صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

محمد المكي إبراهيم: لم ننجح في صناعة تيار شعري كبير من (الغابة والصحراء)

شارك هذه الصفحة

بعد ما يقارب الستين عاماً من بروز تيار “الغابة والصحراء” في الفكر والشعر السوداني، لا يرى الشاعر السوداني الكبير محمد المكي إبراهيم أنهم كجيل – هو والنور عثمان أبكر ومحمد عبد الحي –  قد نجحوا في محاولة صناعة تيار كبير في الشعر السوداني، ويضيف: “إن أصحاب التيار مواقفهم تغيرت”.

وفي مؤانسة الشاعر صباح أمس السبت بمقر مركز عبد الكريم ميرغني بأمدرمان، يقول المكي: “النور عثمان أبكر حتى وفاته لم يكتب كلمة عن الغابة والصحراء.. وتحملت أنا معظم وزر التنظير، وعبد الحي كتب أعظم الآثار ثم تخلي عنها، وبعدها أخلدتُّ إلى النوم”.

ويضيف أيضاً: “من أسباب ذلك التجريف الثقافي الذي حدث خلال ثلاثين عاماً.. فلا يمكن أن تجد نسخاً متوفرة لأصحاب التيار وهذا أثر على انتشار التيار نفسه”.

يستدعي ود المكي، ذكرياته خلال المؤانسة التي أدارها الشاعران عالم عباس ومصطفى بابكر، وقدمها الدكتور مصطفى الصاوي. يقول: “اسمي محمد المكي إبراهيم علي، ومحمد المكي، اسمٌ مُركّب قصدَتْ به والدتي التي سمّتني إياه التيمّن بالشيخ المكي، وكانت من أتباع الطريقة الإسماعيلية بالأبيض، وبيتنا على مسافة قريبة من قبة الشيخ اسماعيل الولي بمدينة الرمال”.

يذهب محمد المكي إلى الخلوة، لكن والدته أيضاً، تنقله إلى المدرسة الأولية بالأبيض، ومنها ينتقل إلى مدرسة خور طقت، فجامعة الخرطوم لدراسة الحقوق. يقول ود المكي: “أثناء دراستي بالجامعة وأنا في السنة الثالثة، أخرت نفسي عاماً كاملاً في ألمانيا، في رحلة شبه دراسية. أعجبني الحال هناك وألمانيا في ذلك الوقت خرجت من تحت أنقاض الحرب، وقد هُيّأ لي العيش في باباريا، وكانت فيها مخازن السلاح التي يستخدمها جيش هتلر”. ويواصل في سرد رحلته إلى ألمانيا: “الألمان خرجوا من الحرب كائنات لطيفة ونادمة، ويعتبرون أن هتلر خدعهم، فكانوا في غاية النقاء، وكنا في هذه الرحلة مجموعة من السودانيين منهم النور عثمان أبكر وعمر شمو. وحاولت تعلم اللغة الألمانية، وهي ليست صعبة، وحفظت فيها كثيراً جداً ثم هجرتها لأربعين عاماً.. وبدأت أرجع لها في الأيام الأخيرة بالاستماع للإذاعة الألمانية فوجدتني أعانق كلمة أعرفها من الألمانية كما أعانق صديقاً قديماً”.

يقول ود المكي عن دراسته بجامعة الخرطوم: “كنا تائهين، أنا درست الحقوق وكانت مفتاحاً للحياة بالنسبة لي، رغم أني كثيراً ما سألت نفسي: لماذا دخلت الجامعة وأستطيع أن أكتب الشعر دون ذلك؟.. لست راضياً عن سيرتي الجامعية”.

يتخرج محمد المكي من جامعة الخرطوم ثم يلتحق بوزارة الخارجية ويسافر إلى فرنسا لدراسة اللغة الفرنسية والدبلوماسية: “بعد التخرج في الجامعة، لم أجد فرصة للاستمرار في الدراسات العليا، وقد أصابني داء الرحيل والسفر والتعارف على الشعوب، وقدمت للعمل بوزارة الخارجية وترتيبي كان متقدماً في المعاينات”، ويواصل: “دخلت الوزارة وأحببت العمل بها وعشت فيها سنوات جميلة جداً.. ولم أتعرّض لظلم وظيفي فيها، بل كنتُ في أول مجموعة تغادر السودان إلى باريس لدراسة اللغة الفرنسية والدبلوماسية.. وأُعِدّ لنا برنامج ضخم جداً، ومن ضمن برنامج الدراسة توزيع الدارسين على السفارات الفرنسية فابتعثت إلى العاصمة السنغالية  داكار، فتعرفت على الشعب السنغالي وعاداته، ثم رجعنا من فرنسا إلى السودان وتم تسكيننا في وظائف الخارجية”.

وعن بداية كتابته للشعر يقول شاعر “أمتي”: “بدأت الشعر في سن مبكرة في أواخر المرحلة الوسطى، وكتبت في الجامعة، كتبت كثيراً ومزقت كثيراً من الشعر لأنني لا أقبل الإنتاج الضعيف والمتعجل، وأعجب لإنسان كتب قصيدة ونشرها دون أن تستوي”، ويضيف: “نُشِرَت لي أول مجموعة في سنة 1966 من دار العودة مع الشاعرين العلمين في ذلك الوقت محمد المهدي المجذوب وعبد الله الطيب عن طريق وزارة الإعلام”، ويواصل: “خزنت في وزارة الإعلام لأكثر من سنة ثم تم الإفراج عنها ومنحوني ١٠٠ جنيه سوداني وكان مبلغا ضخماً لكنني لم أستفد مطلقاً من الكتابة مادياً”.

يسأل عالم عباس، محمد المكي إبراهيم عن علاقته بالشاعر والناقد د. محمد عبد الحي، فيقول: “لقد كتبت أصول الفكر السوداني في بيت محمد عبد الحي، كل أصدقائي عزيزون جداً وبينهم كبار وضخام ومثال لهم الدكتور محمد عبد الحي الذي كان محبوباً وهناك من استأثروا به في المحبة”. ويواصل ود المكي واصفاً عبد الحي: “كانت بمحمد صفات الجرأة والبساطة، أذكره في مختلف المواقف متصدياً، وكتبت فيه مرثية ضاعت للأسف”.

يتداخل الشاعر مصطفى بابكر: “مضت ستة عقود على مدرسة الغابة والصحراء.. ماذا بعد أكثر من نصف قرن من تلك الحالة الجمالية، وقد مرت بالسودان أهوال انفصال الجنوب والاحتراب في غربه وضعف التنمية في شرقه؟”.

يقول ود المكي مجيباً: “الثقافة في السودان تعرضت خلال ثلاثين عاماً إلى الخراب، فأصبحت البلد لا تصلح مسرحاً للتنمية والسباق الثقافي.. وتمت فرملتنا لثلاثين عاماً، وتم تخريب المؤسسات حتى التعليم لم يسلم من التخريب”، ويمضي قائلاً: “بالنسبة لنشوء “الغابة والصحراء” كتيار فقد تغيرت مواقفنا كثيراً”، ويضيف: “الحماس في أيام الكلية يكون قوياً، ويُخيل لك أنك لن تعيش بدون هذه الأفكار في ذهنك”.

العثور على المرثية الضائعة

على الرغم من رأي الشاعر محمد المكي الأخير في تيار الغابة والصحراء، يعتقد الشاعر محجوب كبلو في مداخلته أثناء المؤانسة، أن تيار الغابة الصحراء أصبح مستبطنا في الكتابة الشعرية التي تلتها، وفيما تكتبه الأجيال المختلفة من شعر، ولذا فإن كبلو لا يعتقد مطلقاً باندثار التيار، وتوافق رؤيته شيراز محمد عبد الحي، التي أكدت أنه شعر تيار الغابة والصحراء كان وقوداً ثقافياً لجيلهم في مقاومة عسف نظام الإنقاذ.

 وفي نهاية المؤانسة أعلنت ابنة الشاعر محمد عبد الحي عن العثور على المرثية التي كتبها ود المكي في صديقة د. محمد عبد الحي، وتلتها أمام الجمهور.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *