صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

يوميات الحرمان من الدولة والحياة: 1821- 2021

شارك هذه الصفحة

معز الزين

عندما أخذ الحكواتي الذي يناهز عمره التسعين عاما، المقيم بإحدى قرى ضهاري أبوجبيهة بجنوب كردفان، يحكي الحكاية تلو الأخرى عن تجربته الوجودية الطويلة منذ أزمنة الاستعمار وإلى الآن، ساردا يومياته المريرة إبان خضوعه لجزاءات ’’ضريبة الدقنية‘‘ المفروضة في تلك الأزمنة، كان يُردِّد أن الاستقلال لم يمنحهم إلا لحظة من التحرَّر من الاستعمار، لكنه لم يحرِّر حياتهم من العوز والحرمان.

وكلما همَّ هذا الرجل بالغوص في ينابيع الحكايات مرة أخرى، ناشلا نطفة كل حكاية من خاصرة القول الشفاهي، كان يبدأ من بواكير الخمسينينات من القرن الماضي، مشيرا بشكل غامض وملتبس إلى إسماعيل الأزهري، وصولا إلى منتصف الثمانينيات، راسما بأصبعه المبروم الحاد دائرة في الفراغ حول حكم الصادق المهدي، قبل أن يعود ملجوما إلى السبعينيات مردِّدا إسم ’’النميري‘‘ أكثر من مرة.

كانت يومياته، وهو يسردها في ارتعاشاتٍ وارتجافاتٍ لا تكل أو تهدأ، تشي بأن من ’’لا صوت لهم‘‘، أو من تمت مصادرة حقهم في الكلام طوال أزمنة ما قبل وما بعد الاستعمار، لهم تواريخهم وأزمنتهم التي تمضي في اتجاهات ومسارات مضادة لتواريخ وأزمنة ختمت عليها وشرعنتها السرديات الرسمية والخطابات المهيمنة. اللافت أن هذه التورايخ والسرديات المضادة تستمد قوة انتزاع الصوت والحق في الكلام من ’’الحالة اليومية‘‘ بكل حمولتها المجازية التي تحيل إلى العمل اليومي الشاق والفعل اليومي المضاد النزَّاع إلى التحرُّر من إرشيف الحرمان من الحياة والمواطنة الذي ابتدرت تدشينه كل التشكُّلات الحديثة للدولة في السودان، أبرزها ذلك التشكُل الذي غرس أوتاده الاحتلال التركي ــ المصري في العام 1821.

إن كل التواريخ التدشينية الرسمية، الاستعمارية والوطنية، التي تغطي أطوار ومراحل التشكُّلات الحديثة من 1821 إلى 2021، ماهي إلا تجسيد لتطابق سيرة حرمان الإنسان من الحياة مع تاريخ فشل الدولة. وكأن المرء يعيش حرمانه مرتين، مرة من الدولة نفسها، بغيابها ككيان تاريخي وتعاقدي ومؤسساتي، ومرة أخرى من الحياة بسبب فشل الدولة، نتيجة لعجزها البنيوي والوظيفي عن تحقيق المواطنة وعدم قدرتها على توفير أدنى أساسيات العيش الكريم، ليصبح إنسان هذه البلاد يعيش بين حدود حرمانين يحاصرانه من اللحد إلى اللحد.

صادف العام الماضي، 2021، مرور مائتي سنة أو قرنين من الزمان على سيرة الحرمان من الدولة ومن الحياة وبزوغ مائة سنة أو قرن جديد دشنته ثورة ديسمبر 2018: فهل يشكل هذا الميلاد الثوري الجديد لمائة عام قادمة تاريخا للقطيعة مع إرث سيرة الحرمان المزمن، أم أن إرهاصات إجهاض مسارات التحول الديمقراطي والانتقال قد تشي بمعكوس الانبثاق والولادة، أي بما هو إحياء للقديم وللتشكلُّات المشوهة والموروثة للدولة المعاد إنتاجها على مدى قرنين من الزمان؟ إذ لا ينبغي التفكير في هذه القطيعة الثورية المزعومة مع تواريخ العنف وسرديات الهيمنة على ذلك النحو المجرد والحالم، أي ارتهانا لمعطى سقوط نظام ديكتاتوري، وإنما من خلال تجذير يوميات الممارسة الثورية التي تتغذَّى من الفضاءات التي أشرعها التحرُّر والانعتاق من الاستبداد الإسلاموي الذي جفَّف ينابيع الحياة وشرايينها طوال ثلاثة عقود حسوما. إذ ينبغي الإمعان في اليوميات بوصفها تشكيلات تحريريِّة مفتوحة من الفعل والتفكير والكلام التي تُشكِّل بدورها سيرورات المقاومة دوما وأبدا.

إن ابتدار أي مناحي أو اتجاهات للقطيعة لابد أن يقرن في آنٍ واحد يوميات الحكواتي المعزول في الضهاري الطرفية البعيدة بيوميات ثائرة الحواري المدينية. فإذا كان هذا الحكواتي، الكامن في ثورته الصامتة، يستمد طاقته التحريرية من استرداد الصوت وانتزاع الحق في الكلام، متوسلا الحكاية بوصفها شكلا جماليا، فإن ثائرة الحواري المدينية تستمد طاقتها التحريريِّة من استرداد الصوت والجسد معا من أوكار نسق العنف الذكوري الكامن في أحشاء المجتمع وفي بنى الدولة. إذ لا ينفصل الجسد عن الكلام، كما لا ينفصل التأسيس الجذري لدولة المواطنة عن تجربة تحرير الجسد والصوت معاَ.

تمنح المرأة جسدها ليومها، لفعلها التحريري الدؤوب، وليس لرجلٍ ما، كما يمنح الحكواتي جسده ليومه أيضا، لفعله التحريري الدؤوب، وليس لفحولته، وما بينهما تنهل الدولة من فعلهما التحرير فتشرع في مد شُباحات الوساع الرحيب والرفاه لشعوبها جماعات وأفراد.

ويبدأ التأسيس للدولة، البناء وإعادة البناء، باستراد الحياة نفسها من براثن الحرمان والقبح، أي بالعودة إلى الوراء تفكيكا وتشريحا لخطابات الهيمنة، وبالنزوح الداخلي والخارجي للآنا بوصفها آخر متعدد الأصوات والهويات.

إن يوميات القطيعة والتأسيس هي يوميات من التشكيلات المفتوحة للذات الفاعلة وللفعل والممارسة والفكر والخطاب. إذ تبدأ القطيعة من المستقبل، عندما نذهب إلى المنام بأجساد حرة، مشجرين باحتمالات أن تتكثّر الذات الفاعلة إلى أكثر من كائن ومن جسد: أي أن تكون الليل والنهار بلا غيرية نرجسية. كما تجرف القطيعة أيضا الماضي، وذلك عندما يتجسَّد الحاضر بوصفه إعادة إكتشاف دائمة للحياة في الحواري المدينية والضهاري الطرفية.

يلزمنا التمادي في التشظي الكياني للأنا النخبوية والمتعالية، لكي تمتد الجغرافيا وتتسع لكل شعوبها ومجتمعاتها. ترمي الاستنارة نردها الرابح في براري الفضاءات الصغري: في البيوت وسوح الأحياء والحواري والميادين العامة، ومن ثم إلى المسارح وصالات العرض التشكيلي ودور السينما والمنتديات الشعرية، حيث يتم إحياء الفعل العمومي وشبكات التواصل التشاركي والديمقراطي بين الناس. تتولَّد وتتشكَّل الاستنارة من فاعليات تشاركية تستمد قوتها من يوميات الفعل الثوري القاعدي. يتشارك الناس تقعيد الاستنارة وتمريرها من الفعل إلى الفكرة. يناول الناس بعضهم البعض يوميات استناراتهم المسفوحة من الحس إلى العصب ومن العصب إلى الرأس.

إن بناء الدولة ومأسستها تبدأ من تجذير يوميات الفعل الثوري ومد روافده العضوية والقاعدية إلى ينابيع الاستنارة والتصالح الحميمي بين المؤسسة والذات الفاعلة المستقلة: دون ذلك، سيظل نشدان القطيعة مع تشكلات الدولة الحديثة المشوهة والمعطوبة، 1821ـ2021، محلوما على ذلك النحو المفارق للفعل والملموس، مرهصا لا محالة بإعادة تعزيم وإحياء شبح الدولة الاستبدادية الرابض والمخيِّم على كل فضاءات اليومي الفردي والجماعي.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *