صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

خيوط سرد الصويم.. حقيقة الإنسان

شارك هذه الصفحة

بَرقَتِ الذكرياتُ في عيني عبد الحفيظ مريود حينما سألته عن تجربة منصور الصويم الحياتية وعلاقتها بإنتاجه الروائي.. فتداعى سارداً تفاصيل ثلة أصدقاء نيالا البحير: ناصر السيد، ياسر المصري، منتصر صديق؛ وانتقلت كاميرا مريود إلى حي شم النسيم وزريبة المحاصيل بنيالا حيث كان منصور الساعد الأيمن لأبيه إدريس الصويم التاجر المثقف وأحد أعيان المدينة والذي تعود جذوره لأسرة من نهر النيل دفعت بها التجارة إلى حواضر كردفان ودارفور.

ويضيف مريود: “كنا ثلة من المهتمين بالأدب ونقده ومناهجه، وبالقرب من شجرتين عظيمتين بجوار منزل الصويم بحي شم النسيم كنا نلتقي وحينها كان منصور يعرض علينا قصصاً قصيرة، كان ذلك في أوائل التسعينيات”. ويقول أيضاً: “أعتقد أن عوالم زريبة المحاصيل ولغة أهلها من التجار القادمين من مختلف الجهات القريبة والبعيدة قد غذَّت الذاكرة السَّرديَّة الأولى لمنصور، والتي من خلالها بدأت رحلة الكتابة لديه ولا زالت”.

دفعتِ الحياةُ منصور الصويم – المولود بمدينة نيالا في العام 1970م والذي تلقى بها تعليمه الأوَّلي والثانوي – للانتقال إلى العاصمة الخرطوم، قبل أن تنتقل أسرته أيضاً إليها، وفيها اشتغل بالتجارة لفترة ثم التحق بكلية الموسيقى والدراما وتخرج فيها بقسم الدراسات النقدية، وهو – بحسب إفادات أقرانه – أحد “المشخصاتية” البارزين في مدينة نيالا وأحد مؤسسي بها فرقة فنون جنوب دارفور.

وعن ذلك يقول الكاتب الهادي راضي صديق منصور وزميل دراسته: “في المرحلة المتوسطة كان بالفصل مغنون موسيقيون وشعراء ومسرحيون ولاعبو كرة قدم، وبالتأكيد ذوو الميول الأكاديمية. هنا تحددت الأشياء: اتجهنا منصور وأنا صوب المسرح أولاً، تأليفاً تمثيلاً وإخراجاً، وكوَّنا فرقة جبل مرة المسرحية مع ثلة من الزملاء تحت إشراف الأستاذ حسن الأمين التهامي”.

ويضيف راضي: “ثمة عوالم في المدينة نُسجت متزامنةً لتزيد من إلفة المرحلة: مهرجانات الفرح في مواسم الأعياد والمناسبات، بل أحياناً تُقام دون مناسبة، فقط لأجل الفرح. لكم شهدنا في ساحة المولد وفي الأحياء المتناثرة في المدينة حفلاتٍ للرقص الشعبي وعروضاً فلكلوريةً باهرة. هذا غير ذلك المكان الذي يُسمى (سوق أم دفسو) هو حيّز خصه الله بالفرادة، لا يتكرر، يَحيك عالمه المختلف وحدَه، يجترح لغةً تخصه، تختفي هذه اللغةُ بخروجك من حدوده. كنا داخل هذا العالم وجزءاً منه، ومن داخل دكان العم إدريس الصويم كان لمنصور ما يمكن أن تسميه (ركناً أدبياً) يتحلَّق حوله ثلة من الأصدقاء، منهم عبد الحفيظ مريود وناصر السيد على سبيل المثال”.

أسَّسَ منصور ومجموعة من الكتاب منتدى نيالا الثقافي الذي كانت بذرته اللقاءات الراتبة بمنزل شم النسيم ودكان الحاج إدريس الصويم.

يقول الكاتب والقاص عبد الحفيظ مريود: “في بداية الألفية الثالثة فاجأني منصور بمخطوطة رواية تخوم الرماد، وهي العمل الروائي الأول له، وشرعنا في مراجعتها وتنقيحها حتى نُشِرَت من دار الأكاديمية”.

عمل منصور بالصحف السودانية مدققاً لغوياً ثم انتقل للمملكة السعودية للعمل في مجال التحرير الصحفي، هذا بالإضافة إلى عموده الصحفي الراتب بصحيفتي اليوم التالي والأخبار السودانيتين، متناولاً فيه قضايا عامة بطابع سردي، كما أكسبت تجربتُه الصحفيةُ لغةَ الرواية لديه رشاقةً وقدرةً على الإيجاز والوضوح.       

للصويم خمس روايات منشورة تنوَّعَتْ وتشكَّلت عوالمُها في أماكن مختلفة بين دارفور والخرطوم والسعودية، متضمنةً شخصيات بُنِيَتْ على ظلال الواقع، تتعَّدد فيها الأصوات الرَّاوية كما يشهد القارئ في روايتَي (أشباح فرنساوي) – التي تتراوح عوالمها بين نيالا التسعينيات وخرطوم مطالع الألفية الثالثة – و(آخر السلاطين) التي قدَّمت رؤية لتاريخ دارفور عند سقوط حكم آخر سلاطينها علي دينار في معركة برنجية، ومن قبلهما (ذاكرة شرير) الحائزة على جائزة الطيب صالح  بمركز عبد الكريم ميرغني وصدرت عنه في العام 2005، ثم قُدِّمت ترجمة لأوَّل أعماله (تخوم الرماد) لجائزة الطيب صالح للإبداع (زين)، من قبل المترجم ناصر السيد وحاز بها على جائزة الترجمة في العام 2011. ثم صدرت (عربة الأموات) عن دار مسكيلياني للنشر والتي يندفع فيها أبطالها الموفدون للعمل بالسعودية للرجوع إلى بلادهم بعد أحداث ديستوبيَّة.

اختيرَ الصويم ضمنَ أفضل 39 كاتباً عربياً دون سن الأربعين ببيروت وشارك في أول مختبر كتابي للرواية بإشراف (بوكر العربية) 2009 في أبي ظبي.

نسأل منصور: ما الذي دفعك لهذه المغامرة – الكتابة – هل تذكر؟ عمَّ كنْت تبحث؟ وعمَّ تبحث الآن؟ فيجيب: “أحاولُ مراراً الالتفات والإمساك بتلك اللحظة أدمجتني في الكتابة وصيرتنا طريقاً واحداً.. هل كنت أبحث عن شيء محدد؟ عن طريق ما؟ بلا شك أن الإجابة ستكون نعم، وأن الكتابة كخيار تبلور بعد اقتناعي التام أنها المُعبِّرُ الوحيد الذي بإمكاني عن طريقه أن أواجه أسئلتي وأن أوجهها وأن أتمكن من محاورة العالم والأشياء من حولي، خيار توافق مع قدراتي النفسية والتخييلية وظروفي الموضوعية وقتها، لم أجد نفسي في الكيانات الكبيرة (أحزاب، مجتمع مدني)، أدركت مبكراً أن ما يقلقني من أسئلة ويحاصرني من شكوك ويؤرقني من أزمات لن أصل إلى تماسات معه ومحاولات تفجيره لخلق إجابات إلا عن طريق الكتابة.. هذا كان عند البدايات وهو مستمر إلى الآن”.

يعتقد الصحافي حسام بدوي وأحد المتابعين لتجربة الصويم أن “مشروعه الروائي- بعد صدور (عربة الأموات) –  بات واضحَ المعالم، يعمل فيه على معالجة خلجات وتقلبات النفس، في محيط كوني قاسٍ، ويسير على ذلك بخطى حثيثة، من خلال نصوص سردية تتنوع بين المأساة وعرض الشخصيات والتاريخ”. ويضيف: “بيد أن تنوع المواضيع ليس ميزة الكاتب بل تقنياته الكتابية، فللكاتب قدرته على التحكم في خيوط السرد وبنائه وصنع العوالم التي يقودك من خلالها لنهايات أطر لها مسبقاً واهتم بها لخدمة الإنسان؛ الإنسان المطحون بالرغبات والآمال في عالم لا يرحم ويسحق بجنون”.

يقول الصويم عن مغامرة التكنيك السردي: “الكتابة الروائية تعني لي قبل كل شيء مختبراً فريداً للتجريب، فكُلُّ كتابة جديدة هي محاولة لاكتشاف طرائق وأساليب جديدة في التقنيات واللغة والبناء، وحين أكتب عملاً جديداً فإنني أجد نفسي طوعاً قد ولجت مغامرة التجريب هذه، التي من خلالها تتحقق أصالة العمل وخصوصيته، وكما ذكرت هي خبرات تتراكم تمنح كل تجربة رؤيتها الخاصة، وفي النهاية ما يميز عمل روائي عن آخر تلك الطريقة التي كتب بها، وهي التحدي الدائم الذي يواجه كُتَّاب الرواية”.

بينما يشير القاص والصحافي عبد الرحمن فاروق إلى تماسك خطاب الرواية  لدى الصويم، إضافة إلى المقدرة على فتح مسارات مختلفة للسرد، فرواية عربة الأموات على الرغم من أنها تحكي قصة يغلب عليها طابع المغامرة والحركة إلا أن الكاتب تمكن من فتح آفاق متعددة للسرد استطاع من خلالها خدمة الحبكة في بعض الأحيان، أو خدمة البعد الدرامي، أو خدمة البعد الفكري للنص، وذلك يدل أيضاً على ذكاء وخبرة عميقة، إلا أنه يعيب على الصويم في عربة الأموات انحيازه الواضح لفئات بعينها في الرواية من خلال صوت الرواي العليم تحديداً وعدم استثماره للأسلوب الصحفي الذي ظهر في بعض مواضع السرد، ما أفقد الرواية واقعيتها السحرية على الرغم من أنها ممتزجة بعناصر فنتازية.

 يؤمن منصور الصويم بأن الكتابة باستطاعتها تغيير وجهة نظر الإنسان إلى الأشياء من حوله، وطريقته في التفكير، ورؤيته إلى الواقع في آنه المتحول وما سيؤول إليه، ويقول: “هذه المحاورة التي تتيحها الكتابة الأدبية بين (الكاتب، النص، القارئ)، تخلق حالة من التحفيز النفسي والفكري بما يُتيح للمرء أن يطور من آليات تفكيره بالقدر الذي يساعده على فهم الحقائق من حوله وفي نفسه، هذا التغيير في رأيي يكون صوب الأفضل ويجعلنا نفهم ملغزات هذا العالم بشكل أفضل، كما يُقرِّبنا كثيراً من حقيقة أنفسنا وبالتالي التصالح معها وخلق جسر للتواصل مع الآخر وهدم تلك المتاريس المشيدة من تصورات الوهم.. الأدب يجعلنا نرى بشكل أفضل، الحقيقة أمامنا قبيحة، جميلة.. هي أمامنا”.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *