صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

في الخرطوم كل الفرضيات ممكنة ومستحيلة.. لماذا؟

تعدد الجيوش بات مهددا في السودان

تعدد الجيوش بات مهددا في السودان

شارك هذه الصفحة

منذ أيام، تصحو العاصمة القومية الخرطوم وتنام على حركة غير طبيعية للقوات العسكرية، على خلفية حرب كلامية بين قادة الانقلاب، وعلى وجه الخصوص قائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بسبب خلافات حول بعض بنود الاتفاق السياسي الإطاري الموقع مع قوي سياسية ومدينة في ديسمبر الماضي، ما اضفى مزيدا من الشكوك حول فرص نجاح الاتفاق في فتح طريق الانتقال الديمقراطي.

الاتفاق الذي تم توقيعه في 5 ديسمبر من العام الماضي، يضمن بقاء قادة الانقلاب على رأس القوات العسكرية التي تتبع للدولة، ويترك لهم الاتفاق على كيفية إعادة تنظيمها وهيكلتها من خلال ورشة لم يتحدد موعدها بعد.

من مدخل قضايا هذه الورشة، تسمم الخلافات المناخ العام، وتزرع التوتر الذي يسم الحياة العامة وحركة المواطنين، فيما تظل كل الفرضيات بشأن هذا الخلاف، أو حتى مصير الاتفاق المدعوم دوليا، ممكنة ومستحيلة وفق مراقبين، استنادا على طابعها غير المؤسسي.

في الساعات الماضية، صَعد قائد قوات الدعم السريع من هجومه الكلامي على شركائه في انقلاب 25 أكتوبر، وقال مخاطبا القوات المسلحة، إن مشكلتهم ليس معها، بل مع (المكنكشين) في السلطة، في إشارة لا تخفى إلى قائد الانقلاب وما يعتبرهم فلولا للنظام البائد في الجيش الرسمي.

لا يمكن التعامل مع هذا الهجوم بمعزل عن الحرب الكلامية الدائرة بين حميدتي وشقيقه عبد الرحيم، من جهة وبين بقية شركاء الانقلاب، والتي يتابع الرأي العام فصولها منذ أسابيع، دون أدنى فكرة عن مآلاتها، في ظل تعبئة وتعبئة مضادة للقوات على أرض العاصمة والمدن الكبرى في الولايات.

أساس الحرب الكلامية، هو وضع قوات الدعم السريع خلال المرحلة القادمة، وكيفية موضعتها بين القوات النظامية التي تتبع لرأس الدولة، فبينما يطالب قائد الانقلاب بدمجها هي والحركات المسلحة في الجيش، وفق جداول متفق عليها، قبل توقيع الاتفاق النهائي، يتعامل كُلاً من قادة الدعم السريع والقوى السياسية الموقعة على الاتفاق مع هذه المطالب باعتبارها محاولة للتنصل عن الاتفاق من باب آخر.

قائد الدعم السريع، الذي درج على إعلان موافقتهم على الدمج وفق جداول زمنية متفق حولها، لم يفوت فرصة لأن يتقرب من القوى السياسية والمدنية التي أسقطت نظام الرئيس المعزول عمر البشير، فقد أكد، في أكثر من تصريح، إيمانهم بالديمقراطية وبعدالة مطالب الشارع، ودعمهم الكامل للاتفاق الموقع مع المدنيين، دون أن يوضح رؤية الدعم السريع نفسه لكيفية الوصول إلى جيش واحد، بل ترافقت تصريحاته مع تحشيد لقواته داخل العاصمة ورفع درجة تأهبها.

من النقاط الرئيسة في خلافات قادة الانقلاب أيضا، الوضعية المستقلة التي ستنالها قوات الدعم السريع، وفق هذا الاتفاق السياسي، والذي نص على فصلها من قيادة الجيش ووضعها تحت إشراف رأس الدولة فقط، وهو بحسب الاتفاق منصب شرفي تحدد من يشغله القوى السياسية الموقعة على الاتفاق.

ونص الاتفاق أيضا، الحد من أنشطة الجيش الاستثمارية وإبعاده من التعاملات التجارية عبر الشركات المتعددة، لكنه ترك المجال مفتوحا؛ لأن تواصل قوات الدعم السريع ذات النشاطات التجارية دون أدنى تدخل من وزارة المالية، التي يقع عليها دور الولاية على المال العام، وضمان منع احتكار الشركات التابعة لجهات عسكرية لأنشطة مهمة في التعدين وتجارة المحاصيل والماشية.

وبدا لمراقبين أن الخلاف حول وضعية قوات الدعم السريع، انتقل من كونه مطلوب واحد من بين مطلوبات مهمة، لنجاح الاتفاق نفسه أو تعبيد طريق التحول الديمقراطي، إلى فخ كبير يمكن أن يفشل الاتفاق ويقود البلاد إلى هاوية.

ما قد يؤشر على ذلك، أن الاتفاق السياسي الإطاري لم يحظ أبدا بكامل دعم الشارع السوداني، قبله البعض ورفضه البعض الآخر، بسبب أنه يتيح فعلا بقاء الجيش والدعم السريع في مؤسسات الحكم لفترة انتقالية محددة بسنتين، في ظل مخاوف تنتاب قوى الثورة من تمديدها.

ومع أن هذا الانقسام لم يوقف عملية تنفيذ الاتفاق التي وصلت مراحلها النهائية، فإن ما يهدده الآن، عمليات استقطاب عمياء تمضي بتسارع، مركزها خلافات قادة الانقلاب، وتدخل تصريحات حميدتي كعنوان أبرز وأقرب.

قال حميدتي وهو يخطب ود منسوبي الجيش، إن مشكلتهم ليست معهم، بل مع “المكنكشين في السلطة”، ولا يتصور أن يحمل الهواء مثل هذه التصريحات، كيفما كانت ردات فعل مستقبليها.

ويتبدى في سياق هذه التصريحات مدى هشاشة العلاقة بين قادة الانقلاب، وميل الطرفين المختلفين للبحث عن حلول لقضية الجيش الواحد بعيدا عن الحوار المشترك داخل الإطار المؤسسي، وبعيدا عن الاتفاق نفسه.

عالج الاتفاق هذه القضية في بنود خالية من التفصيل، وترك النقاط حتى يحسمها قادة الانقلاب في إطار ورشة مخصصة للإصلاح العسكري والأمني، يتم تأجيلها بما يشبه الهروب إلى الأمام، وكأن جميع أطراف الاتفاق، بما يتضمن الوساطة الدولية، تنتظر أن يتنازل أحد الأطراف العسكرية، ويقبل الخضوع للطرف الثاني من تلقاء نفسه.

والفرضية الأخيرة تحمل في جوفها مخاطر متحملة على البلد، وعلى وحدة القوات التي تحمل جميعها سلاح الدولة، وتثير مخاوف عامة الشعب.

وقد تصبح هذه المخاوف أكثر منطقية، عندما يشار إلى أن الاتفاق السياسي الإطاري، هو الأول في من نوعه في تاريخ السودان، لجهة أنه ضم 7 أطراف مسلحة مشاكسة مع قوى سياسية لا تحظى بكامل دعم الشارع.

يبقى أن الاتفاق واجه معارضة مستمرة ودؤوبة من أغلب لجان مقاومة العاصمة والولايات، كان أبرز سماتها السلمية والحفاظ على وحدة المجتمع ومؤسسات الدولة، حتى في ظل القمع الذي تصدى لأنشطتها في الشوارع، لكنها رفعت في وجه جميع قادة الانقلاب مطلب مغادرة المشهد، وتسليم السلطة للشعب، وهي اليوم، كما نتابع، تعيد تنظيم صفوفها في الشارع لتحمل مسؤلياتها حال انفرط عقد الانقلاب وقادته.

ما لا يجب اغفاله في هذا الصدد، إشارة بعض القيادات السياسية لمزايا توفر وضع مستقل للدعم السريع خلال ما تبقى من المرحلة الانتقالية، ومن بينها ضمان دعم عملية الانتقال وعدم تعريضها لمخاطر الانقلاب مرة ثانية عليها.

المشهد الآن يعتمل بحالة من عدم اليقين بشأن ما تسفر عنه الأيام المقبلة، بينما تسارع القوى السياسية والمدنية التي وقعت على الاتفاق السياسي لإعلان حكومة خلال أسابيع، اتقاء أن تعصف بما تم التوقيع عليه الخلافات، وقد أعلنت هذه القوى على لسان القيادية مريم المهدي أنها قد تتجه حتى لإعلان حكومة تصريف أعمال، بانتظار التوصل إلى توافق كامل بين أطراف الاتفاق السياسي الإطاري، ويظهر الإعلان حرصا من هذه القوى على نزع فتيل الأزمة الحالية بين الأطراف، وكسب مساحة لتقربب شقة الخلاف الذي أقلق الأطراف، بما فيها الوساطة الإقليمية والدولية، التي كانت تنتظر توقيع الاتفاق النهائي خلال مارس الماضي، وإعلان الحكومة منتصف هذا الشهر.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *