صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

عيد الميلاد الرابع: ثورة ديسمبر السودانية

شارك هذه الصفحة

الذين دبروا فض الاعتصام، كانوا يعلمون إن من تسحقهم القبضة العسكرية الجنجويدية الأمنية الهائلة هم القلب الثوري (النواة الصلبة لشباب الثورة). فعندما ينام الآخرون، هم من يحرسون التروس وتتحرك دورياتهم حول الميدان. كان معظم ضحايا جريمة ومجزرة فض الاعتصام من النواة الصلبة. بطبيعتهم البعيدة عن الأضواء تركوا في المشرحة، بعضهم احتضنته الأمواج الهادئة للنيل الازرق، وبعضهم مفقود لايعرف له مكان. الذين نجوا بشكل ما اصطادهم القناصة في الأيام التالية، وضمنهم الشهيد عبد السلام كشة وآخرون.

لكن خارج حسابات القتلة والمحرمين، كان فض الاعتصام هو الولادة الحقيقية للجان المقاومة كما نعرفها حتى اليوم. وقد وضح هذا جليا في قدرتها على التخطيط والتحشيد والعودة إلى الساحة السياسية ورص الشعب السوداني وراء شعارات ٣٠ يونيو ٢٠١٩م.

رغم قدرتها على تنظيم أكبر حشد حدث في السودان الحديث، واستمر أربعة أعوام؛ فقد كان أثر فقدان العديد من النواة الصلبة وانهاكهم في عملية التحضير للمواكب أثرها السلبي في أنها لم تستطع التحرر من موضعة لجان المقاومة في خانة المحرك للعملية السياسية بدلا من التفكير الجاد في أن تصبح هي مركز العملية السياسية لكسر سيطرة النخبة العاصمية المتخاذلة والمساومة.

بعد ٣٠ يونيو ٢٠١٩م أصبح للجان المقاومة وجودها الشعبي ووصفت أحيانا بأنها نبض الشارع. كان لهذا البروز والظهور الكاسح أثاره الإيجابية من اعتماد الشعب في الأحياء عليها في حل أزماتها المتفاقمة، وحتى تحديد بوصلة السياسة وغيرها، لكن كان أثرها السلبي أكثر وضوحا وحاسما في أنها أصبحت المرجعية للشارع وتركوها وذهب كل لقضاياه.

رمى الشعب بثقل المسؤولية على اللجان وأنهكها في نفس الوقت في الخدمات بالأحياء. وبدلا من أن يطلب الشعب حكومته بتوفير الاحتياجات، فقد حولت مطالبها إلى لجان الخدمات والتغيير. وضعت الدولة العاجزة والعميقة العراقيل أمام اللجان بواسطة حكومات المحليات التي لم يمسها أي تغيير من حكومة د. عبد الله حمدوك وشلله.

محاولة إصلاح هذه المحليات كان ميدانا آخرا للصراعات على المستوى المحلي، من كرري في أم درمان، إلى الضعين والمجلد في كردفان، وكذلك أمبدة وغيرها، واستهلاك اللجان وإنهاكها وإبعادها عن التقاط الأنفاس لتبدأ التفكير في دورها الوطني الجديد.

انتظر هذا الدور الوطني الجديد حتى انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١. وبرغم الأنشطة من مواكب مركزية وفي الأحياء والوقفات وغيرها، والتي كانت تقريبا يومية، فقد بدأ التفكير في رؤية لمسار الثورة وتمحورت حول الوصول إلى ميثاق يحدد إطارات تأسيس الدولة. وبعدها جاءت مرحلة توحيد المواثيق والاختلاف حولها.

رغم أن الشباب مثلوا الحجم الأكبر- بحكم الهرم السكاني السوداني- في الثورة إلا أنها جذبت لصفوفها كل مكونات الشعب، وظلت تزداد أعدادها وتنوعها مع الأيام. ملايين من أبناء كل الشعب شاركوا بشكل أو آخر. هذا الخضم العارم كان يتأثر بأطروحات الأحزاب والأفراد وأصحاب الرأي والفكر والشعراء والمغنيين حسب اقترابهم من نبض الشارع العريض. ومع مرور الأيام، وفي سنتها الأولى، بدأت تدخلات الأحزاب.

هناك قواعد ثابتة في كيفية تعامل الأحزاب مع مكونات الشعب المختلفة: أولها مفهوم التأثير وهي تعتمد على أطروحات الحزب وتصوراته وبرنامجه لحل قضاياهم، وظهر جليا في أول الثورة من تأثر الشارع بشعراء اليسار من محجوب شريف ومحمد الحسن حميد ومحمد طه القدال وأزهري محمد علي، وغيرهم. ثاني هذه المفاهيم هو الانتقال من التأثير للسيطرة “السواقة” كما يطلق عليها.

كان الصراع في (تجمع المهنيين) أول بوادر السيطرة من طرفي النزاع، الشيوعي من جهة والاتحادي والبعث والمؤتمر السوداني، من الجهة الأخرى، وأدى لأول شرخ في جسد الثورة تحت دعاوي متعددة. وتلاها محاولات السيطرة على النقابات التي أدت لفشلها في تكوين نقابات واتحادات شرعية منتخبة، وخرجت من دائرة الصراع.

مثلت لجان المقاومة مركز الصراع على السيطرة منذ بدء ظهورها، وزرعت الأحزاب منتسبيها في لجانها القيادية، لكنها لم تكن بعد مركز الثقل في السنوات الثلاث الأولى. مع انقلاب ٢٥ اكتوبر ٢٠٢١ بدأت لجان المقاومة في التبلور بوصفها قائدة للشوارع والتنظيم الوحيد المتاح للسيطرة بعد غياب النقابات وضمور منظمات المجتمع المدني وضعف حركة الأحزاب.

تؤدي السيطرة الحزبية في الغالب إلى أن تبتعد المنظمات المعنية عن جذورها؛ لأنها تمثل مجموعة حزبية معينة وفكر مسيطر واحد من اليمين أو اليسار، يؤدي هذا بالضرورة لانقطاع اللجان المعنية عن جمهورها المتنوع وتصبح- كما حدث- جزر كبيرة لكنها منعزلة عن “الشعب”، تتشدق بالرجوع إلى القواعد وتقصد قواعدها هي. حدث هذا فعليا؛ فقد تراجع أعداد المشاركين وبدأ انفضاض تدريجي ممن أحسوا بالتدخلات السافرة للأحزاب في تطوير قدراتهم الفكرية والتنظيمية، وتحولت القيادات المزروعة في قياداتها إلى المسيطرين بأشكال مختلفة. حدث هذا تدريجيا بدون أن تحس بها مجموع اللجان.

في أحد النقاشات التي ضمت ممثلين لعدة تنسيقيات مدن من العاصمة (من الموقعين على الميثاق الثوري وغير الموقعين) أجاب ٣٦ من المشاركين من أصل ٤٠ مشاركا بأن هناك تدخلات من الأحزاب في تطوير فكر المقاومة في مواثيقها. وجاء هذا في نقاشات عديدة مع أعضاء التنسيقيات واللجان كأحد أسباب الانقسام الكبير وسط لجان العاصمة وبعض تنسيقيات الولايات القليلة، رغم اتفاق الجزء الأكبر من تنسيقيات السودان على ميثاق موحد إلا أنها عجزت عن وضعه موضع التنفيذ، الوضع الذي سمح للقوى المضادة بملء الفراغ بتنفيذ التسوية في 5 ديسمبر. عدم وضوح الفرق والتداخل بين التأثير والسيطرة هي النيران الصديقة.

قادت نقاشات مطولة في لقاءات عديدة للتوصل- حسب رأي المحاورين- إلى أن مخرجنا من هذا التشتت والدوران المفرغ وانهيار الدولة أن تتحد لجان المقاومة حول ثلاثة قضايا رئيسية: 1 تكوين جسم قيادي مفوض عبر الديمقراطية القاعدية من تنسيقيات السودان لقيادة الثورة وتنفيذ برنامجها حول انتزاع السلطة؛ ٢ أن تعلن لجان المقاومة استقلاليتها من المكونات الحزبية؛ ٣ العمل في جبهة تمتين إطاراتها المعرفية والفكرية والمنهجية لتقديم قيادات لإدارة الدولة.

الوضع الراهن. إن هناك قيادة حزبية سياسية بدون قواعد تتبنى التسوية، وهناك قواعد في الشارع الثوري بدون قيادة. هذا يستتبع بالضرورة أن ترجع القوى الحزبية عن محاولات القفز على الشارع الثوري وفرض مشروع تسوية ضار جدا، وأن تلتف حول قيادة لجان المقاومة لتعديل توازن القوى وتنفيذ انتزاع السلطة بوصفهم مؤيدين ومشاركين.

ويا ثورة سودانية.. عيد ميلاد مجيد.. بدأت بأمواج متلاطمة في ١٩ ديسمبر وتستقبل عامها الخامس بأمواج غير مسبوقة.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *