صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

صدور الأعمال الكاملة للشاعر الكبير النور عثمان أبّكر

شارك هذه الصفحة

صدر عن معهد إفريقيا بإمارة الشارقة هذا الشهر، مجلدٌ ضمَّ الأعمال الشعريّة الكاملة للشاعر السوداني الكبير النور عثمان أبّكر. حرَّر الكتاب الأستاذان الشاعران كمال الجزولي وعالم عبّاس النور، وقدَّما له، وتزيّن الكتاب برسومات داخليّة ولوحة غلاف من أعمال الفنان التشكيلي الأمين محمد عثمان. صدر الكتاب في 670 صفحة، واحتوى على مقدّمة أخرى بقلم الدكتور صلاح الجرّق. وضمَّ الكتاب دواوين الشاعر الأربعة المنشورة (النهر ليس كالسحب، صحو الكلمات المنسيّة، غناء العشب والزهرة، أتعلّم وجهك)، وقصائد لم تنشر من قبل. كما نُطالع مجموعة من الصور النادرة للشاعر في حياته اليوميّة، ومع شعراء وكتاب وأصدقاء.  

في هذه المساحة، تنشر (الحداثة) مقدّمة الشاعرين كمال الجزولي وعالم عبّاس لإضاءة سيرة وحياة الشاعر وأعماله الكاملة، والتي جاءت بعنوان (التراث الشعري للنور عثمان أبكر).

المحرر

مقدمة

التُّراثُ الشِّعريُّ للنُّور عُثْمَان أبَّكَر

بقلم/ كمال الجزولي وعالم عباس

(1)

كان تكريماً كبيراً لنا، وثقة عظيمة مُنحناها، حين عهدت إلينا أسرة صديقنا الشاعر الراحل النور عثمان أبكر بمهمة جمع ومراجعة أعماله الشعرية، والإشراف على نشرها. وبقدر ما أسعدتنا هذه المبادرة من الأسرة، بقدر ما جال في أذهاننا سؤال قد يطرحه العديد من أصدقاء وأهل وزملاء وتلاميذ النور: لماذا نحن، بالذات، دون كل هؤلاء؟! صحيح أن علاقتنا بالنور وبأسرته كانت وما زالت قوية ومتصلة لعقود عديدة، وأننا مطلعون على كتاباته، خصوصاً، وعلى ما يتصل بالشعر،عموماً، فلكم تبادلنا معه مسودات كثير من القصائد، واطلعنا عليها، وتحاورنا حولها في ما بيننا، ولكم ضمتنا، أيامئذٍ، حلقات أنس ونقاش وقراءات في داره العامرة بحي “الصافية”، بالخرطوم بحري، وفي دورنا، ودور أصدقاء عديين، ومجالس أسـاتذة كـثر، على رأسـهم محمـد المهـدي المجـذوب وعـبد الله حامد الأمين، وغيرهما، فضلاً عن أننا اعتدنا،  منذ أواخر الستينات وأوائل السبعينات، أن ننشر بعض بواكير أعمالنا في الملاحق الثقافية بالصحف التي كان النور يشرف عليها، ونحن، إبانئذٍ، أيفاع يحوطنا برعايته وتوجيهه. ولم نكن وحدنا، فثمة كثير من الأصدقاء والأحباب والرفاق مثلنا، في أزمان مختلفة، على صلة متينة به وبأسرته الكريمة! فلماذا نحن إذن؟! هل لأننا، ثلاثتنا، كنا أعضاء مؤسسين لاتحاد الكتاب السودانيين، والذي كان للنور فيه صولات وجولات، نمثل امتداداً لذلك الإرث الهائل الذي أسهم فيه، أوان ميلاده الأول والثاني، أم لأننا نمثل حلقة مستمرة مع أصدقائه الذين أغلبهم أصدقاؤنا نحن أيضاً، وبذلك قد يسهل التواصل معهم، عبرنا، بشأن أشعاره؟! لقد تصدينا لتجربة تشبه هذه من قبل حين نهضنا للاحتفاء بذكراه فلم يتقاعس أحد ممن وصلنا إليهم، بل أسهموا معنا بكل إسماحية وترحاب، مما أثلج صدر الأسرة ونال رضاها، حيث رأت، ربما، أن ثمة مقبولية ومصداقية لنا عند أهل وأصدقاء وتلامذة النور، فيهرعون إلى عوننا متى احتاج هذا العمل إلى عونهم، مما يطمئن الأسرة إلى نجاحه.

مهما يكن من أمر، وأياً ما كانت التأويلات، فإن هذا التساؤل دار في أذهاننا، وفي أذهان الآخرين ولا بد، غير أننا لم نتجرأ على سؤال الأسرة عن السبب، حيث أننا وجميع الأصدقاء على أهبة الاستعداد لتلبية أي نداء منها بلا أدنى سؤال أو تردد، فقابلنا التكليف بكل محبة وأريحية، وبكل ما اعتدنا عليه في تعاملنا مع النور نفسه من سلاسة ومودة.

تصوير: عصام عبد الحفيظ

(2)

حين أبدينا لابنتنا، وابنة النور الكبرى، الأستاذة إيزيس، موافقتنا غير المشروطة على تولي هذه المهمة، بل وسعادتنا بها، لم نكن ندرك، بدقة، حجم العمل الذي تحتم علينا إنجازه، في ما بعد، فقد كان لدينا انطباع بأن النور، كما في فكره وتعامله، على قدر كبير من الترتيب والنظام، فلن تكون مهمتنا، إذن، عسيرة. قوَّى من ذلك الانطباع أن النور كان قد نشر أربع مجموعات من أعماله الشعرية، فقَدَّرْنا أنه لم تبق إلا أشعاره الأخيرة نجمعها ونضيفها فتمسي لدينا أعماله الشعرية الكاملة، دونما مشقة أو رهق. غير أن إيزيس أوضحت لنا أن الكثير من أشعار النور في أوراق مبعثرة، وأن بعضها طي كراسات وأوراق في أماكن متفرقة ما بين الخرطوم والدوحة، وهي لا تستطيع تمييز الأعمال الشعرية عن غيرها، وأنهم قاموا بجمعها كلها، مع كتبه ورسائله وأوراقه الأخرى التي كانت معه بالعاصمة القطرية، وأودعوها حاوية أحضروها إلى السودان.

من تجربتنا مع النور، كنا نعرف أنه كان يهتم كثيراً بحفظ أوراقه ورسائله في خزانة كان يسميها “الجراب”! مثلما كان يحفظ مسودات كتاباته ونادراً ما يتخلص منها، بل وكان يحفظ حتى الكثير من أعمالنا نحن، فكنا نهرع إليه كلما فشلنا في العثور على بعضها فنجدها عنده، يخرجها لنا بابتهاج وغبطة! نذكر أن صديقنا الكاتب الروائي إبراهيم إسحق قدم مخطوطة روايته “فضيحة آل نورين” لإحدى دور النشر التي زعمت، لاحقاً، أن المخطوطة لم تصل إليها، أو ضاعت، ولم يكن عند إبراهيم نسخة أخرى منها، وهو في الرياض، فضاعت الرواية وتحسر عليها إبراهيم كثيراً، وشكا أمره بحرقة إلى النور، فإذا بالأخير يذكّره بأنه كان قد أعطاه المسودة الأولى لتلك الرواية ذات يوم، وأنه يحتفظ بها في”الجراب” الموجود بالمخزن في الصافية! وهكذا تم العثور على الرواية، فنشرت!

هكذا كان النور حريصاً على حفظ الأوراق، والأعمال الأدبية، إن كانت له أو لأصحابه، حتى وإن كانت مسودات أولية متناثرة لم تنضج بعد. وربما كان ذلك كافياً لتوضيح الكم الهائل من الأوراق والأعمال التي كان علينا فرزها، والتقرير بشأنها، آخذين في الاعتبار الحرص الذي أولاه لها صاحبها، دائماً، والقيمة التي رآها فيها!

من واقع هذا الحرص طلبنا من إيزيس أن تقوم بتصوير ثلاث نسخ منها، وأن تحتفظ هي بالأصل، وأن يأخذ كلٌ منا نسخة مصورة، نقوم بفرزها فرزاً أولياً، نحصر فيه شعر النور فحسب.

نهضت إيزيس بدور كبير في هذا الشأن، إذ قامت بترقيم الأوراق حسب الترتيب الذي وجدتها عليه. بعض هذه الأوراق لها عناوين، وبعضها غفل عن أي عنوان. بعضها مرقمة، وبعضها غير ذلك. فوضعت العناوين والفهارس والترقيم كي يسهِّل الرجوع إلى الأصول إذا احتيج إليها. ثم صوَّرَت كل ذلك.  هذه الأوراق جميعها بخط اليد، فكان علينا أن نطبعها أولاً بالحاسوب، ليسهل التعامل معها. ولكن، قبل ذلك، ولكثرة الأوراق، كان لزاماً علينا أن نقرر أولاً أي أوراق نطبع؟

أثناء الفرز، تبينت لنا الملاحظات التالية:

* بعض قصائد النور مدونة في كراستين، الأولى كراسة تحمل في صفحة العنوان في السطر الأول “رحلات العذاب والفقر”، وفي السطر الثاني “شعري لمارجريت MARGARET”، وفي السطر الثالث “زوجتي الحنون”، والكراسة هي كراسة محاضرات الجامعة التي يحمل غلافها صورة لواجهة جامعة الخرطوم، وهي من الكراسات ذات الثمانين ورقة والتي كانت رائجة في أوائل ستينات القرن الماضي.

* الكراسة الثانية تحمل عنوان “أقنعة في الريح (الصفراء)”، هكذا بدا العنوان في الغلاف، وكأن النور كان متردداً بين العنوانين، أي بين حذف كلمة (الصفراء) أو الإبقاء عليها! قصائد هذه المجموعة كلها، وكما يدل العنوان، عبارة عن أقنعة بلغت في مجموعها ستاً وثلاثين.

* تحتوي هاتان الكراستان على بعض أقدم أشعار النور التي قد يرجع تاريخها إلى أواخر خمسينات القرن الماضي. وقد وجدنا أن النور اختار بعضاً من قصائد هذه الكراسات في المجموعات الأربع التي قام بنشرها بعدئذٍ، فرأينا أن نحذفها من هذه الكراسات، عند الطباعة، منعاً للتكرار.

* اعتاد النور أن يثبت، في ما عدا القليل من القصائد، أمكنة وتواريخ كتابتها، وذلك إما في بداية الصفحة، أو تحت عنوان القصيدة، أو في آخرها. وأحياناً يبدو التاريخ كأنه عنوانٌ للقصيدة.

* لفت انتباهنا أيضاً أن العديد من الأوراق تحوي قصائد يعود تاريخها إلى الستينات والسبعينات، وهي ليست ضمن هاتين الكراستين، ولم تشملهما المجموعات المنشورة. بعض هذه الأوراق قصائد كاملة وضع النور لها عناوين، وبعضها بلا عناوين، فاستعاضت إيزيس عن ذلك بكتابة الجملة الأولى من كل قصيدة أعلى الصفحة كعنوان يسهل الرجوع  به إلى الأصل عند الحاجة، وقد بدت لنا وجاهة هذا التدبير فاعتمدناه في الكثير من القصائد.

* جعلنا الأوراق التي لم تضمها الكراستان، ولا المجموعات السابقة، على مجموعتين، مجموعة تضم أوراقاً لقصائد مكتملة أو شبه مكتملة، ومجموعة تضم أوراقاً لكتابات شعرية من عدة سطور، أو من بضع صفحات، لكن الواضح أنها غير مكتملة، أسميناها مشروعات قصائد، على غرار “البورتريهات غير المكتملة unfinished portraits” في الفن التشكيلي، واخترنا لكل مجموعة عنواناً من قصائدها ظننا أنه يناسبها، مستأنسين بأسلوب النور نفسه في تسمية كل مجموعة باسم إحدى القصائد التي تضمها.

قامت إيزيس، بعد هذا الترتيب، بتكليف كاتب typist حاذق لطبع هذه الأعمال إليكترونيَّاً، بحيث كنا نزوده بها، ثم نستلمها منه، على دفعات، مستنسخة على “فلاش”، لنضعها في حواسيبنا على هيئة soft ware، فنعمل على مراجعتها وتصحيحها تباعاً.

(3)

النسخة التي عند الطابع مطابقة لنفس نسختينا نحن، صورة طبق الأصل، وأغلبها واضحة، كما أن الكاتب الحاذق بذل جهداً مقدراً حين التبست عليه بعض الكلمات، فأصاب وأخطأ، ونظن أننا أيضاً فعلنا مثله!

في ما عدا الكراسات الآنف ذكرها، اعتاد النور أن يكتب، في الغالب، على ورق أبيض غير مسطَّر، وهو نفس ورق التصوير المعروف بـ “size A4″، ولأن النور، في أصل مهنته، معلم، كما ظل يعمل في الصحافة ومع المصففين والطابعين حتى آخر عمره، فقد اعتاد على الخط الجميل الواضح والكبير، ويحرص عليه، لذا نادراً ما تتعدى الصفحة عنده الاثني عشر سطراً. وكان يكتب دائماً على جانب واحد من الورقة، إلا فيما ندر، ويترك فراغات، أحياناً، بين الكلمات، مما كان يتيح له مجالاً للشطب والإضافة. مع ذلك، وبسبب معلوم من خط اليد، فإن رسم الحرف قد يلتبس لدينا ما بين الميم والفاء والقاف، أو بين نقطة الفاء ونقطتي القاف، أو بين حروف الراء والدال والزاي والذال، والسين والشين، والكاف واللام، والتاء والهاء المربوطتين، والياء المقصورة والمنقوصة، والهمزات، ونحو ذلك، مما يشكل مجالاً للتشكيك في الكلمة المقصودة، وتخمينها. وقد يكتب النور أحياناً كلمة، ثم يشطبها ويضع فوقها كلمة غيرها، أو يضع مرادفاً لها بين قوسين، ولابد من اختيار إحداها ليستقيم البيت أو المعنى، وكان علينا أن نجتهد في الاختيار، ترجيحاً لما رأيناها الأوفق! وأحياناً نجد أن الكلمة المشطوبة لم يختر لها بديلاً، ولا يستقيم البيت إلا بها أو ببديل لها، فأبقينا على الكلمة المشطوبة، أو جعلناها بين قوسين. ولقد أخذنا في الاعتبار أننا نتعامل مع مسودات قصائد، وأنها عرضة للتنقيح والتعديل والتبديل من قبل الشاعر، وفي تقديرنا أن الشاعر لن ينشرها على هذا النحو دون أن يجري عليها التعديلات اللازمة.

هكذا كان علينا أن نجري المراجعات والتصحيحات، وهي أكثر المراحل إرهاقاً واستنزافاً للوقت، وبخاصة عند التدقيق ما بين اجتهادات الطابع واجتهاداتنا، ثم الرجوع أحياناً إلى الأصل لنتبين بعض الصفحات التي لم تكن واضحة في النسخ المصورة لدينا. وغالباً ما واجهتنا معضلة بعض الأصول التي لم تكن هي نفسها واضحة بشكل كافٍ، بل انطمست تماماً، ما اضطرنا لإغفالها. وإذ نحن كذلك تفاجئنا إيزيس بأنها عثرت على أوراق أخرى للنور، فلم يكن ثمة مناص من التوقف للنظر فيها، وضمها إلى ما بأيدينا، وفق التصنيف الذي اعتمدناه.

لقد استغرقت منا المراجعة والتصحيح وقتاً طويلاً، وجهداً كبيراً، مع تواضع خبراتنا في تقانة الحاسوب. ثم واجهتنا معضلة أخرى، وهي أننا لم نجد أية نسخة إلكترونية من مجموعات النور الأربع المنشورة، وكان علينا البحث عمن يعيننا على إعادة طباعتها من جديد. فطلبنا هذا العون من الأصدقاء في “بيت الشعر بالخرطوم”، والذين أبدوا، مشكورين، ترحاباً وحماسة، وعهدوا بهذا العبء إلى الشاعر محمد الخير إكليل، فأنجزه لنا على أفضل وجه ممكن، وفي زمن وجيز.

 

(4)

ولئن كان إليا إهرنبورغ قد لاحظ أن ثمة موهبة تفوق موهبة الكتابة هي موهبة التشطيب، فإن النور يكتب، لكنه، كغيره من الشعراء الكبار، كثير الشطب، والتعديل، والزيادة، والإنقاص في نصوصه. ولأنه يحتفظ بمسوداته، فقد تصادفك عدة مسودات لقصيدة واحدة. بعض هذه المسودات يحمل تواريخاً، لذا اعتمدنا النصوص التي تحمل أجدَّ التواريخ وأهملنا غيرها، ولكن الإشكال الحقيقي يكمن في أي النصوص غير المؤرخة نختار؟! فقد نجد نصاً من عدة صفحات، ثم نجد نصاً آخر أقصر، فلا نعلم أهو النص الأخير الذي حذف منه وعدله وشذبه؟! أم هو النص الأول الذي زاد فيه، بعدئذٍ، فطال؟! والنور كثير المراجعة لشعره، ينظر فيه وينتقده، فعلى سبيل المثال وجدنا، في الكراسة الأولى “رحلات العذاب والفقر”، قصيدة بعنوان “انفصال”، كتبت ببورتسودان في7 يونيو 1961م، ثم وجدناه، قد كتب، بعد ثلاثة أعوام، وهو بألمانيا، تعليقاً في نهاية القصيدة المذكورة يقول: “لماذا تعاودني “الريح والناي” لحاوي وأنا أقرأ هذا الشعر؟  نور – ميونخ 64م”! ومع هذا فإن النور لم يشطبها من تلك الكراسة، ولعله كان متردداً بين الإبقاء على الكثير من أشعاره القديمة وبين شطبها، فقد رأينا أن بعض القصائد في الكراستين آنفتي الذكر، وفي الأوراق المتناثرة، مشطوبةً بأن جَرَّ عليها القلم من أعلا الصفحة إلى آخرها. ومما شجعنا أيضاً على الإبقاء على الكثير من أشعاره القديمة، أنه يعود إليها في فترات لاحقة. فبعض القصائد التي وردت في الكراستين، أو ضمن الأوراق المتناثرة الأخرى، وجدت طريقها إلى النشر في المجموعات الأربع، كما أن العديد من القصائد التي جرى عليها الشطب قد أسقطها من شعره، وكذلك فعلنا.

ولا شكَّ، بالطبع، في أن بعض ما أثبتنا من شعرٍ قد لا يكون النور ليقبل بنشره، وأنه قد يكون، بالنسبة إليه، محض مسودات غير مكتملة، وربما كان قد رأى فيها أثراً من آخرين، مجايلين أو خلافهم، ولكنه، مع ذلك، أبقى عليها ضمن أوراقه. ونحن إذ ننشرها، فإن هدفنا من وراء ذلك هو إعطاء الدارس والمتلقي العادي، على السَّواء، فكرة عن حس النور النقدي، وعن الطريقة التي يتعامل بها مع نصوصه، فضلاً  عن يقظته تجاه أثر الآخرين في شعره. إن المسودات التي يكتبها، تكتسب أهميتها من أنها أفكار قابلة للتطور، يمكنه العودة إليها في أوقات مختلفة، وقد يفسر هذا سر احتفاظه بكلِّ هذه الأوراق التي كان يخط فيها أشعاره، وخواطره، وأفكاره، وملاحظاته النقدية.

هذا فيما يتعلق بقصائد النور عموماً، وفي حالاتها المختلفة. ولقد رتبنا هذا العمل، فجعلنا “رحلات العذاب والفقر” في الصدارة منه، حسب الترتيب الزمني، ثم “أقنعة في الريح، ثم المجموعات الأربع المنشورة، وهي على التوالي “صحو الكلمات المنسية“، و”غناء للعشب والزهرة، و”أتعلم وجهك“، و”النهر ليس كالسحب“، ثم مجموعة القصائد التي لم تنشر من قبل وجمعناها تحت عنوان “لعينيك أفتح ورد القصيدة“. أما القصائد الجديدة، سواء المكتملة أو غير المكتملة التي رأينا فيها مشاريع قصائد، فقد جعلنا لها عنوان “أتعلم بعض خطاي” الذي التقطناه من إحدى قصائد المجموعة!

(5)

ورغم أننا، بحكم طبيعة عملنا، هنا، والتي تقتصر، في ما يبدو للوهلة الأولى، على جمع هذا الشعر، وتصنيفه، وتوثيقه، والتقديم له من زاوية الاعتبار اللازم لأهميته وقيمته في المشهد الثقافي السوداني العام، والشعري الخاص، الأمر الذي قد يترك انطباعاً بألا جدوى من تحميل هذه المقدمة أي محاولة لدراسة هذا الشعر، إلا أننا، حتَّى في هذا الإطار المحدود، لا نستطيع أن نتغاضى، بالمرَّة، عن أهمية الإضاءة النقدية، ولو لبعض الجوانب. فالنور شاعر شديد التفرد، خاصة عند مقارنته بمجايليه من الشعراء. وما يمتاز به شعره لا يشاركه فيه غيره، لدرجة أنك لا تجد أي عسر في معرفته بمجـرد الاطلاع عليه، بل لقد قال هو  نفسـه عن ذلك: “أكتب شعراً لا تخطئه العين الحرة”!

هكذا يبرز، في مستوى الخصائص الفنيَّة لشعر النور، أكثر  ما يبرز، حرصه على الوزن والإيقاع. ففي المسودات التي يكتبها ليس نادراً ما تصادفك رموز من شاكلة (//./. ، //./.)، على سبيل المثال، يستخدمها لضبط الوزن بدلاً من “فعولن فعولن”! ومع كل هذا الحرص على الوزن، لم يكن يهتم كثيراً بالتقفية التي لا يلجأ إليها إلا نادراً. لكن لم تكن تستهويه ما تعرف بـ “قصيدة النثر”، مع التَّحفظ على بعض استخدامات المصطلح، رغم أن الكثير من معاصريه، وبينهم شعراء كبار، حاولوا معالجة هذا الضرب الشعري في العديد من تجاربهم للتخفيف من صرامة الوزن، وعلى رأس أولئك شيخ شعراء الشعب المجذوب، كما وفيهم، أيضاً، عبدالحي وود المكي وآخرون.

وإلى ذلك عُرف النور بشدة حرصه على سلامة اللغة في إطارها الفصيح. ولعل في ذلك درساً عملياً بليغاً لبعض شباب الشعراء الذين يجاهرون بعدم اهتمامهم بعنصر اللغة! ومع أن الكثير من مجايليه فطنوا لبلاغة العامية السودانية، واستخدموها في صياغة قصائدهم، إلا أن مزاج النور الشعري التزم الفصحى، فتكاد لا تجد لفظاً عامياً في قصائده. والمدهش أيضاً أن الكثير من شعراء جيله غاصوا في بحر اللغة والجزالة، غير أن النور لم يكن يغريه هذا الغوص، فتكاد لا تجد في شعره إلا سلاسة اللغة، وسهولتها، ووضوح عبارته، وانسيابها، دونما أدنى تقعير أو انسياق وراء إغواء الكلمات. ولذا فإن أسلوبه يتبدى، للوهلة الأولى، سهلاً، لكنه سهل ممتنع يعبر عن أعقد الأفكار، في يسر مذهل.

 ومن خصائص النور الشعريَّة، أيضاً، عدم استغراقه في الوصف، حتى في غنائه العاطفي، بل تكاد جل أشعاره تكون أفكاراً ومواضيع ومواقف وعرضحال. كما يتميز باستعمال الأفعال المتواترة، سواء المضارعة أم الماضية، كقوله مثلاً “ما زالت عند  الفجر تثور، تغلي، تهذي، تتداعي خدراً، وتدور”، أو “ربي، متى تَنهدُّ أسوار الخداع، تُزاحُ أقنعة الجمود، نموتُ، نولدُ في مهودْ”، أو “جفّ كأسي، غاض نبعي، تاهت الرؤية، أعماني الضباب”، أو “قولي، صَدرُكِ يَعلو، يَهبِط، يَنبضُ، يَعنِي، أتعَذبُ، أطرَبُ، أعجَبُ، أبكي، صَمتي كالليل، كظلي ، قولي، أمهَلتكِ..”، أو “أقضِمُ، ألقَمُ، أطعَمُ، أبنِي، ذرَّاتِ القُدرة، أبدُو، حَيَّ الأطرَاف، أتناثرُ عَبرَ الآخَرِ، أعبرُ ذاتي، أحيَا، قدرَ الإنسَان” .. الخ.

أما في مستوى الخصائص الفكرية لأشعار النور، فتبرز، دون شكٍّ، أول ما تبرز، مسألة “الغابة والصحراء”. فهو حين يعبر، في هذا الإطار، عن ذاته، وعن هويته الشعرية، يستمسك، حدَّ التشبث، بكونه شاعراً سودانياً على طريقته، وبكل ما تحمل العبارة من محمولات الهجنة بين مفردات التعدد، والتنوع العرقي، والثقافي، والأصالة التي لا شبيه لها. فرغم أنه يشارك آخرين، كالفيتوري مثلاً، في الانتباهة الشعرية للخصيصة الأفريقانية ضمن هويته، إلا أن انتباهته هذه لا تغادر، قط، رؤيته الخاصة لذاته كابن لـ “الغابة والصحراء” معاً، لا كرد فعل أحادي عن احساس باضطهاد أو ظلم، مثلاً، أو كدفاع عن تهمة ما، أو كإحساس بمنقصة أياً كانت، بل باعتداد كبير، وثقة في النفس لا حدود لها، وبلا أدنى إحساس بحرج إزاء ملامح معينة، أو عقدة لون، أو ما إلى ذلك، بل يصدر عن حنين جارف، وعن رغبة ماتعة بالعودة إلى الجذور: “قرعُ الطبُول في الدُّجَى يشُدُّنا/ أنستَجِيب؟!/ ربَّمَا نِداءُ الغَاب عَودَةٌ إلى جُذورِنا/ لعَلَّنا في كونِنا هُناكَ، مِن سَدِيمِ الرَّبِّ والشُّمُوس/ تَعَشَّقَت جُفونُنا هَذا الغِناءُ، فابتَهلنا أن نَكُون/ لعَلَّ الرَّبَّ عَافَ ظلَّه فأسقَطَه”!

ولا يكاد المشهد الثَّقافي لفترة السِّتِّينات والسَّبعينات من القرن المنصرم يتراءى، إلا وتطلُّ، ضمن أوَّل الإطلالات منه، ملامح الحضور القوي، الباهر، شديد التَّأثير، شعريَّاً وفكريَّاً، لهذا الشَّاعر المفكِّر الإشكالي، سواءً من خلال حركة “الغابة والصَّحراء” التي لم يكن، فحسب، على رأس مؤسِّسيها، خلال النِّصف الأوَّل من السِّتِّينات، بل كان هو من سكَّ مصطلحها نفسه، بشهادة رمزها الكبير الآخر، ورفيق هجرته الألمانيَّة، محمد المكي إبراهيم؛ أو من خلال حـركة “أبادماك” التي بذل، أيضاً، جهداً مقدَّراً في تأسيسها، وفي قيادتها، على تخوم السِّتِّينات والسَّبعينات؛ أو من خلال نشاطه الإبداعي الجَمِّ، خلال السَّبعينات بالذَّات، شاملاً أعماله الإذاعيَّة والدراميَّة، كترجمته من الألمانيَّة، وتحريره كتاب الرَّحالة بريم الألماني “السُّودان: 1847م ـ 1852م”، وقد قُدِّم من راديو أم درمان على حلقات؛ وكذا ترجمته من الإنجليزيَّة وإعداده مسرحيَّة النيجيري وولي سوينكا “الأسد والجوهرة” التي أخرجها عثمان علي الفكي للمسرح القومي بأم درمان، قبل أن يعود، خلال العقود الثَّلاثة الماضية، ليترجم من الإنجليزيَّة مسرحيَّة بيتر أوستونوف “رومانوف وجولييت”، ومن الألمانيَّة المجلد الرَّابع من رحلات الألماني جوستاف ناختيقال “سلطنة دارفور: أقاليمها وأهلها وتاريخها”، وإلى الإنجليزيَّة رواية القطريَّة دلال خليفـة “دنيانا مهرجـان الأيَّـام والليالي”؛ وليهتمَّ، في ذات الفترة، بناشئة الشُّعراء والأدباء، تعريفاً بهم، ورعاية لهم، وتقويماً لإنتاجهم، في الصُّحف والمجلات، كما وعبر الفعاليَّات المختلفة، واللقاءات المباشـرة، فضـلاً عن مشـاركاته المشـهودة في “نَّدوة” طيِّب الذِّكـر عبد الله حامد الأمين “الأدبيَّة” بأم درمان، وما أدراك ما هي، وما نهارات جُمَعِـها الحـميمة التي هيَّأت، منتصـف تلك السَّبعينات، لأوَّل محاولة ماجدة لتأسيس “اتِّحاد الكتَّاب السُّودانيين”، بلجنة تمهيديَّة تحت رئاسـة شيخ شعراء الشَّـعب محمــد المهـدي المجــذوب، وعبد الله نائباً له، والنُّور أميناً عاماً، وكمال الجزولي نائباً له، إضافة إلى عضوية سبعة آخرين، فكادت تلك المحاولة الباكرة تطرح ثمراً جنيَّا، لولا مجابهتها بعراقيل لا حـصر لها، قادها وزير الثَّقافة آنئذٍ، بنفسه، كمـا لعبت دوراً سالباً في تلك العراقيل وفاة عـبد الله المفاجئة في حادث حركة مشؤوم، ووفاة المجذوب من بعده، ثم اغتراب النُّور بالدَّوحة، ما أفضى لانفراط عقد “النَّدوة”، وعطل مشروع “الاتِّحاد”، ليولد بعد عقـد كامـل من ذلك، بفضـل مناخ الحريَّات الذي نشرته الانتفاضة الشَّعبيَّة التي مكَّنت من استعادة الدِّيموقراطية منتصف الثَّمانينات.

بين كلِّ هذا وذاك، وإلى جانب قصائده التي شكَّلت مدرسة شعريَّة شديدة التَّميُّز، تحلق حوله، بفضلها، تلامذة نجباء، وحواريون أوفياء، ظل النُّور يرفد الحركة الفكريَّة بنظر شديد الخصوصيَّة والفرادة ما تنفكُّ تحتدم، بدفعه التِّلقائي، حوارات ونقاشات تكاد لا تنتهي أو تهدأ. ففي 1962م، أثناء الفترة التي قضياها، هو ومحمـد المكي، بألمانيا، بدأت مساءلة الشَّاعرين المهاجرين لهويَّتهما، ومحاولة التَّعبير عنها شعراً ونثراً. وكانت ألمانيا، وقتها، لمَّا تزل تعاني، بعد الحرب الثَّانية، من وخز ضمير جمعي عميق إزاء جرائم “النازيَّة” التي تسنَّمت السُّلطة، بين 1933م ـ 1945م، فأعلت، أيديولوجـيَّاً، من شأن العنصر “الآري”، وصفوته المتوهَّمة “الجِّرمانيَّة”، وحطت من بقيَّة العناصر، بل سعت لإبادتها، مِمَّا أشعل تلك الحرب. كانت تلك المساءلة، في تلك الظروف، بمثابة الحفز الفكري لتيَّار “الغابة والصَّحراء” الذي ما لبث أن تبلور، بُعَيْد ذلك، بقصيدة النُّور الأشهر “صحو الكلمات المنسيَّة” عام 1963م، حيث تكرَّر مصطلح “الغابة والصَّحراء”، مثلما كان قد تبلور، قبل ذلك بأقـلِّ من عـام، في مقـالته التي لا تقلُّ شهرة “لست عربيَّاً .. ولكن”، والتي كان كتبها أواخـر 1962م، غير أنه، لسبب ما، لم ينشرها إلا بعد خمس سنوات من ذلك، بجريدة “الصَّحافة”، في 19 سبتمبر 1967م. اقترنت شهرة تلك المقالة بالرَّدِّ العاصف الذي ساقه صلاح أحمد إبراهيم عليها في مقالته “بل نحن عرب العرب”، بنفس الجَّريدة، في 25 أكتوبر 1967م. وعموماً يؤكِّد النُّور، دون أن يدحض قوله أيٌّ من زملاء ذلك التَّيَّار، أن الإفصاح الفكري، والسُّلوك الإبداعي، في مسـألة “الغابة والصَّحراء”، هما مسؤوليَّته الشَّخصيَّة!

عاد محمد المكي إلى السُّودان عام 1963م لإكمال دراسته بكليَّة القانون بجامعة الخرطوم، وليتحمَّل، بما أتيح له من تواصل مع الحركة الشِّعريَّة والثَّقافيَّة داخل الوطن، عـبء التَّبشير بتيَّار “الغابة والصحراء” الجَّديد الذي شمل، لاحقاً، بفضل مكي، باقة من أجمل الشُّعراء، كمحمد عبد الحي، ويوسف عايدابي، وعلي عبد القيوم، وعمر عبد الماجد، وعبد الرَّحيم أبو ذكرى، وعلي عمر قاسم، وآخرين.

لكن المدهش، حقاً، أن ذلك التَّيَّار شمل، في قول عبد الحي، نفراً حتَّى مِمَّن كانوا قد ناصبوه العداء، حيث كتبوا، على ما يبدو، بالتَّزامن والتَّشابه مع رموزه، حتَّى قبل أن يقع التَّعارف بينهم. ففي وقت واحد، عام 1963م، كتب النُّور ومكي في ألمانيا، وكتب صلاح احمد إبراهيم في غانا، وكتب يوسف عايدابي في رفاعة، كما كتب مصطفى سند “أصابع الشـمس” في أم درمـان، وكتب محمَّد عبد الحي “العودة إلى سنار” في الخرطـوم.

غير أن التَّيَّار توزَّع، من حيث “المضمون”، بين تيَّارين فرعيَّين، الأوَّل يمثِّله النُّور، والآخر يمثِّله صلاح. فأمَّا “المضمون العام” الذي يمثِّله النُّور فقد كان نزَّاعاً للتَّماهي مع تيَّار الزُّنوجة Negrotude لدى السِّنغالي ليوبولد سنغور القائل بـ “عاطفيَّة” الشَّخصيَّة الأفريقانيَّة مقابل “عقلانيَّة” الشَّخصيَّة الأوربيَّة، بينما كان “المضمون الخاص” لذلك التيَّار قائماً في إعادة اكتشاف تشكُّل الثَّقافة العربيَّة، في السُّودان، في المـزاج الزُّنوجـي. ولاحـظ عـبد الله علي إبراهيم، في السِّياق، مداومة اطلاع النُّور وعبد الحي على الطبعة الإنجليزيَّة من مجلة “الوجود الأفريقي” الزُّنوجيَّة، فضلاً عن بعض المؤلفات التي تنتسب إليها، كـ “أورفيوس الأسود” لجان بول سارتر الذي نظر لأفريقيا من خلال الأسطورة الإغريقيَّة عن “أورفيوس” ابن ربَّة الشِّعر الذي أهداه الإله “أبولو” أوَّل قيثارة، فكان أن جذبت حلاوة عزفه وغنائه الشَّجَر والحَجَر والطير والحيوان؛ فما لبث عبد الحي أن عثر على شبيه لـ “أورفيوس الأسود” هذا في الشَّيخ اسماعيل صاحب الرَّبابة الذي أورد ذكـره الشَّـيخ ود ضيف الله في “الطبقات”.

من ناحية أخرى وجـد روَّاد ذلك التَّيَّار الشَّباب سنداً ودعماً قويين في هرم الشِّعر السُّوداني الشَّاهق محمد المهدي المجذوب، السَّبَّاق إلى القول الشِّعري في ذات الفكرة: “عِنْدِي مِن الزَّنْج أَعْرَاقٌ مُعَانِدَةٌ/ وإنْ تَشَـدَّقَ فِي إِنْشَادِيَ العَرَبُ”.

وأما التَّيَّار الذي يمثله صلاح، وإن كان أفريقانيَّاً بطريقته، هو الآخـر، إلا أنه، حسـب عبـد الله، لا يعتقد في جوهر أفريقي منطو في ذاته، متعالٍ على الخلطة، أو معتذرٍ عنها. ويلاحـظ عـبد الله، أيضاً، أن ذلك كان هو “المضمون” الغالب بين المفكِّرين الأفارقة مِمَّن توافدوا على معهد الدِّراسات الأفريقيَّة في أكرا، والذي كان يرعاه كوامي نكروما، ويديره الماركسي الأفريقي الأمريكي دبليو بي دبوي. وهو المعهد الذي قضى صلاح نفسه نحواً من عامين في قسمه العربي. لكن نزعة صلاح، مثلاً، كانت أميل لاستكمال نضال الأفارقة بسائر الأفارقة، سواء انتسـبوا إلى شـمال الصَّـحراء أو إلى جنوبهـا، وسواء كانوا من أصول عربية، أو حتَّى أوربيَّة، كما في حالة “المؤتمـر الوطني الأفريقـي ANC” بجـنوب أفريقـيا، وذلك من أجـل نهضة القارَّة المسـتندة إلى تنوُّعهـا، وابتلاءاتهـا، وحريَّتهـا، وعدلهـا الاجتماعي، لا إلى براءتهـا الأولى.

غير أن أهم مقوِّمات “الشَّكل” التي اعتمدها شعراء ذلك التَّيَّار جدُّ مختلفة من شاعر لآخر. فبحسب الملاحظات التي أوردها بعض النَّقَّاد، كعبد المنعم عجب الفيا، منقولة عن الأكاديميَّة سلمي الخضرا الجَّيوشي على قصائد شعراء السِّتِّينات، نجد، مثلاً، أن محمد المكي وعلي عبد القيوم يميلان إلى وضوح الأسلوب، وبسط الحدود الخارجيَّة للصُّورة، بينما يميل النور وعبد الحي إلى اكتناز المعاني والصُّور، وكسر منطق التَّركيب القديم للعبارة وأجزاء الصُّورة. فقصائد أولئك الشُّعراء، وإن اتسمت أجمعها بتشابه الملامح من حيث “المضمون”، إلا أنها اختلفت من حيث التَّكوين، والبناء المعماري، واللغة الشِّعريَّة، وهذه كلها من عناصر “الشَّكل” الأساسيَّة.

وبالعودة إلى مقالة النُّور “لست عربيَّاً .. ولكن”، المؤسسة لتيَّار “الغابة والصَّحراء”، من حيث تشكيلها للمقدِّمة/المانيفيستو لقصيدة “صحو الكلمات المنسيَّة”، ومن حيث وقوع المواجهة، بسببها، بين النُّور وصلاح، فإننا نجد النُّور قد نحا للإعلاء من شأن العنصر الزَّنجي، وتأثيرات ثقافته على الشَّخصيَّة السُّودانيَّة، بصرف النَّظر عن اختلافاتها، وتمايز تكويناتها الإثنية، كما عارض اعتبار الإنسان عربيَّاً لمجرَّد أنه يتحدث العربيَّة! واستطراداً فقد شكَّل نفس هذا الاعتراض بعض أهمِّ مرافعة الشَّاعر الدينكاوي سرأناي كيلويلجانق ضدَّ إلزاميَّة التَّعريب على غير العرب في السُّودان، وذلك في قصيدته “ابن عمَّتي محمَّد My Cousin Mohamed”، المنشـورة ضـمن ديوانه “وهم الحريَّة وقصائد أخرى The Myth of Freedom and other Poems”.

وفي ردِّه على النور جاءت مقالة صلاح “بل نحن عرب العرب” صريحة الاتِّهام له بـ “الشُّعوبيَّة”. وعَمَد، على خلفيَّة هزيمة يونيو 1967م أمام إسرائيل، والإحساس بالجُّرح الفاغر في خاصرة الأمَّة العربيَّة، إلى انتقاد “التَّوقيت” الذي اختاره النُّور، في 25 أكتوبر 1967م، لنشر مقالته التي اعترف هو نفسه بأنه كتبها عام 1962م! لكن المدهش، هنا أيضاً، أن صلاحاً، بعد أن وصف موقف النور الأساسـي بـ “العنصـريَّة”، تارة، والخلوِّ من المعنى، تارة أخرى، انقلب يخاطبه، في خاتمة المقالة، بمرافعة قوامها “تمازج” العروبة والزُّنوجة: “لا يا نور، بل نحن عرب العرب، جمعنا كلَّ ما في العرب من نبل وكرم، وخير ما في الزَّنج من شدَّة وحميَّة”! 

هكذا يمكننا أن نخلص إلى أن صلاحاً انبرى، ابتداءً، بالهجوم على مقالة النُّور، لا لخلاف عميق معه حول مضمونها، وإنَّما لمحض “توقيتها”. ولعلنا نقع على دليل آخر يسـند هذا الحكـم في ردِّ صـلاح عـلى سـؤال عـبد الله بولا له، في وقت لاحق، عن قوله “نحن عرب العرب”، بأنه قال ذلك تعاطفاً مع العرب ضد الشَّامتين في هزيمتهم! ويقول عبد المنعم عجب الفيا، الذي أورد الواقعة، أن صلاحاً، عندما سأله بولا في باريس: “من أنت”؟! أجاب: “أنا الهجين عنترة”!

كان النُّور سبَّاقاً للإفصاح عن مكنونات صدره في ما يتصل بهذه المسألة الحسَّاسة. وكان محمد المكي، وبقية الشُّعراء الذين انفعلوا بالمنطق المؤسِّس لتيار “الغابة والصَّحراء”، سبَّاقين لنشر “عاطفة” جيَّاشة، وتأثيرات “وجدانيَّة” لطالما التمسوها في دواخلهم، ولم يطيقوا السُّكوت عنها! ولئن وقع الخلاف مع غيرهم حولها، فإنه لم يكن خلافاً حول الصِّيغة النهائيَّة للفكرة ذاتها؛ وهي، بالمناسبة، فكرة قديمة ما انفكَّ يعبِّر عنها أصدق شعرائنا، وأدبائنا، ومفكرينا، منذ أيام حمزة الملك طمبل صاحب الدَّعوة الجَّهيرة: “يا شعراء السُّودان .. أصدقوا وكفى!”؛ بل هو خلاف حول تركيب هذه الفكرة، وطريقة التَّعبير عنها، مما يستوجب الإحسان والتَّجويد.

لذا لم يعُد صلاح وحده إلى صورة “الهجين عنترة”، بل عاد النُّور نفسه، أواخر السَّبعينات ومطالع الثَّمانينات، ليساهم في المفاكرة التي استغرقت شهوراً، بمشاركة الرَّاحلين احمد الطيِّب زين العابدين وسرأناي كيلويلجانق، فضلاً عن نور الدِّين ساتِّي وكمال الجزولي، وقد أفرغت صحيفة “الأيَّام” الغرَّاء شرائطها، وحرَّرتها، وعملت على نشرها حول أفضل السُّبل إلى هذين الإحسان والتَّجويد، ويعود الفضل لنور الدِّين، بالتَّحديد، في سكِّ مصطلح “السُّودانويَّة” كمؤشِّر للاتِّجاه الأساسي لتلك المفاكرة.

(6)

تراث النور ضخم، ولا يقتصر على الشعر وحده، فلديه كتابات ودراسات قيمة عن الرواية السودانية، والقصة القصيرة، ومقالات وسجالات فكرية نشرت في الصحف في فترة الستينات والسبعينات، أشهرها تلك السجالية التي أشرنا إليها بينه وصلاح احمد إبراهيم. وقد أسهم النور، وقتها، وبنشاط كبير، في إثارة نقاش ثر حول الهوية السودانية، بمشاركة الكثير من أهل الثقافة والفكر آنذاك. وأسهم النور ايضاً بدراسات قيمة في الشعر، وبخاصة شعر الشباب، فقد كان عضواً في لجنتي التحكيم لمسابقة الشعر الأولى للشباب عام 1973م، والثانية عام 1975م واللتين ترأسهما المجذوب. ومن خلال عمل النور في تينك اللجنتين توفرت لديه مادة وفيرة مكنته من إعداد دراسات قيمة في هذا المجال، مثل كتيبه “دراسة في شعر الشباب” الذي نشره بتاريخ نوفمبر 1973م، في ثمانين صفحة، ضمن “سلسلة الشباب الشهرية” التي كانت تصدرها وزارة الشباب والرياضة والرعاية الإجتماعية. ومن خلال الأوراق التي قدمتها لنا إيزيس وجدنا الكثير من تعليقات النور على الكثير من الأعمال الشعرية، والأغاني، بعضها لفنانين شباب لمَّا يزالوا، بعد، في بداياتهم الواعدة، كمصطفى سيد أحمد وآخرين، وهي أوراق مهمة وذات قيمة كبيرة للدارسين، ولكننا حصرنا انفسنا في الشعر وحده، على أمل أن يتوفر شخص، أو بضعة أشخاص، أو جهة ما للعمل على جمع هذه الآثار ونشرها.

 

(7)

في الختام نرى، لأجل إلقاء المزيد من الضوء على رؤية النور لجيله وهم يؤسسون فرادتهم وتميزهم الشعري، أن ننهي هذه المقدمة بكتابته التي تشبه البيان الشعري لجماعة أو مدرسة “الغابة والصحراء” وهم يقدمون أنفسهم كشعراء سودانيين يسهمون مع أقرانهم في رفد الشعر العالمي، بلغتهم، وثقافتهم، وهويتهم المتميزة. لقد جاء ذلك الخطاب بعنوان “نحن الشعراء الأزمة”، على النحو التالي:

[نحن أمَّةٌ من الشعراء رأت أن تقول شيئاً آخر .. أن ترى وتشير إلى إمكانية النظر إلى الأمور من زاويةٍ أو من منظور مغاير لمألوف النظر والسمع  والشمّ و اللمس  والذوق والتذوق والتلمس والتودد والتباعد والاقتراب و ــــــــــــــ  العيش ..

وقيض الله لنا نعمة ما بعدها نعمة: عدم الاضطرار للخروج بأزياء مخلة بالأدب، وأفعال والغة في القدح الذي سقينا، طعمنا، ربينا به.

ولم نقل إن نقادنا لم يولدوا بعد .. بل شكونا إلى ذواتنا غربتها وصلّينا من أجل التواصل الحميم .. من منطلقاتنا.

خيرنا وفير. نراه في فتوحات الكتابة الجديدة من أقصى أقصى الشمال إلى أدغال الجنوب ووديان الغرب .. ولا أقل من بسيطة الشرق الوعرة.

لم نخرج إلى معافرة أهالي ديار سوريا ومصر والعراق ولبنان وباهي باهي  وما وراء النهر  .. لهم ولنا ما لهم ولنا، ولم نعدم الاستفادة العظمى من جهودهم الفاعلة.

لم نبحث عن جدوانا في عيون آخرين .. أو .. لأننا – كما حسبنا – تعبير عمن دفعوا بنا لتعلم معرفة وعلوم تجبّر دهر الفاقة والمكابدة فحرمهم من ارتياد “أروقتها” .. كنا نحن شهداء على ذلك ..

هم يدركون، بتلك الحاسة المقدسة بين الوالد والمولود، أن الدم لا يصير ماء .. إذ الرائد لا يكذب أهله

الأزمة ..

         الوعي ب

         “” الفجر اقوم لأكتب شعراً لا يغني من جوع

                  الناس تحاشوني .. ألخ””

                                                      المجذوب].

هذا، ونسأل الله التوفيق، وأن يجد هذا العمل، من كل المهتمين بأمر الشعر والثقافة والفكر في السودان، أفراداً ومؤسسات، ما يستحقه من عناية ودراسة وتقدير، والله من وراء القصد.

 

                                                          كمال الجزولي وعالم عباس

                                                  ديسمبر 2018م

 

***


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *