وازَنَ عمر الطيب الدوش بين كفة ميزان الشعر – بوصفه سؤالا عميقا ومتجذرا وأصيلا وإنسانيا – وكفة ميزان الكلمات المغناة – بكل شجنها الذاتي وبساطة تركيبها وأسئلتها الحارقة المتجهة نحو الذات، في حراكها العاطفي وشرودها المحفوف بالانكباب على مشاغل الهوى؛ وبذا يبدو شعره أحد تجليات مقولة الشاعر الأكبر محمد المهدي المجذوب: أحلم بجيل يجعل الكتابة جزءا من العيش كشرب الماء.
تُعلِّمنا شعرية الدوش كيف يشرب العاشق الماء، ثم يتأمل في ضراوة الزمان الحاضر وشجن الماضي وكوة المستقبل. وقصائد الدوش كما تعي المكان كجوهر سوداني خاص، تُدرك الزمان كسؤالٍ وجودي مستمر.
يكتب عمر الدوش، فتُحدِثُ القصيدة صدىً كونياً، تطول الأشواق حتى تصير أبدية، والعشاق وسط الروح يمشون وتشهق الزهور العطشى حولهم.
ويبدو أن عملاق الغناء السوداني محمد وردي قد اكتشف سر الغناء في شعرية الدوش المغناة بذاتها، قبل أن تتخلق في مؤلفاته الموسيقية، فاجترحت الموسيقى والأداء الشاهق بُعداً رابعاً لشعرية الدوش بأبعادها الثلاثة: الملحمية، والغنائية، والكوزمولوجية.
ينكتب – في شعرية الدوش – اليوميُّ، بلغة الأبد، منتشراً في ظلال المعاني وأشجان الأماكن ودراما الحياة؛ بما يُحقِّقُ تحولاً مزدوجاً في خيال الشعر السوداني المكتوب بالعامية، فضلاً عن تحوُّل نموذج الكلام المغنى من فطارة الأسلوب إلى ابتداعه الحريف. كل هذا أنتج شعراً حميماً كشرب الماء من زير تحت شجرة نيم كثيفة ذات نهار سوداني قائظ.
لا أتخيل أن شعرية بشسوع وتأثير “سيناريو اليابسة” لعاطف خيري على مجمل التدوين الشعري العامي السوداني، يمكن أن تبلغ هذا الشأو من طلاقة المجاز؛ دون المرور بالعين السحرية لشعريات عمر الدوش، التي أبْصَرَتِ المتأملين بالشعر، العالمَ طريقاً للإلفة والوحشة الشعريّتَيْن. والشاهد في ذلك – ليس بالطبع مقاربة نصية بين التجاريب الشعرية – بل الشاهد، حقيقة، هو الأفق المؤثر الذي فتحته قصائد الدوش في أفق الشعرية السودانية. وغير مستغرب عندي ذلك فلشعره قوة جذب المغناطيس؛ شعر كنهر شفاف لكن لا تسطيع يدٌ وصول قاعه.
ما الذي تحركه قصائد الدوش فينا؟
أقول إنها تحرك مكمن الشغف.
إنه شاعرُ عصره، لا غارقا في مثاليات الهوى الحقيبي بانكساراته المهيبة المُهوِّمة في فضاء الحرمان الأليم، ولا مرهونا بسياج أدلوجات عصره الملهمة.. بل هو شاعر الفجيعة والشجن الإنساني في آن.
ينظر الدوش في قصيدته “خطابات حمى الوطن” إلى مدينتي الخرطوم وأمدرمان الغارقتين في ديمومة الفجيعة السريالية:
ﻭﻟﺴَّﻪ بتسكر ﺃمدرمان
ﻋﻠﻰ الشارع…
ﻭﺗتكوﻡ
ﻭﺗﻤرق ﻣﻦ صدر ﻣﺴلول
نهودها
تدوسن العربات ترضع في الكلاب
مشنوقة من عينيها
ﻓﻲ ﺍﻟﺴﺎﺣﺎﺕ.
وفي صورة أخرى يطابق بين فجيعة أمدرمان وفجيعة توأمها غير الشبيه واللدود – الخرطوم:
ولسه بترقد الخرطوم
تبيع أوراكها للماشين
تطل من فوق عماراتها
وتلز أطفالها في النيلين
وترجع للرقاد تاني.
تتأنسن الفجيعة/المدينة، مثالا للامبالاة، مطوية في أربعة (جوابات) محمولة على طيور الشجن المُئنّة:
ﺑﺸﻮﻑ ﻓﻲ جوابك ﺍﻟﺘﺎني
مدن مبنية متكية
بتمرق من شبابيكا عيون برموشها مطفية
شرك لي كل قمرية وأماني كتيرة مخصية
شوارع بالنهار والليل
مدبسة بالحرامية
معلقة في صدور الناس
كلاب أسنانها مبرية.
تحتفظ شعرية الدوش بشعرة دقيقة تمزج بين الغنائية والسؤال الاجتماعي الحارق، وهذا باب أدخل منه الدوش دارج الشعر السوداني إلى أفق الحداثة الشعرية، التي تتحقق فيها أسئلة المجتمع المنطلقة منه وإليه؛ ومع ذلك – كما أشرنا – احتفظت شعريته بغنائيتها المبذولة لكل مفتون بغنائية الشعر.
وإن كان لكل عصر من يتنكبون مهام التحول العميق مما يتكلس من سطوة جمالية مكرسة من الماضي؛ فإن عمر الطيب الدوش هو أحدهم، لكن تلك المهمة- وإن كانت شاقة لدى غيره – لكنها لديه سهلة كسهولة شعره الممتنعة وصدقه وطبعيته.