صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

السر خضر.. شيخ المترجمين السودانيين

شارك هذه الصفحة

الطفل في المكتبة المدرسية، ينفلت إلى إحدى غرفها الجانبية، فيستثير فضولَه كِتابٌ باللغة الإنكليزية، قبل أن يراه أمين المكتبة الإنكليزي، فيقرأ له عنوان الكتاب ويُترجمه لعقل الطفل الصغير المُتفتّح.. هذا الحدث البسيط والعميق في آن، ظلَّ قادحاً لذاكرة شيخ المترجمين السودانيين السر خضر – كما أطلق عليه علي المك في إحدى ليالي مدينة واد مدني في أوائل التسعينيات – وجعله – كما يقول – يُعلِّمُ نفسه بنفسه الترجمة.

وربما أيضاً كان هذا الحدث سرَّ إيمانه بأن الترجمة هي القاعدة الثابتة التي تُحرِّكُ الثقافات للأمام، ونقلة إلى المستقبل. يقول السر: “دون الترجمة لا تعرف ماذا سيحدث؟.. والثقافة بلا ترجمة تموت تلقائياً كما تموت المدن”.

ويقول أيضاً: “أهمية الترجمة في أنها تنقل الحياة الأدبية من عصر إلى عصر. الآن أعمال شكسبير تُنقَلُ من لغتها المُفخَّمة القديمة إلى اللغة العادية”.

درس السر خضر بجامعة الخرطوم كلية الآداب سنتين، ثم أكمل البكلاريوس ناضجاً, وهو من دفعة يذكر لنا منها الخاتم عدلان، عبد الهادي الصديق، محمد المهدي بشرى، كامل عبد الماجد، محمد وقيع الله، شوقي عز الدين؛ وعاصر شعراء وأدباء، يذكر منهم علي عبد القيوم ومحمد عبد الحي، وخالد المبارك، وإسماعيل الحاج موسى، وفضل الله محمد.

عمل بالتعليم العام وتدرَّج من معلم إلى ناظر إلى موجه تربوي، وعمل فترة قصيرة بسلطنة عمان، وهو الآن أستاذ جامعي، وبيته بود مدني ظل مُلتقىً للأُدباء والكُتَّاب من أمثال محمد عبد الحي، ومحيي الدين فارس ومصطفى سند، وغيرهم كثر.

يقول الشاعر عالم عباس عن السر خضر: “لو كنا في عصر المأمون لكان السر خضر صنواً لابن المقفع، ولكانت لدينا روائع التراجم مثل كليلة ودمنة، عملاً إبداعياً خلاقاً، نكاد لا نهتم أو نعرف الأصل الذي ترجم منه، وربما كان السر خضر من الذين ترجموا لنا رباعيات الخيام التي تبارى فيها المترجمون الحُذَّاق من لدن الصافي النجفي وأحمد رامي وغيرهما”. ويضيف عالم في وصف الترجمة الخلاقة: “في راهن زمننا هذا ثمة فتية نذروا أنفسهم لهذا العبء العظيم، فمنهم من ترهبن في ديره لم يصرفه عنه صارف أو يشغله شاغل، أفنوا عمرهم في ترجمة النصوص بفنونها المُختلفة. ليست الترجمة الحرفية (من الحرفة والصنعة) وهذا باب آخر إنما عَنَيْتُ الترجمة الخلاقة الإبداعية، التي هي أساس صنوف الترجمة، لأنها أشبه بالترجمة الروحية، وكأنها نصوصٌ مُوازية للأصل، ترجمة تتغلغل في المعنى وروحه، وبخاصة تلك النصوص التي تتدثَّر بالكلمات ورنينها وموسيقاها، فتُحِسُّها في النفس، وتتلمَّظها بلسان روحك، وتتذوق حلاوتها في قلبك، تلك النصوص الفالتة المُحلِّقة النافرة المنطلقة الحرة، ولا يُروِّضُ جموحها إلا التراجم الحُذَّاق الخبراء بأسرار (الديانات واللّغى)، ذوو الهمم والقدرات المتجددة، وأشهد أن السر خضر منهم”.

يرى السر خضر أن الترجمة شيءٌ من الروح، ما بعد المناهج الأكاديمية المعروفة التقليدية، ويقول: “هناك ترجمة، ولكنَّ هناك قليلاً من المترجمين في عصرنا، عصر التشظي المعلوماتي، خاصة ترجمة الشعر”، ويضيف: “الترجمة نصوصٌ حية، وليست معبراً يتلاشى، بل هي نسيج واحد لعمل واحد، وماعون شامل لكل العلوم والفنون والآداب والفلسفات، وليست معادلات، ولا نستطيع وضع قوانين للترجمة، ولا يمكن إقصاء مبدأ الذاتية فيها، وخصوصاً ترجمة الشعر التي تختلف عن ترجمة الرواية، لأن ترجمة الشعر تحتاج إلى إلهام وحدس ومعرفة باطنية، وأدوات قريبة من كتابته”؛  وكما يقول أيضاً، فإن الترجمة هي المعادل الموضوعي للقصيدة.

أصدر السر خضر قاموس الخدمة المدنية، وسبعة قواميس في مجالات مختلفة غير منشورة، واشترك في إصدار ترجمات للشعر الإفريقي والسوداني، كما ترجم مسرحيات وقصصاً قصيرة نُشرت في السبعينيات بالملفات الأدبية والثقافية ومجلة سودان ناو.

يقول عالم عباس عانياً السر خضر: “هذا الرائد عرفته منذ كان في السبعينيات يترجم نصوصاً من الشعر في مجلة سودان ناو التي كان يرأس تحريرها أيضاً مترجم حاذق هو السر سيد أحمد – وربما كلمة (السر) لها علاقة بأسرار الترجمة – كنا نقرأ للسر خضر ترجمات لشعراء معاصرين في غاية الجمال والدقة.. من كبار شعرائنا من أمثال محمد عبد الحي، ومصطفى سند ومحمد المكي وأبو ذكرى والنور عثمان أبكر.. وتلك الترجمات المُبهرة كان يتلقَّاها شعراؤها وسائر القراء بتقدير عظيم”، ويضيف: “عندما تجد نصَّاً ترجمه السر خضر، فاعلم أن هذا نص بديع.. فالسر لا يترجم إلا الدُّرر؛ فأي نص ترجمه، يتألَّق في ثوب من الجمال يتمنَّى صاحب أي نص أنْ لو عبر من خلال قلمه السر خضر”.

يصف المترجم والناقد وأستاذ اللسانيات د.أحمد الصادق ترجمة السر خضر بالنصاعة والنضارة، وهو كما يقول: “مترجم شفيف ورقيق، حفظ ديوان الشعر السوداني عن ظهر قلب، وتوغَّل في إيقاعاته وفنون نظمه وبمعرفة وحساسية، ولم يسبقه في ذلك أحد، وكانت النتيجة مجلداً ضخماً يحتوي مختارات من الشعر السوداني الحديث، تم تمثيل الخطاب فيها بوعيٍ بالذاكرة الشعرية وفتوحات اللغة وكشوفاتها وفتوقات السؤال، وقد ظل أستاذنا لما يقارب نصف قرن أميناً لمشروعه ولم يحد عنه”.

وعن حياة الترجمة ومُستقبلها، يرى السر أن اللغات في تَغيُّر؛ ففي اللغة الإنكليزية يوجد قاموس به أربعة ملايين كلمة، ويرى أن الترجمة هي إحياء للنصوص، وهذا يحتاج إلى ثقافة وحس وذوق وعمل خلاق. ويضيف: “نحتاج إلى نوع المترجم الخلاق الذي يُولِّد المعاني الداخلية، والترجمة مبحث جديد، إذ إنها تُدرَّس كجزءٍ من علم اللسانيات في حين أنها علم قائم بذاته”.

ويقول السر خضر عن تكوينه المعرفي: “ألتهم الكتب منذ السنة الرابعة كُتَّاب، وفي الجامعة كنتُ ميالاً للقراءة الخارجية أكثر من القراءة الأكاديمية.. أذكر أنني اشتريتُ من إعانتي الشهرية البالغة 25 قرشاً كتاب (المسرح والمرايا) لأدونيس، الذي أعرته للشاعر تيراب الشريف، وأجزم أنه تأثر به كثيراً”.

رغم أن السر خضر نشر ترجماته كثيراً في الصحف والملاحق الأدبية في السبعينيات، وقد أُذيع له شعر مترجم في إذاعة (بي بي سي)، ونشر له محمد الماغوط تراجم في الشارقة، إلا أنه لا يكترث لمسألة جمع أعماله ومخطوطاته ونشرها في كُتبٍ ومُجلَّدات، ويقول: “أُترجم لأستمتع ولا أهتمُّ بالنشر”.

في العام 91م، أُقيمت ليلة بنادي الاتحاد بود مدني، تحدَّث فيها علي المك. فرغ المك من إلقاء المحاضرة التي لم يذكر فيها شيئاً عن الترجمة التي يحب أن يتحدث عنها، فطلب منه الحضور التحدث عن فنون الترجمة، فرد عليهم: “لا أتكلم عنها، وبيننا شيخ المترجمين في السودان، السر خضر”، فسارت باللقب ركبان المثقفين.

يقول د.أحمد الصادق: “السر خضر رائدٌ في أفق الترجمة للشعر السوداني إلى إنكليزية فصيحة، نقلت القارئ المُحتمل إلى نَفَسِ وإيقاع وجمال وبهاء النظم السوداني”، ويضيف: “لم يترك شعراً خاصة من جيله السبعيني إلا وترجمه ترجمةً رصينةً احتفى بها الشعراء أنفسهم، وخاصة الراحلَيْن عبد الرحيم أبو ذكرى ومحمد عبد الحي، والأخير نضد معه (العودة إلى سنار)، وخرجت بضع ترجمات مختارة في ثوب قشيب بتوقيع الشاعر والمُترجم، ولم تقتصر ترجمة السر خضر على الترجمة من العربية إلى الإنكليزية، بل ترجم شعر جيمس جويس على صفحات مجلة الثقافة الوطنية”.

ويُشير عالم عباس إلى أن السر خضر نذر نفسه بكاملها لإنجاز هذا المشروع الضخم في حقل الترجمة، على عكس المترجمين الآخرين في المحيط العربي الذين اشتهروا في جوانب أخرى، ويقول: “المُترجمون جنودٌ مجهولون، ولكن لم نعلم أن حضارة ازدهرت دون أن تتوكَّأ على تُراث حضاري من أمم سبقتها أو عاصرتها، ولا سبيل إلى بلوغ تلك المعارف، إلا عبر ترجمتها من لغاتها الأم؛ فالأمة الناهضة هي التي تحترم الترجمة والمُترجمين، وتبذل في ذلك ما تبذل، وتُنشئ المؤسسات الضخمة جيدة التأسيس والتمويل، لتحقيق هذه الغاية، ولم نلحق بأسباب الحضارة والرُّقيِّ ما لم نفعل ذلك”، ويضيف: “كثيرٌ من رموز الترجمة الإبداعية، ربَّما كانوا من تلامذة بروفيسور إحسان عباس أو جبرا إبراهيم جبرا وحتى أدونيس، وظلوا رموزاً مُتوهِّجة في فضاء الترجمة العربية. وفي السودان خلَّفوا إرثاً من الترجمات الإبداعية، ولكن هؤلاء اشتهروا في جوانب أخرى غير الترجمة، لكن السر لم يكتفِ بالترجمة فحسب، فله باعٌ في تدريب المُترجمين واصطناع القواميس ذات التخصُّص في كل ضرب من فنون الترجمة”.

ويختم عالم حديثه بالقول: “لو كان السر في مكان آخر غير هذا البلد لأقيمت له التماثيل، وهُيِّئت المؤسسات، وعسى أن يأتي اليوم الذي نُكرِّم فيه هذا الترجمان الراهب بإنشاء دار للترجمة، تليق به وبنا، إذا كُنَّا حقاً نسعى للبرَّ بهذا الوطن”، ويضيف: “السر خضر كنزٌ.. لكن لا كرامة لنبي في قومه، وما أقسى ذلك في هذا الزمان!”.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *