه، أو التأثير الذي سيحدثه.

في ذلك السياق الزمني من ستينيات القرن الماضي، كان المعرض مثيرا للجدل، كونه يحمل لهجة الثقافة البديلة (المناوئة)، وينعش حالة الإحباط من موجة التحديث المجتمعي والفلسفة الوضعية، ومن المشروع الحداثي كله في أوجه: حركات التحرر والمطالبة بالحقوق المدنية، الثورة الجنسية، الاحتجاجات ضد الحرب في فيتنام، ميشيل فوكو، جاك دريدا، ليوتار، جيل البيت، الآن غينسبيرغ والـ “عواء”، ثورة المخدرات، البيتلز، وربيع براغ. في ذلك المناخ السياسي والثقافي، كان المعرض واحدا من أنجح المعارض التى أقامها المتحف إطلاقا.

في ذلك الوقت، لم تكن العمارة الحديثة ترى سوى ذاتها، ولم تكن ترى أي شرعية حتى لإطلاق مسمى عِمارة على هذا النوع من المباني؛ العمارة بالنسبة لها كانت إما المباني الأثرية لمدينتي أثينا وروما، وهي مبان مقدسة، أو العمارة الحديثة.

ما حاول رودوفيسكي تقديمه هو أن المباني العادية التي يصنعها الناس لحياتهم اليومية ومعيشتهم، تستحق أن يطلق عليها عِمارة، وتستحق التقدير، وأنه، في سياق الفشل الذي كان محيطا بالعمارة الحديثة؛ فهذا طريق إلى التعلم.

بعد المعرض، واصل المفهوم حضوره في العمارة، وتوسع مكتسبا معانٍ أخرى، مثل تناوله من قبل المعماري الفلندي جوهاني بلاسما، في محاولته لتقديم فينمينلوجيا للعمارة، عدا أنه لم يكن يتحدث عن العِمارة المحلية، إنما عن مفهوم أكثر تجريدا.

إن الفينميلوجيا، وفقا لهورسل هي “النظرة الخالصة للأشياء”، أو “عرض جوهرها”. إنها تنظر إلى الوعي فقط في البعد الخالص للوعي، بدون اللجوء إلى أي أساليب تحليلية مستمدة من العلوم الطبيعية، بمعنى آخر، هي اختبار للوجود، أكثر مما هي محاولة لتحليله أو تفسيره. وكانت فينومينولوجيا العمارة أكثر ارتباطا بهايدغر منه بهورسل، ووجدت مقالته Building dwelling thinking صدى واسعا بين المعماريين والمنظرين المعماريين. على سبيل المثال، كريستيان نورمبيرغ- شولز في مقالته Heidegger’s Thinking on Architecture (1983)، وكينيث فرامبتون في مقالته (On Reading Heidegger (1974، ربما لأن هايدغر هو الذى وسع مجال الفينومينولوجيا لتشمل أفرعا أخرى من الفلسفة، بدلا عن مقاربة هورسل التي كانت في أصلها ابيستملوجية.

بلاسما كان سائرا في نفس خط رودوفيسكي النقدي تجاه العمارة الحديثة، لكن تركيزه كان منصبا على نقد النظرة العقلانية أو (العلموية) تجاه العِمارة؛ إذ، وفقا له، إن العمارة هي، في نهاية الأمر، فن، ولا يمكن التعامل معها كما يتم التعامل مع العلوم الطبيعية، إذ أن الفن لا يصبح حقيقة وواقعا إلا في لحظة اختباره، والعمارة، أيضا، ليست واقعية بالنسبة للوعي الذي يختبرها إلا في لحظة اختبارها، أي أن الفيصل هو المعايشة، وأن هذه المعايشة لا يمكن أن تختزل وتجرَّد بالأسلوب التحليلي.

وجهة النظر نفسها تتكرر عند كريستيان نورمبيرغ- شولز في حديثه عن المكان، إن المكان هو “كل” تام وشامل، متكون من أشياء مادية يمكننا اختبارها والإشارة إليها بصورة مادية: شجرة، رمل، حالة طقس معينة، ضوء، ظلام… إلخ، وليس مجرد تقاطع لخطوط الطول والعرض أو البيئة، أو مجموع لمفاهيم مجردة، وبالتالي؛ فإن الطريقة التحليلية القائمة أصلا على مبدأ التجريد واستخراج المفاهيم المجردة من الأشياء المادية، لايمكن استعمالها في توصيف المكان، إذ أن أي اختزال له إلى أي من صفاته يفقده ذلك “الكل” المميز.

يتحدث بلاسما عن المصطلح “عمارة بلا معماريين” في إطار “النظرة الخالصة للأشياء”، مشيرا إلى أن العمارة الموجودة في الأدب والسينما والمسرح والرسم هي نظرة خالصة للعِمارة كما اختبرها هؤلاء: الكتاب الرسامين والمخرجين، إذ لابد من أن يوجدوا “مكانا” يستضيف الحدث الإنساني، وبذلك فهم يقومون بعمل تصميم فن معماري بدون مستخدم أو حسابات إنشائية أو إذن بناء.

يستعير شولز تحليل هايدغر للشعر في محاولة عرضه لتحليل فينمينولوجي للمكان. يمكن تطبيق الأمر نفسه مع مثال آخر من الأدب. مثلا، لطالما ادهشتني مقدرة الطيب صالح على وضع بيئة مشاهده، وصف مباشر للمكان، بدون أي تجريد، ولعل الفقرات التى يصف فيها الراوي بيت جده هي أكثرها وضوحا: “وقفت عند باب دار جدي في الصباح. باب ضخم عتيق من خشب الحراز، لا شك أنه استوعب حطب شجرة كاملة.. هذه الدار الكبيرة ليست من الحجر ولا الطوب الأحمر، ولكنها من الطين نفسه الذي يزرع فيه القمح، قائمة على أطراف الحقل تماما، تكون امتدادا له. وهذا واضح من شجيرات الطلح والسنط النامية في فناء الدار والنباتات التي نمت في الحيطان نفسها؛ حيث تسرب إليها الماء من الأرض المزروعة. وهي دار فوضى قائمة دون نظام، اكتسبت هيئتها هذه على مدى أعوام طويلة: غرف كثيرة مختلفة الأحجام، بنيت بعضها لصق بعض في أوقات مختلفة، أما حسب الحاجة إليها أو لأن جدي توفر له شيء من المال لم يجد وسيلة أخرى ينفقه فيها. غرف تؤدي بعضها إلى بعض، بعضها لها أبواب وطيئة لابد أن تنحني كي تدخلها، وبعضها ليست لها أبواب إطلاقا، بعضها لها نوافذ كثيرة، وبعضها ليست لها نوافذ.. هذه الدار مصيرها مرتبط بمصير الحقل، إذا اخضر الحقل اخضرت، وحين يجتاح القحط الحقول يجتاحها هي أيضا”.

“وقف” هنا، عند هذا الفاصل بين “الداخل” و”الخارج”. لا يمكن اغفال الأوصاف المادية والواقعية هنا، “عتيق”! إذ أن الزمن لايمكن تجاهله. من “الخشب”، ومن نوع معين من الخشب الذي هو “الحراز” وليس نوعا آخر، ومن “شجرة” واحدة معينة صنع الباب.

ننتقل الآن إلى هذا الوصف لدار واحدة معينة ليست نموذجا لكل الدور، وأول ما يبتدئ به الوصف هو حجمها ومما بنيت، الطين، وليس أي طين، إنما نفس “طين الحقل”، حتى أن النباتات نمت حيث تسرب “الماء”.. ماء النيل، والنيل هو المحرك الخفي لكل هذا وسبب وجوده أصلا، وإذ لا حياة بدونه. هذه الدار ليست كيانا منفصلا، ولكنها مرتبطة “بمكانها” ارتباطا لا فكاك منه، ليس ارتباطا اقتصاديا بالحقل، أو اجتماعيا بالناس، انه ارتباط وجودي، مصيرها متحد مع مصير هذه الأرض التى تقوم عليها، واذا انتزعت من هنا تموت، “إذا اخضر الحقل اخضرت، وحين يجتاحه القحط يجتاحها أيضا”.

“وهي دار فوضى قائمة بدون نظام”؛ في معارضة صريحة لإحدى ركائز الحداثة (النظام)، “اكتسبت هيئتها على مدى أعوام طويلة”، ليست مصممة لغرض معين، وليست شيئا ثابتا وضع في مكانه ليبقى، وقطعا ليست آلة لتعيش فيها”. العمارة هنا ممثلة في هذه الدار هي كما الكائن الحي، تحيا وتموت وتنمو أيضا، تستجيب لبيئتها ولاحتياج ساكنيها، تزداد هنا عندما يراد لها وتنقص هناك، جزء أصيل من نسيج الحياة، لاهي دخيلة على الحياة، ولا الحياة دخيلة عليها، لا خطة، لا برنامج ولا مصمم أيضا يستمع لرغبات الزبون ويستخرج إذن البناء.

تم استخدام المفهوم مؤخرا من قبل المصور المعماري ايوان بان في حديثه عن معرضه بالتعاون مع (ايربان ثينك تانك) وآخرين في النسخة الثالثة عشر من معرض البندقية. كان محتوى المعرض مجموعة من الصور الفوتوغرافية لحالة استثنائية لطالما ظلت تدهش المعماريين ومخططي المدن: حالة برج ديفيد.

برج ديفيد الذي يقع في قلب العاصمة الفينزولية كاراكاس هو ناطحة سحاب من 45 طابقا، صمم ليكون رئاسة بنك، ثم توقفت أعمال البناء فيه في أعقاب أزمة مالية ضربت فنزويلا في بدايات التسعينيات، وبقي البرج غير مكتمل حتى اليوم، هيكل ضخم من الخرسانة ملحق به برج آخر من 10 طوابق بني ليكون موقفا للسيارات.

في ظل معاناة فنزويلا من أزمة سكن حادة وارتفاع أسعار العقارات، إن وجدت، بدأ الناس ببساطة بالانتقال إلى السكن في برج ديفيد. عند انتقال الساكن الجديد إلى البرج يجد أرضا تحت قدميه، سقفا فوق رأسه، وتوصيلات كهرباء وصرف صحي، كل ما عليه فعله، بعد ذلك، هو تحديد مكان سكنه المختار بتعليق شراشف أو قطع من الأقمشة بين الأعمدة، ثم شيئا فشيئا، يقوم ببناء ما يصبح بيته، حسبما تسمح به موارده المالية، وحرفيا بيديه.

الاختلافات الموجودة بين المساكن في البرج مذهلة، هناك أشخاص بيوتهم من الطوب فقط، لا أكثر، وهناك من استطاع تغطيته بطبقة جبص ودهان ملون، هناك من غطاه بورق الحائط، وهنالك من قام بتغطية كل الأرضيات ببلاط أرضية، وهناك من قام بتزين السقف بالجبص، للدرجة التى تجعلك تنسى أنك في سكن “عشوائي. “

هناك رئيس لهذا المجتمع السكني مسؤول عن فض الخلافات وتوفيق الأوضاع بين الساكنين وتفادي أفراد العصابات وتجار المخدرات الذين كانوا متواجدين بكثرة في بداية استيطان الناس للبرج. كذلك، يقوم المسؤول بالتفاهم مع السلطات نيابة عن المواطنين. هنالك بقالة أو دكان صغير لكل طابق أو مجموعة من الطوابق، تقوم بتوفير الحاجات الأساسية واليومية، حتى لايضطر السكان للنزول عند احتياجهم؛ إذ أن البرج خالٍ من المصاعد، والثمانية والعشرين طابقا المستعملة حاليا يتم الوصول إليها عبر السلالم. هناك جدول لتنظيم أعمال النظافة في الأماكن العامة (الممرات مثلا) وتاكسي (أو دراجات نارية) تقوم بتوصيل الناس إلى الطابق العاشر عن طريق مبنى موقف السيارات، وأيضا ملعب كرة سلة في الطابق الأرضي.

خلق الناس حياة حقيقية وأصيلة من هيكل خرساني غير مكتمل، البيوت نفسها تحكي قصص ساكنيها، والمبنى كله عبارة عن كتاب كبير، يحكي عن القدرة اللانهائية للناس على التكيف وتبنى المكان لتلبية احتياجاتهم، لا شيء مما يوجد الآن في برج ديفيد كان مخططا له، لم يكن في أكثر أحلام مصممي البرج جموحا أنه سوف يكون بيتا لـ 3000 شخص لا ملجأ لهم سواه. وكل هذه “الحلول التصميمية” لم يتدخل فيها أي معماري أو مصمم أو مخطط مدن، إنها استجابة العامة لحل مشاكلهم.. عِمارة صنعها الناس من أجل أنفسهم.

الآن، من بين كل “العشوائيات” فإن ما يجعل برج ديفيد مميزا هو أنه ليس عشوائيا بالكامل، إنه نصف عشوائي، القاطنون فيه وجدوا الأساس جاهزا وقاموا بتطويعه، هذا يأخذنا إلى تشيلي، وإلى اليخاندرو أرافينا.

مشروع Quinta Monroy، اكيكي- تشيلي، اليخاندرو أرافينا ELEMENTAL

في العام 2004، طلبت الحكومة التشيلية من اليخاندرو ارافينا تصميم لبناء مسكن أو مساكن لحوالى 100 أسرة كانت قد استوطنت عشوائيا منطقة في مركز مدينة اكيكي في شمال تشيلي، بميزانية محدودة جدا، لم يصمم ارفينا مساكن فقط، إنما قام بتصميم استراتيجية كاملة قوامها فكرة (السكن التدريجي)، وبدلا من أن يبني بيتا كاملا قليل الجودة قام بتصميم وبناء “نصف بيت جيد” تاركا النصف الآخر ليكمله الساكنون عند استطاعتهم، وقد فعلوا، تماما كما في برج ديفيد، نصف بيوت ارافينا مصممة والنصف الآخر هو “عمارة بلا معماريين.”

إذن، بعد كل هذا: لماذا لا يبني الناس فحسب، كما بنى أجدادهم؟ لماذا تدفع المبالغ الكبيرة لشخص ليقوم بما يمكن أن تقوم به بنفسك؟ هل من الضروري، بالنسبة للعالم، أن يوجد معماريون؟ الأسئلة الكبيرة في الغالب ليست لها إجابات حاسمة، مزيج بين (نعم ولا وربما)، إجابتي الشخصية لهذه الأسئلة جمعيها هي أن العالم، وبفعل قوى الحداثة، ما عاد كما كان، ومحاولة حشر إجابات من الماضي ستنتهي بالفشل، نحن مجبرون على أن نعيش بشروط اليوم، وشروط اليوم مختلفة، وأولها هو التخصص: في عالم اليوم شديد التخصص، أغلب الظن إنك تحتاج إلى شخص يقوم بوضع الأساسيات، رسم الخطوط العريضة، ومنها يمكن أن يستمر الناس. الشرط الثاني هو الحجم والسرعة التي تنمو بها المدن اليوم، شئنا أم أبينا فالناس سينتقلون إلى المدن، وحدهم لا يستطيعون جميعا توفير سكن. الشرط الأخير، برأيي، هو التكنلوجيا، السرعة التي تتغير بها، والمعرفة التي تحتاجها تجعل وجود “الخبير” ضروريا في مرحلة ما. إذن، نعم وجودهم ضروري إلى حد كبير، لكن هذا يدفعنا إلى الجهة الأخرى: هل ينبغي أن تصمم المباني من الألف إلى الياء، مما يعني، في أغلب الأحيان، أن تُحرم من فرصة النمو، التوسع والتطور؟ محاولة تصميم كل شيء ووضع تصور مسبق صارم ونهائي فشلت أيضا، واتضح أن مجال المعايشة الإنسانية أوسع من أن نحيطه.

في مفترق الطرق هذا، إن تجربة مثل تجربة اليخاندرو ارافينا قد تمثل مخرجا وبداية للحل، ذلك أنها ليست “عمارة بلا معماريين”، وليست، أيضا، “مليئة بالكثير من المعماريين”. إنها ليست من الحلول الحدية، ولا تتبع استراتيجية أبيض/ أسود، إنها المنطقة الرمادية في الوسط، ولهذا قد تنجح!

* معمارية وباحثة

شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *