صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

أرْهيت؛ سوميت الطّرقات المفؤودة

شارك هذه الصفحة

أنس مصطفى

– اسمي أرهيت محمد إدريس، من الكَارَا

عندما كنت أدوِّن اسمك كنت أحدس أنُّه الاسم الذي سأحمله بطولِ الحياةِ مثل أمل، أعبر به بلاداً وبلاد، وأجتاز بهِ عتماتٍ ومفاوز.

***

السَّماءُ رماديَّةٌ هذا اليوم يا أرهيت؛

حاولت التفكير بقولٍ يشرح ما يعتمل داخلي، لكن لم تُسعفني سوى هذه الجملة اليابسةْ، فالسَّماءُ رماديَّةْ، وبعد قليلٍ ستمطر، لكنَّها سماءٌ أخرى، وزمانٌ آخر لستِ فيهْ، زمانٌ ينغرسُ في الرُّوحِ مثل نابْ.

كلُّ شيءٍ في المدينةِ لونهُ رماديٌّ؛ أسقُفُ البيوت، أرصفةُ الطُّرُقات، العشبُ النَّاشف، فروعُ الشَّجر العارية، كلُّ المدينةِ باللَّون نفسه تقريباً إذا ما استثنينا إشارات المرور المضيئة ولافتات المحلات الملوَّنة، وحدها تشعُّ في نهار الرَّماد هذا، لكنَّ المطر بالذَّات هو ما جعلني أستعيدك مثل أُغنيةٍ قديمةٍ تبعثُ الحياةْ، تخيَّلي أن تنبعث الحياة وسط هذا الحياد الهائل! قلتِ لي وقتها إنك لن تحتملي خسران العشيرة، هذه قوانين الحياةِ هناك، كنتِ تمسكين بي مثل غُصنٍ على وشك الفؤوس، ثم تركنا الوقت يمر؛ ماذا لو كُنَّا في زمانٍ آخر و بلادٍ أخرى؟ ما تزالين خضراء في القلب، حلمتُ أن تنتهي مشاويرنا إلى حيث نود، لكنَّ الهجراتِ والقبائل نصبت خيامها ما بيننا وحفرت خنادقها عميقاً، لم يكن بوسعك خوض حروبٍ مثل هذه، ولم أكن لأدفعك إلى استبدالِ موتٍ بموتٍ يا أرهيتْ.

***

-الأَسكِلَة، الكنيسة، الحَجَر، المحطَّة الأولى ثَّم أكون هناك.

تسألينني عن مواعيد وصولي فأعُدُّ لك ما تبقَّى من المحطَّاتْ، تضحكين وتقولينَ “مُستَهبِل”، الآن لو فعلتِ الشيء نفسه فعليَّ أن أعُدَّ فيافيَ ومحيطات، كلُّ ذلك يا أَرهيت بسبب العَسَاكِر والطَّامحين والطَّوائف، أقول لكِ إنَّ الحياة باتت طرقاتٍ يملؤها الباعة وتكثرُ فيها اللافتات،فتقولين لي لا تلتفت إليها، ليستْ بشيءْ، جهاتكَ في قلبي أحرسها بسهاديْ، فلا تصغي إلاَّ إليَّ، ولا ترنو إلَّاَّ إلى القناديلْ،

أين القناديل الآن يا أرهيت؟

***

-تاجوج.

-اسمي أرهيت.

-أرهيت محمد إدريس، من الكَارَا؟ تدركين عبثي فتصمتين.

اسمك يتأبَّدُ في خاطري يا أرهيت مثل أنشودةٍ في النَّواحي النَّحيلة، سُمرتك التي تسكنُ الرُّوح أبداً، أجنحَتك التي تَخفِقُ في الطُّرقات، كنت تأتينَ عبر ذلك الطَّريقِ التُّرابي المتعرِّج وصولاً إلى وسط المدينةْ، تأتين ملتحفةً ثوبك وتمشينَ بشوقْ؛ ثمة مشيٌ للسَّابلة، وثمَّة مشيكِ المشُوق، كانَ ذلكَ يمنحكِ جمالاً وصِبَاً آسِرين، كنت تُكمِلِين “وطرطشة أيضاً، عارفة!”

كنت تأتينَ عند الظهيرةِ دائماً، تأتين مبلَّلةً بالمطر، وكأنك مجدولةٌ من غيومٍ راحلة؛ ليست كل الغيوم، الغيوم الرَّاحلة هي التي تشبهك، لكنَّك لا تطلبين قهوةً مثلي، ولا كولا، ولا أي شيءٍ من أشيائنا العاديَّة هذه، تطلبين كَرْكَدي ساخنْ، وتضحكين ملء الدنيا، وهذا ما يزيدك طرطشة، تحملين الغيمَ والضَّحكاتِ أينما تذهبين، وتصنعين خريفاً يمرُّ لمرَّةْ، كلُّ شيءٍ يخصُّكِ كانَ يحدث لمرَّةْ، لمرَّةٍ فقط يا أرهيت.

في خريفٍ آخر سألتُ عنكِ، قيل لي ذهبتِ إلى أروما،ما الذي جعلك تذهبينَ إلى أروما في هذا الوقت؟ تبقت بضعة أيَّامٍ لي في هذه المدينة، وأنت تذهبين لقضاء حاجاتٍ مثل هذه التي لا أعرف، ربَّما كنتِ تتفادين أن أُبصر الألم، أو تخافين عليَّ من كلامٍ أخير، تركت لك احتجاجي وحسرتي، ستجدينهما عندما تعودين، كنت أخافُ نَدَماً سيكبر يوماً تلو آخر بحيث يغدو بحجم الحياة نفسها، أخشى أنَّ المرَّة التي قدر لي أن ألتقيك فيها قد انقضت.

***

كلانا كان في مقتبل الحياةِ وقتها، عملت في إحدى المكتبات التي تبيع الكتب الأدبية والصحف اليومية؛ لم يكن صباحي ذاك مختلفاً، نفس التَّفاصيل المعتادة، الشَّاي في البيت، ثم انتظار الحافلات المتأنيَّة التي تقلني من المحطَّة إلى مكان عملي، ركَّابٌ مألوفون أقابلهم كلَّ يوم، سائقون وكماسرة أعرف معظمهم بالاسم، أجراس المدارس عند الثامنة وأناشيد طابور الصباح، أغنياتٌ تنثال من برامج الإذاعة؛ استمر اليوم عاديَّاً هكذا حتى انتصف النَّهار، ثم تبللَّ كلُّ شيءٍ بغتةً؛ تبلَّلت النوافذُ والطُّرقات، أوراق الصُّحف وابتلَّ القلبُ يا أرهيت؛ قلت لي في ظهيرتك الأولى تلك:

-أبحثُ عن كتاب، ليته يكون عندك.

كنت جميلةً دون شك، لكن لميكن استغراقي بسبب الجمال؛ كان بسبب ذلك التآلف الغريب بين سُمرتك واللَّون العسليِّ لعينيك.

 – سأحضره لك، أحتاج فقط اسمك وعنوانك من أجلِ بيانات الاشتراك.

وعدتك أن أحضره لك خلال يومينْ، لكنَّك جئتِ بعد خمسة أيام، لا تكترثين بالأوقاتِ كثيراً، كأنَّ الزمان يمضي وفقاً لمواقيتٍ تعرفينها وحدك، ثمَّ أصبحت الأيام بعد ذلك أعياداً والظَّهيرات حلوى، هأنذا أحمل صوتك أينما ذهبت، أستعيد الجمل الصَّغيرة التي تقولينها مثل أغنياتٍ وتمائم.

***

ونستون تشرشل؛ أمرُّ بهذا الشَّارعِ كلَّ يومٍ منذُ سنينْ، تخضرُّ أشجاره، تزهو في الربيع ثمَّ تذوي في نوفمبر من كلِّ عام، تكفِّنها الثلوج لكنَّها تورقُ ثانيةً؛ أمرُّ بهذا الشَّارعِ كلَّ يومْ، في أوَّلِ الظَّهيرة وقبل منتصفِ اللَّيلْ، أنا أذويْ مثلها أيضاً، تلوِّنني الغُربة بلونٍ رماديٍّ وحيدٍ وتنهالُ عليَّ السَّنواتْ، لكنِّي لا أُورقُ ثانيةً.

وصلتُ إلى عملي قبل بداية الدوام بقليل، كنت أبدو مُلفِتَاً على نحوٍ ما، معظم الموظفين تحسبوا للطقس فاستعانوا بمظلاتهم، هم يراجعون أحوال الطقس كل صباح، ويستمعون إلى أخبار السي بي سي بانتظام، قليلون مثلي لا يفعلون ذلك فيصابون بالبَلَل، لكني بدوت ملفتاً أكثر بحيث اختلس البعض نظرهم إليَّ؛ كنت شارداً ومبلَّلاً مثلهم لكن بمطرٍ مغايرْ، وكنت مصاباً بظهيراتٍ بعيدةٍ وغائرةٍ تمشين فيها أنتِ؛ بسهوٍ يخصُّك يا أرهيت، بحيث أن الأقلام تسقط منِّي دونما سبب، وأتعثَّر في الممرَّاتِ التي اعتدت المشي فيها.

***

***

أعوامٌ مضت بفرحٍ هنا وهناك وحمولاتٍ ثقيلة، طرقاتُ المدينة لم تتغيَّر كثيراً، البيوتُ بألوانها البرتقاليَّة لا تزال، حافلات المواصلات نفسها، محلاتٌ شاخت، وأخرى ظهرت بواجهاتٍ جديدة وأسماءٍ مغايرة، محل بيع أشرطة الكاسيت الذي اعتدنا الذهاب إليه لم يعد هناك، أشرطة الكاسيت نفسها لم يعد يستخدمها أحد، شجرة النِّيم الكبيرة ما تزال صامدة، سكَّان الأرياف الذين يأتون كلَّ صباحٍ بجلابيبهم المميزة بقوا على حالهم؛ أفكِّر بهذه الملاريا التي غابت عن جسدي لسنوات؛ هل سأحتملها؟ تزداد الحمَّى فأغيب وأصحو، تنبعث أغنيةٌ من جِنانٍ قديمةٍ فأراك؛ هذهِ أنتِ! العينان ما زالتا بنفس الطفولة؛ يااااااه يا أرهيت، ما الذي في وسعي أن أقوله لكِ؟ أما زلت تسكنين هُنا؟ ما الذي فعلته بطول هذه الأعوام؟ لا بدَّ أنَّ لديك أطفالاً أشقياء يملؤون الأماكن بالمطر مثلما كنت تفعلين! أنا بخير، لا تصدقي ما يبدو عليّ، فقط الحُمَّى والسنوات، كل ذلك جال في خاطري وأنا أراكِ قادمةً من بعيد، قادمةً نحوي وكأنَّها مواعيدنا القديمةُ؛ عندما اقتربت انمحت السنوات، انمحى التعب والأهوال والحقائب، وكنتِ تحكين، تحكين عن كلِّ شيء، وكأنَّك تودين رواية سنواتِ بأسرها في لحظات، وكنت أضيع ما بين أزمانك، كان هناك ألف شيءٍ أود أن أقوله لك، لكنَّ ما ندَّ عني لم يكن سوى اسمك وسؤالٌ مخزون؛ سؤالٌ يحملُ تعبَ السَّنواتِ وشوقها، وكأنِّي أستأنف الحياة من النقطة التي توقَّفت فيها؛

أرهيت؛ هل كانَ علينا دفع ثمنٍ عن الجميع؟


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *