يقول محمد المهدي المجذوب (1919- مارس 1982) في حواره الشهير الذي أجراه معه الشاعر عبد الرحيم أبوذكرى –مجلة الثقافة السودانية –فبراير 1976: “لا يستطيع شاعر في تقديري أن يرفض شيئاً، فالشعر جهاز يجمع ويرتب بلاوعي، ويختزن كل شيء من مشاهداته لحركة الناس والأعمال الفنية غير الشعر، وقد تعلَق بنفسه الأشياء العادية ثم تتحرك هذه الموهبة أوهذا العقل الخفي إلى تشكيل شيء نستطيع تأمله، وقد نتذكر فيه شيئاً يعود بطريقة غريبة، وأحسب أن الذين طلبوا الكيمياء شعراء ضلوا الطريق”.
إن هذا المقطع من حوار المجذوب خير معين على قراء (البشارة.القربان.الخروج)، وهي مطولة شعرية كثيفة البعد والرؤيا.
إن الاختزان واستعادة مكوناته سمة ظاهرة في القصيدة التي تشير إلى مجموع معارفها صراحة أو إيماءً عن طريق آلية النسيان والتذكر، إذ تتولَّد الإشارة إما عن طريق الإحالة الرمزية أو عن طريق استدعاء المكان والشخصيات والأحداث والتواريخ تلقائياً، وفق الشروط الجمالية التي ابتدعتها المطولة مشيرة إلى نفسها كمجموعة من المراحل التي تمرُّ على الذات في كُلِّ فصلٍ من فصولها السردية الثلاثة.. يقول المجذوب في ذات الحوار (ومن حسن حظي أنني لا أحفظ، ولذلك فأنا حر، أي أنني لا أتقيد، ولا أعرف بالضبط من أين جاءتني القدرة على التفلت من الكتب أم هو ضعف الذاكرة، إنني أقرأ الكتب فعلا قراءة خاصة مؤثرة، ثم أنساها من غير أن أتعمد النسيان، أم مرد هذا أني أنتقل من حالة إلى حالة، فالكتب والمشاهد معابر).
تنفتح المشاهد والمعابر على الذات الباحثة عن مطلقها في سرديات غير محكومة بالترتيب التاريخي للمعرفة.. وتتموَّج الذات على درجات من الانفتاح والانغلاق وتلتقِي في عبورها ومحاورتها بأعلام كأفلاطون وسقراط وأبي نواس وغيرهم، في تنقلات مفتوحة لا تعتدُّ بالزمن الخطي وحيث المعرفة شجرة واحدة.. تتمدَّد الذات لتضمَّ نفسها في محاورة مع الأعلام / التواريخ / الأماكن / الحوادث / الكتب.
يمد سقراط إليَّ سمه المُفكِّرا
ينام أفلاطون في الزيتون من يدي غلامه
جاوزته معتذراً شكوراً
الحزنُ والحكمة توأمان
الأفق مسدودٌ وموجنا رمال
ساريتي شراعه تخلعه وتلعن المنار
(البشارة القربان الخروج ص12)
وتلتمس الذات نفسها في التاريخ / المعرفة / المكان:
وثورة الزنج على كساحة الخليفة
واللؤلؤ المكنون في البصرة ملء راحة القتيل
وأكل المأمون لقمة الأمين
بغداد أخلفت مواعدي
النخل تحت سيفها تنهدا
(البشارة. القربان. الخروج ص12)
تؤسس الذات للقاءاتها مع الأعلام متروكة لتقبل مقولاتهم المستنبطة من فهم واستبطان تجارب ومعارف وسرديات حياتهم وتفاعلاتهم ومنتجهم، في محاولة لعبور الذات إلى مطلقها الضائع وراء العالم والأشياء:
أكلت سمكاً سقيفاً عند أبي نواس
يجرع كأسه من صور الأكاسرة
حذَّرني من الأمير سيفه يصغي إلى المديح
يقودني إلى سطيح
يبيت جسمي ناهشاً عنيفاً
يأكل مني سمكاً سقيفاً
(البشارة. القربان. الخروج ص12)
ومن ثم تعود الذات إلى انغلاقها فيما يلي السابق من النص:
جُنِنْتُ من شدَّة عقلي وحسدت الجاهل العميا
مصباحه يرى ولا يرى ضيائي
غير دجى ملطخ الحذاء
وقطرة من دمي المسفوك في العطاء
موتي فيما أشتهي بقائي
(البشارة .القربان. الخروج ص13)
تذوب الأعلام / الأمكنة / الرموز التاريخية والدينية في حركة بحث الذات لتصبح ذات دلالات معرفية ووجودية تسلط الضوء على بؤرة الذات وتتوسل بها الذات للبلوغ وهي التي تنتظر البشارة فيما هي تبحث:
بشارتي
تعبت أسفري
حجاب جسدي صارعني في دربي المشتبه المرير
بيروت في مطارها رأيت جسدي يقول
يا شاعر الظما زهدت في يا خليل
اِنْسَ أعاليل البشارة العقيمة
ورؤوسا حملتها في حرزك القديم
توقَّ من حب المسيح وابك مريم التي مست فؤاده بشَعرِها البليل
اصح من التوحيد والجذب أفق على ألوهة الوثن
يا عابد الروح إلهك البدن
(البشارة القربان الخروج ص14)
إن النصوص الثلاثة المكونة للمطولة تمنح مساحات للتأويل من خلال الإحالات الرمزية المومضة والتي تزيح قارئها إلى مجموع من القراءات المفتوحة على مطلق حالات القراءة والتأويل.. كما نقرأ في قصيدة البشارة:
وانفلقت تفاحة بتول
حياتها من لذة في دمها تسيل
قيثارة أصغي إلى سرورها السليب
رائحة حميمة من جسد غريب
أحبها منتقما من سرها
(البشارة القربان الخروج ص15)
تتولد التفاحة في القصيدة كإشارة قابلة للتأويل مثقلة بالمرجعيات الدينية (القرآن –الإنجيل – التوراة) في استعادة سردية الحياة الأولى.. كما تتولد في ذات الاتجاه استعادة سردية لقصة هابيل وقابيل في قصيدة القربان:
الليل طال
قابيل يشتهي امرأة
وأشهد الغراب مؤمناً بالحيض والعذاب في الولادة
لأنه يعرف ما العبادة
يدس في التراب حبة معادة
(البشارة. القربان. الخروج ص 30)
هذه الإشارة وعلى تنوعها في المطولة الثلاثية، تُحاول استعادة البداية الإنسانية عن طريق الإلماح في سبيل استرجاع الذات لمُطلقها المبحوث عنه في ثنايا القصائد فتنفتح الذات على معارفها شديدة الاندماج بها بادية كأنها تحاورها وتعيد إنتاجها في المطولة.. كما تقترب المطولة في بعض أجزائها من الحالات الصوفية كثيفة اللغة واسعة المعنى، وهي تطلب انكشاف الحجاب عن سردية البداية لتصل إلى سردية النهاية المبحوث عنها:
طهر قرابيني الذي هتكته لم يهتك الحجابا
يا ربتي بعادك اقترابي
الدم والقطاف دمع يابس على يدي
لم ترَ نظرتي أول نظرة رأى بها الوجود
ومسمعي أول صوت لم يعد إليه
متى يعود
بابي لم أجد حين قمت خارجاً
ولم أجد يدي
ولا فمي ولا عيوني
فارقني يقيني
حتى غيابات الظنون أقفرت من الظنون
(البشارة القربان الخروج ص 28)
يتماهى النص وحالة الغياب الصوفي في حالة من الانفصال عن الحواس والإدراك العقلي وتغرق الذات غائبة في العدم:
أنا العدم
رأيت محرابي واقفا يجدف
يهرف بالأقوال والحكمة ذات الجدب والدعاوى
-أين الجزاء قلت لي جزاؤنا من معدن العمل
-هل صرت ربا واحدا لدى حجاب ربتك
-ليس لها من الصفات ما ننشقه من أرضنا ترنحت على المطر
-ولا تسوي نخلها على الضفاف عارية
– أين مكانها من المكان والزمان
-وهي محال عشقت سواك في المحال
-وأنت ما سواك عاشق لنفسه
غير أن مصادر الذات التي تتوسل بها للوصول إلى الحقيقة لا تبدو كافية:
الدرب أعين كاذبة الأسماء ذقتها فلم أذق سمائي
أعود للكأس لعلها ترى
ألمحها بأذني فبصري سراب
(البشارة. القربان. الخروج ص38)
تتحول الكأس إلى صورة من الغياب يُتوسَّل بها في إحالة لرمزية الكأس في العرف الصوفي.. فهي وسيلة للرؤية لا عن طريق البصر ولكن عن طريق الإنصات لصوت الوجود الخافت.
إن النص كما قلنا يستعيد سردية البداية بصورة مُتكرِّرة، مؤكداً على مجال بحثه الما ورائي:
نسأل عن شيء وراء الكرم والأسى والانتظار والزمن
(البشارة. القربان. الخروج ص 36)
ولكن النص يعي بناء ثنائية الحياة في نهايته، في خروج عن حالة الغياب الصوفي عن الزمن والحواس من خلال استعادة سردية آدم وحواء.. وتتأول السردية من خلال النص ذاته:
وانكسرت مرآة آدم فكل قطعة زاخرة بأنفس وأثرة
عذبه شيءٌ وراء سرة التفاحة المنتظرة
وانطلقت أسرارها وأطلق العناق حية حاسدة مدمرة
تفعم كأسه بنفخة الميلاد والدمار
ودارت الأرض وسرة التفاحة المدار
وانتصب آلهة الذنوب حولها والمغفرة
واتحدا وانفصلا
أُنثى شجاعة الخيال تبدع الصور
فارسةٌ أبطرها انتصارها على القضاء والقدر وذكر يحلم في عماه بالبصر
تُلبسه التين لأنها تراه عاريا في جنة عارية مطهرة
لأنه لأنه
لأنها خلوده في الحب والوداع والرحيل
(البشارة. القربان. الخروج ص40)
تتمثّل استعادة السردية في العودة إلى مرجعياتها الدينية (الإنجيل -التوراة-القرآن)، لكنها لا تمثل السردية الدينية ذاتها، إذ إن النص يستعيدها من خلال شروطه الجمالية التي اجترحها.
إن التنوع الذي مرت به تجربة محمد المهدي المجذوب فضلاً عن غزارة المنتج يجعل القارئ والدارس والمهتم في حيرة تبحث عن نسق يلمُّ هذا الشتات الدري.. ولكنه شاعر مُتمرِّد على النسق مطلقاً.
في المطولة (البشارة القربان الخروج) تتحرك الذات باحثة عن حقيقتها المطلقة متوسلة باستبطان واستعادة مصادرها المعرفية المتنوعة. تتحرك المطولة كرحلة ذات مراحل من خلال دلالات العناوين في كل مرحلة والتي لها تكثيفها السردي.. تلك الرحلة التي يُعبِّر عنها إهداء المُطوَّلة ذاتها، حيث تجد الذات ذاتها في رحلة أخرى غير مقصودة:
إلى الكاف واللام
ذلك الجمال الغريب
الذي ارتحلت إليه في رحلته
فأعطاني رحلة أخرى.
هكذا تبدو سردية رحلة الذات الإنسانية إلى حقيقتها اللامرئية.. وهكذا سيظل الشعراء عاشقي الحقيقة التي تكمن وراء الكون الواسع.. وسيظلون يستقبلون هداياهم وأرزاقهم من الشعر حتى ينكشف الحجاب تحت وطأة الموت.
المراجع:
-البشارة القربان الخروج-مجموعة شعرية –محمد المهدي المجذوب.
2-مجلة الثقافة السودانية –فبراير -1976م.
*بورتريه محمد المهدي المجذوب من أعمال الفنان التشكيلي عماد عبد الله.