هل كانت بالعاصمة الخرطوم مكتبات عامة للقراءة؟ يبدو السؤال محرجا ومريرا، وفي غاية الغرابة، بل إن الإجابة عليه ربما كانت مربكة ومحرجة بشكل أكبر. نعم كانت هناك مكتبات عامة، بدأت في الأربعينيات من القرن الماضي، وتأسست بمكتبة (دار الثقافة- 1943)، لكنها الآن توارت وغابت تدرجيا حتى لم يعد لها من أثر، ونشأ جيل في الخرطوم ليس في ذاكرته هذا النوع من الأماكن العامة المهمة.
في الواقع، حظيت مدن البلاد بنحو 11 مكتبة تأسست بين الأعوام 1943- 1978 في كل من مدني، الأبيض، بورتسودان، الفاشر، الدمازين، عطبرة، أم درمان، الدويم، إذ كان التخطيط الحضري للمدينة يقتضي وجود المكتبات العامة في كل حي سكني تبعا لما اقترحه الخبير ب. س. سيول 1960، وباركر 1972- 1975، الموفدان من اليونسكو في ذلك الوقت بطلب من الحكومة.
ومنذ ذلك التاريخ، توقف تأسيس المكتبات العامة حتى العام 1993، حيث قامت حكومة انقلاب الإنقاذ بتأسيس مكتبة القبة الخضراء، لكنها توقفت وآل مكانها إلى مجمع استثماري، ودخلت المكتبات العامة في إهمال كامل رغم إقرار تخطيط المدن بأهميتها، وربما شذت قليلا محاولات محدودة من أسرة المرحوم البشير الريح التي أسست مكتبة في العام 1988 لتخليد ذكراه، ومكتبة المركز الثقافي الوطني التي أسسها علي طه مهدي، 1997، ومكتبة حافظ الشيخ الزاكي 2013. ومع هذا الاجتهاد إلا أنها كانت عرضة للخلل المتعلق بالتوزيع السكاني أو صعوبة الوصول إليها، أو أنها أنشئت وسط مصادر ضوضاء.
في الخرطوم، تعد وزارة الثقافة والإعلام الولائية هي الجهة المعنية بالإشراف على المكتبات العامة ومساحاتها وأماكن توزيعها في الأحياء، إلا أن الوزارة تقاعست عن هذا الدور لعدة سنوات، ففُقدت كثير من المساحات المخصصة للمكتبات وتغيرت أغراضها وآلت إلى جهات أخرى.
ومع هذا التقاعس الرسمي تمددت معضلات أخرى قللت من وجود المكتبة العامة في حياة الناس.
كان صديق الأنصاري موظفا بمكتبة البشير الريح العامة، أم درمان، وما تزال ذاكرته مليئة بإحساسين متناقضين؛ فبقدر امتنانه للمكتبة التي فتحت أفق جيله للمعرفة، إلا أنه يحمل ذكريات سيئة جراء سلسلة من الإجراءات التي فرضتها أجهزة متعددة على نشاط المكتبة إبان سنوات الإنقاذ، منها إجراءات متعلقة بأخذ الإذن من المحلية وقسم الشرطة لمنح التصديق بإقامة الأنشطة التي تتولاها المكتبة في ساحتها.
مرة أخرى، ومع بدء الحكومة الانتقالية برئاسة عبد الله حمدوك، أطلت رغبة الناس في إنشاء المكتبات العامة، ففي منتصف العام 2020، كانت مجموعة من السودانيين، بالداخل والخارج، على موعد من تنفيذ فكرة لتأسيس مكتبات عامة تخلد ذكرى شهداء ثورة ديسمبر. وبالفعل، بدأ مشروع (مكتبات الشهداء)، الذي وزع آلاف الكتب من أجل نشر الوعي في الفضاء العام.
ويقول عادل جبريل، وهو كاتب وقاص وأحد المبتدرين للمشروع التطوعي، إن فكرة بدء مكتبات عامة باسم الشهداء جاءت باقتراح من إخويه، محمد وعوض جبريل؛ حيث تبرع محمد، المقيم بهولندا، بمجموعة من الكتب المتنوعة، وسرعان ما وجدت الفكرة متحمسين آخرين. وتمكنوا مجتمعين من أنشأنا (28) مكتبة في مدن وبلدات مختلفة من أنحاء السودان.
قبل الانقلاب في 25 أكتوبر، كانت الظروف مواتية لإنشاء المكتبات العامة في الأحياء، مثلما فعلت الكاتبة سارة الجاك التي افتتحت مكتبة عامة، وتقول سارة إن الأمر لم يتعد أن تقوم (لجنة الخدمات والتغيير) بمخاطبة إدارة الثقافة في المحلية بطلب مخصوص، وبدورها ستتأكد إدارة الثقافة من خلو الحي من مكتبة مقامة وفاعلة، ومن ثم تصدق على الخطاب وترفعه إلى إدارة الثقافة الولائية، التي تحرر طلب تخصيص أرض في المحلية المعينة من وزارة التخطيط العمراني الولائية، وبعد التصديق عليه تتولى إدارة المساحة تنفيذ القرار التخطيطي، وبناء عليه يتم تسليم القطعة إلى لجنة الخدمات، ومن بعد ذلك تتم المتابعة الحكومية إلى أن يتم التسليم من إدارة التنمية التابعة للوزارة.
رئيس هيئة تحرير صحيفة الحداثة