صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

روزنامة الأسبوع: الفُوْهْرَرْ بُوْتِينْ!

وزير الخارجية الروسي

وزير الخارجية الروسي

شارك هذه الصفحة

الإثنين

في رسالة من الصَّحفي المصري محمود عمارة إلى الرَّئيس السِّيسي، قال:

[استصلاح مليون فدان في مصر يكلِّف 150 مليار جنيه، ومياه النِّيل لن تكفي السُّكان عندما يبلغ عددهم 160 مليون نسمة خلال 10 سنوات، ومصر تشتري قمحاً بـ 15 مليار دولار سنويا؛ فلماذا لا نؤسِّس شركة مساهمة بـ 150 مليار جنيه نشتري بها 10 مليون فدان في السُّودان، نستصلح مياههاًً الجَّوفيَّة والنِّيليَّة، ونزرع منها مليون فدان سنويَّاً بمحاصيل استراتجيَّة، فنوفِّر 40 ــ 50 مليار دولار سنويَّاً بدل استيرد غذاء كلَّ سنة بـ 100 مليار، قمح، وفول، ودخان، وعدس، وحبوب زَّيتيَّة، وغيرها، بينما الأراضي التي نكون اشتريناها في السُّودان تظلُّ تبعنا، ننام عليها، مع مياهها الجوفيَّة الوفيرة، فتكون أفضل هديَّة  للأجيال القادمة؟!

يا ريِّس، لماذا ندفع 150 مليار جنيه وعندنا 10 مليون فدان في السُّودان جاهزة، ولن تكلِّفنا سوى ورق أزرق لزوم عقود ورسوم التَّمليك، والتَّسوية القانونيَّة، وحفظ حقِّ الدَّولة، لأن هذه الأراضي ستكون ملك مصر للأبد!

يا ريِّس، بكرة الصُّبح ممكن نجمع 100 مليار جنيه نشتري بها أراضي في السُّودان، فنوفر مياهنا النَّاضبة، ونحجز مكان في أراضي السُّودان قبل ما يستحوز عليها الصِّينيُّون، والرُّوس، والخليجيُّون، والخواجات، ونستثمر للأجيال الحالية والقادمة كمان، وإلا سنصرف فلوسنا، ونخلِّص مياهنا، وبعد 20 سنة سنترك الأحفاد عطاشى، والأراضي في السُّودان تكون خلصت!

عموما يا ريِّس أتمنى أن يجد هذا الاقتراح الإهتمام اللازم قبل ما تقع الفأس في الرأس ونرجع نقول ياريت اللي جرى ما كان، وتلعننا الأجيال القادمة عندما تجد مصر بلا مياه وبلا غذاء!

العالم كله الآن يذهب إلى السُّودان ليؤمِّن غذاءه وشرابه، ولم يعد أحد غير المصريِّين ينتظر أن تأتي المياه، والمياه لن تأتي، خاصة بعد قيام سدِّ النَّهضة. مياه النِّيل خلاص “بَحْ”، وهذا واقع يا ريِّس. السُّودان موجود حاليَّا، لكنه غداً لن يكون موجوداً! الصِّين من جهة، وروسيا من جهة، ودول الخليج من جهة، والخواجات من جهة، نحن أحقُّ بأراضي السُّودان أكثر من جميع هؤلاء، ولا تنس أن السُّودان كان يتبع لمصر]!

إنتهت الرِّسالة: فيا للأسفٌ المُر، ويا للآهاتِ الأمر، ويا لهوان السُّودان في عيون “بعض” مثقَّفي مصر، ويا لضياع من أفنوا أعمارهم في الحلم بوحدة وادي النِّيل، ويا لتبدُّد عشق التيجاني لأرض الكنانة هباءً، ويا لذهاب صيحته النبيلة: “وثَّقِي مِن عَلائِقِ الأدَبِ البَاقِي/ ولا تَحْفَلي بِأشْيَاءَ أُخْرَى” .. أدراج الرِّياح!

الثُّلاثاء

همسة في أذن صديقي النَّاقد، والأكاديمي، والاعلامي المتميِّز مصعب الصَّاوي: كي تحقِّق نجاحاً كنجاح قدور، عليك بترك المجاملات التي لا معنى لها، والحرص على استضافة مبدعين بمواصفات .. عاطف السَّماني!

الأربعاء

للمرَّة الثَّانية في تاريخها تقف أوربَّا على  شفا جرفٍ هارٍّ يمثِّله خطر بوتين عليها. كانت المرَة الأولى خلال 1939م ــ 1945م، عندما اجتاحها جيش الفوهرر النَّازي، فراحت بلدانها تتساقط أمامه كأوراق الشَّجر اليبيس في موسم الجَّفاف! وهنا تقوم مفارقتان:

أولاهما أن الجَّيش السُّوفييتي الذي تصدَّر قوَّات الحلفاء، واجتاح بوَّابة برلين، ليدقَّ أجراس تحرير أوربَّا، دافعاً هتلر وعشيقته للانتحار في مخبأهما، هو نفس الجَّيش الذي تشكَّلت داخله نواة القوَّات الرُّوسيَّة الحاليَّة التي يستخدمها بوتين لتهديد أوربَّا مجدَّداً! ولئن تأسَّست استرتيجيَّة هتلر على لوثة “ألمانيا فوق الجَّميع”، فقد تأسَّست استرتيجيَّة بوتين على رهاب أن الغرب لا يهدف إلا لتقسيم روسيا، وتدميرها تماماً! ولا أهمِّيَّة، في النِّهاية، للفارق بين الاستراتيجيَّتين، فكلاهما تعبِّر عن انحراف ذهاني، ولا مناص لتطبيقهما من تدمير أوربَّا، وارتكاب مختلف جرائم الحرب، والجَّرائم ضدَّ الانسانيَّة، بالاضافة إلى الابادة الجَّماعيَّة!

أمَّا ثانيتهما فهي أن بوتين، بعد مؤازرته لسياسات تدمير الاتِّحاد السُّوفييتي عام 1991م، نظر، بالنَّتيجة، فوجد القوميِّين الأكارنة منهمكين، عام 1997م، في دفع بلادهم صوب الاتِّحاد الأوربِّي، وحلف “النَّاتو”، فجنَّ جنونه، وراح يتَّهم “الغرب” بتدبير “مؤامرة لتفكيك روسيا التَّاريخيَّة”! ومن ثمَّ انطلق يطالب “الناتو” بالتَّراجع عن التَّوسُّع شرقا،ً وإزالة قوَّاته، وتفكيك بنيته العسكريَّة التَّحتيَّة من الدُّول التي انضمَّت إلى الحلف بعد 1997م، ومنع نشر أسلحة هجوميَّة “بالقرب من حدود روسيا”، قاصداً بذلك شرق أوربَّا، ودول البلطيق. في ذلك الاتِّجاه ضغط بوتين، عام 2013م، على فيكتور يانوكوفيتش، الرَّئيس الأوكراني السَّابق الموالي لروسيا، حتى لا يتقارب مع الاتِّحاد الأوربِّي، مِمَّا فجَّر احتجاجات ضدَّه انتهت بالاطاحة به في فبراير 2014م. ولمَّا تبيَّن لبوتين أن ما كان يعتزمه بالسِّياسة والتَّفاوض قد أعجزه، تماماً، انقلب يحاول فرضه بالحرب، و”البلطجة المسلَّحة”، غير آبهٍ إلى احتمال أن يؤدِّى ذلك لإشعال المنطقة، وخرق معاهدات السِّلم التي تمَّ التَّوصُّل إليها بشقِّ الأنفس، منذ أيَّام ستالين الأولى وحتَّى أيَّام غورباتشوف الأخيرة!

بذلك التَّفكير سَّيطر بوتين، عام 2014م، على منطقة القرم جنوبيَّ أوكرانيا، ودعم حرب الانفصاليِّين مع قوَّات الحكومة في شرقها، لمدَّة 8 سنوات. وفي عام 2015م أُبرم، بالعاصمة البيلوروسيَّة، اتِّفاقاً فاشلاً للسَّلام. لكنه، قبيل غزوه لأوكرانيا بفترة وجيزة، مزَّق اتفاق مينسك ذاك، واعترف بدويلتين صغيرتين أقامهما المتمرِّدون، بدعم روسي، في منطقتي “لوهانسك” و”دونيتسك”. ثمَّ ما لبث، عشيَّة اجتياحه أوكرانيا، أن برَّر ذلك، دون سند على الأرض، بأن “النَّاتو” يخطِّط لإشعال  القرم، وتهديد ما أسماه “مستقبلنا التَّاريخي كأمَّة”!

على أن الوضع تغيَّر الآن كثيراً. فالتَّوصُّل لاتِّفاق سلام، ووقف  لإطلاق النّار بات وشيكا، حسب ميخايلو بودولياك، مستشار الرَّئيس الأوكراني زيلينسكي، لكون القوَّات الرُّوسيَّة عالقة في مواقعها الحاليَّة. بل إن المستشار الأوكراني قال، في تصريح لمحطة “بي بي إس” الأمريكيَّة: “نعمل، حاليَّاً، على وثائق سيتمكن الرئيسان من مناقشتها، والتَّوقيع عليها”. وأضاف: “إن الرَّئيس الرُّوسي خفَّف من مطالبه”. وفي الواقع فإن الأخير أراد، في بداية الحرب، أن يغيِّر القيادة الأوكرانيَّة لتعترف بتبعيَّة القرم لروسيا، وباستقلال الشَّرق الذي يديره الانفصاليُّون، ولتغيِّر أوكرانيا دستورها لضمان عدم انضمامها إلى “النَّاتو” والاتِّحاد الأوربِّي. لكن روسيا، في ما رشح من المحادثات، مؤخَّراً، بدأت تتَّجه للتَّسليم بعدم قدرتها على الإطاحة بالقيادة الأوكرانيَّة، وتفكر، بدلاً من ذلك، في “أوكرانيا محايدة ومنزوعة السِّلاح” على غرار النِّمسا أو السويد، وكلاهما عضو في الاتحاد الأوربِّي. لكن، بينما تعد النمسا محايدة، فإن السويد ليست كذلك، حيث أنها، في الواقع، غير منحازة، لكنها تشارك، مع ذلك، في مناورات “النَّاتو”! وعموماً ما يزال هنالك عدم اقتناع بأن روسيا تتفاوض بحسن نيَّة، فقد قال جان إيف لودريان، وزير الخارجيَّة الفرنسي إن على موسكو إعلان وقف إطلاق النار أولاً، لأنك لا يمكن أن تجري محادثات “بينما ثمَّة بندقيَّة موجَّهة صوب رأسك”!

أمَّا أوكرانيا فإن مطالبها باتت تنحصر، حسب مستشارها الرِّئاسي، في وقف إطلاق النَّار، وانسحاب القوَّات الرُّوسيَّة، وربَّما ضمانات أمنيَّة، ملزمة قانونا، توفِّر، بموجبها، دول حليفة حماية لها. ويقول مارك ويلر، أستاذ القانون الدَّولي، وخبير الوساطة السَّابق بالأمم المتَّحدة، إن تأمين الانسحاب العسكري الرُّوسي إلى مواقع ما قبل الحرب لن يكون، فقط، مطلبا أوكرانيَّاً، بل وخطَّاً أحمرَ من جانب الغرب الذي سيرفض أيَّ “احتمال لصراع روسي مجمَّد آخر”!

أوكرانيا، أيضاً، خفَّفت من موقفها أوَّل الغزو الرُّوسي، فقد قال زيلينسكي، مؤخَّراً، إن الأوكرانيين يفهمون، الآن، أن “النَّاتو” لن يقبلهم عضواً .. “تلك هي الحقيقة التي يجب الاعتراف بها”!

الخميس

تهلُّ هذا العام الذِّكرى الثَّلاثون بعد المائتين لـ “إعلان الجُّمهوريَّة” في فرنسا عام 1793م، عقب ثورتها البرجوازيَّة العظمى عام 1789م، وهو الاعلان الذي بلغ أقصى تطرُّفه ضدَّ “الدِّين” بنهج “اللائكيَّة laicisme” المتجاوزة حتَّى لشعار “فصل الدِّين عن الدَّولة” بمفهوم “العلمانيَّة secularism” التي كانت قد سادت، أصلاً، في الفكر الأوربِّي، دون أن تعني معاداة “الدِّين”. فالمعلوم أن ثمَّة عروة وثقى، ضربة لازب، بين هذا “الشِّعار” وبين “العلمانيَّة”، علماً بأن المفهوم الأصل، تَّاريخيَّاً وفكريَّاً، هو “العلمانيَّة”، بنشأتها في الفكر الأوربِّى، بحقبه الثَّلاث “النَّهضة ـ الإصلاح الدِّيني ـ التَّنوير”، مطلع عصر الحداثة.

أمَّا معاداة “الدِّين” فهي مفهوم “اللائكيَّة” باعتبارها “الطَّور الفرنسي” الخاص من “العلمانيَّة”، قبل أن تتخلى فرنسا نفسها عنها.

“العلمانيَّة” و”اللائكيَّة”، إذن، مفهومان أنتجهما الفكر البرجوازي القروسطي الأوروبي، بدلالة تحرير “السُّلطة الزَّمنيَّة” من قبضة “الإكليروس الكنسي”، المؤسَّسة الاجتماعيَّة ذات المصالح “الدُّنيويَّة” التي ارتبطت بكلِّ مظالم التَّشكيلة الاقتصاديَّة الاجتماعيَّة للاقطاع، والحارسة الأيديولوجيَّة لعلاقات إنتاجه، والصَّائغة لتبريراته الرُّوحيَّة، قبل أن تهب البرجوازيَّة، رافعة معها الكادحين على صهوات ثوراتها التَّاريخيَّة، وأشهرها الثَّورة الفرنسـيَّة، لتقوِّض سلطة تلك المؤسَّسة، بمصادرة أملاكها، وإلغاء الأتاوات التي كانت تفرضها على “المؤمنين”، بل وبتصفية الاقطاع نفسه، وإصدار “الإعلان الفرنسي لحقوق الانسان والمواطن”، تحت تأثير “فلسفة الانوار”، وإلحاق شؤون الأسرة، والتَّربية والتَّعليم، باختصاصات السُّلطة “المدنيَّة”. وفي السِّياق تلازم صعود المركانتليَّة، ومفاهيمها حول المدنيَّة والتَّمدُّن، مع عمليَّات التَّهميش الثَّوري المتسارع للاقتصاد الطبيعي الرِّيفي الذي كان يشكِّل أساس نفوذ «الاقطاع/الاكليروس»، مِمَّا هيَّأ لصعود مناهج جديدة للتفكير خارج مفاهيم اللاهوت، بحيث أصبحت الفلسفة عقليَّة، وبقي اللاهوت نقليَّا.

نخلص إلى أن “العلمانيَّة” لم تستهدف، أوَّل أمرها، مفاصلة ما مع “الدِّين”،  وإنَّما رمت، سياسيَّاً، فحسب، لإخضاع الكنيسة الكاثوليكيَّة لسلطة الدَّولة، باستقلال عن كنيسـة روما، لولا أن عوامل تاريخيَّة محدَّدة، لا يجوز، فكريَّاً، فصلها عن تاريخ المصطلح، أو إغفالها عند تناول المفهوم، دفعت بـ “العلمانيَّة”، في طبعتها “اللائكيَّة” الفرنسيَّة، على طريق التَّحوُّل لأيديولوجيا مصادمة لـ “الدِّين”!

من تلك العوامل أن التَّغيُّرات التي طرأت على أوضاع “الكهنة”، عقب الثَّورة، جعلتهم، بموجب “القانون المدني الفرنسي لرجال الدِّين لسنة1790م”، محض موظفين مدنيِّين لدى الدَّولة، أو ساسة يخوضون الانتخابات على أصوات المواطنين، متديِّنين وغير متديِّنين، فدفعت “الإكليروس” كي ينحاز إلى الثَّورة “الملكيَّة” المضادَّة في مواجهة “إعلان الجُّمهوريَّة” عام 1793م، مِمَّا أنتج وضعاً عامَّاً معادياً، ليس فقط لـ “الكهنة”، بل ولـ “الدِّين” ذاته، بحيث اتَّخذت المعركة بين “الجُّمهوريِّين” و”الملكيِّين” طابع العداء بين “العلمانيَّة” المتحوِّلة، فكريَّاً، إلى “اللائكيَّة”، وبين “الاكليروس” المتحوِّل، شعبيَّاً، إلى معادل موضوعي لمفهوم «الدِّين» نفسه!

هكذا تطوَّر الأمر، ليفضي، في الجُّمهوريَّة الثَّالثة، إلى مصادمة شاملة، بين القيم “اللائكيَّة الجُّمهوريَّة” والقيم «المسيحيَّة الملكيَّة»، قبل أن تعود الأمور، لاحقاً، كي تستتبَّ لصالح احترام القيم الدينيَّة، حتَّى ضمن المفهوم العام لـ “العلمانيَّة”.

الجُّمعة

الصَّديق حامد فضل الله مهندس أمدرماني درس ويعمل ويقيم ببرلين. لم نلتق من قبل، لكن يجمعني به، وبإخوة سودانيِّين آخرين في مختلف أركان الأرض، موقع بريدي إسفيري مغلق علينا نسمِّيه “الحوش”، تيمُّناً بحميميَّة البيت السُّوداني، وقد أسَّسه، وجمعنا فيه، على شتاتنا الواسع، صديقنا عابدين زين العابدين، الأستاذ الجَّامعي سابقاً، وخبير الأمم المتَّحدة حاليَّاً، فصرنا بفضله، منذ سنوات طوال، عائلة نتقاسم الأخبار، والمعلومات، والأفكار، والعواطف، في السَّرَّاء والضَّرَّاء، عامَّة وشخصيَّة، رغم أن الكثيرين منَّا لم يروا، للعجب، بعضهم البعض!

حامد، الذي يلفَّب، أيضاً، بـ “البرليني”، روى لنا، مؤخَّراً، قصَّة شخصيَّة شديدة الالهام، أشعلت الحماس في “الحوش” بصورة غير مسبوقة، حيث أنشأ، في بحري، بالمراسلة، من مقرِّه بألمانيا، ما أصبح يُعرف، الآن، والحمد لله، بـ “مركز القرشي للتَّدريب المهني والتَّلمذة الصِّناعيَّة”، وذلك بمتابعة لصيقة من أسرته وأصدقائه في السُّودان، ودعم معنوي من صديقيه محمَّد محمود وبكري البلة في الدِّياسبورا. ولاحظوا تسمية المركز على شهيد أكتوبر الأوَّل! بعثت إليه برسالة تهنئه قصدت ألا تجئ تقليديَّة، وفي ما يلي أشرك قرَّائي فيها:

[أخي حامد،

إطلعت على حسن صنيعك، وعلى كلمـات التَّهـاني والتَّقريظ النَّبيلـة التي سـبقت رسـالتي هذه إليك، والتي لا تحتاج إلى مزيـد. على أنني أودُّ، فقط، وأنت الأمـدرمانيُّ القح، أن أهديك حكاية ربَّما صادفتك في “الرُّوزنامة” من قبل، ومع ذلك لا أرى بأساً من اجترارها هنا، فبعض الحكايات تستحق.

في أحـد الاجتماعات التَّأسيسيَّة لجامعة أم درمان الأهليَّة، ذات مساء شتائيٍّ باكر في مطالـع الثَّمانينات، بسهَلَة بيت أحمد سـيد احمـد سـوار الدهب، بحي الخنادقة بأم درمان، تصادف أن جاء مجلسي إلى جوار العميد يوسف بدري، مع آخرين، على واحـد من العناقـريب العديدة التي صُفَّت لنا! كانت الكهرباء، يومئذٍ، مقطوعة، ورئيس ذلك الاجتماع، البروف محمد عمر بشير، يكابد ليسـتعين، في تدوين محضره، بفانوس كيروسين. كانت لهبة الفانوس المتمايحة تعكس ظلال الثُّلة من الرِّجال الذين تحلقوا، ذلك المساء، كسرب من النَّوارس، على تلك العناقـريب، في جلابيبهم وعمائمهم البيضاء، وظلالهم تتمايح، بدورها، على الجُّدر المحيطة بفعل تلك اللهبة، وقطط الحيِّ المتهارشة تنطلق، بغتة، بين الحين والآخر، من تحت أرجلنا، قاطعة وقار صمتنا المطبق، ومثيرة زوبعة من المواء والغبار!

بدا لي ذلك كله شبيهاً بمشهد رجال على شاطئ نهر ينتظرون أن يقذف الموج لهم بجثَّة غريقهم، أكثر من مشهد متطوِّعين يعقدون اجتماعاً لتأسيس جامعة أهليَّة! ولمَّا همست للعميد بهاجسي ذاك، التفت إليَّ قائلاً بصوت خفيض:

ــ “يا ولدي ما تخاف .. جنس الشُّغل دا الله مسـخِّر ليهو ناساً مسلَّطين في البلد دي”!

مسلَّطين؟! 

رنَّت الكلمة في أذني رنين الجَّرس .. سلَّط، يسلِّط، ثمَّ صمتُّ وطفقتُ أفكر. طافت بذهني مخايل المدرسة الأهلية، ومعهد القرش الصِّناعي، ومدرسة الأحفاد، ونادي الخرِّيجين، وفرق الهلال، والمريخ، والموردة، والعديد من أندية الأحياء الشـَّعبيَّة، والجـَّمعيَّات الخيرية، والجَّمعيَّات التَّعاونيَّة، وما لا حصر لها من مناسبات الأفراح والأتراح التي لا يعلم غير الله وحده مَن رتَّبها، ومَن فكـر فيها، ومَن وقف عليها، وغيرها، وغيرها، و ..

بعد سنوات طوال، وكان صرح أم درمان الأهليَّة قد بدأ يستقيم على سوقه، جلست أستمع، ذات مساء، ضمن جمهور غفير، بساحة مكتبة الحفيد بجامعة البنات بأم درمان، إلى البروف عبد اللَّه الطَّيِّب، يلقي كلمة تمسُّ شغاف الأفئدة، في تأبين العميد يوسف بدري، فإذا به يفاجئني بوصف الرَّاحل، ضمن الكثير من الخير الذي ساقه في وصفه:

ــ “كان، عليه رحمة الله، رجلاً انسلاطيَّاً”!

انسـلاطي؟! 

رنَّت الكلمـة فـي ذهـني رنيـن الجَّرس! وفور عودتي إلى البيـت هُرعـت أبحث عنهـا فـي “لسـان العـرب”، و”القاموس المحيـط”، وغيـرهـا من الخزائـن الجِّـياد، فلم أجـدها، ومع ذلك لم أستغرب، ولم يساورني أدنى شكٍّ في أن البروف إنَّما قصد إلى نفس ذلك المعنى الذي كان قصد إليه العميد حين وصف، بلفظ “المسلَّطين”، ذلك السِّرب من النَّوارس الذين كانت ظلالهم تتمايح، ذات مساء شتائي بعيد، على حوائط حيِّ الخنادقة، بفعل لهبة فانوس آل سـوار الدهب! لم أستغرب، بل كيف أستغرب، والعربيَّة شـغل البروف الذي لطالما نحت فيه، وحوَّر، وأبدع!

فسلام عليك يا حامد. سلم عليك أيُّها الأمدرمانيُّ، البرلينيُّ، الانسلاطيُّ، المسلط، وسلام على كلِّ من كتب إليـك مهـنئاً، ومؤازراً، ومقرِّظاً، وأخص بالسـَّلام كلَّ مَن أعديته بمشروعك الملهم، فراحت نفسه تحدثه بإقامة مشروع للتَّعليم المهني يردُّ به بعض جميل شعبنا، وأذكر بالخير كله، وبأعمق آيات الشُّكر والامتنان، تلك المنح المجَّانيَّة التي كانت تخصِّصها البلدان الاشتراكيَّة لبعض عمَّال بلادنا المهرة، فتعلَّموا، وتدرَّبوا، وطوَّروا معارفهم، ومهاراتهم، في معاهدها البوليتيكنيكيَّة.

وختاماً، ليس أوفق، في هذه المناسبة، من أن أقترح على “حوش عابدين” تبنِّى مبادرة تعوِّض بلادنا عن “المعهد الفنِّي” الذي تحوَّل، للأسف، إلى جامعة أخرى!]

السَّبت

من النَّقد الذي ينبغي توجيهه لأصحاب “العمليَّة السِّياسيَّة”، أنَّ ما أبدوا من اهتمام بمحض “رمزيَّة” المواقيت التي حدَّدوها لإعلان مخرجاتها (1 أبريل ـــ 6 أبريل ـــ 11 أبريل)، يفوق بكثير ما بذلوا من صبر في “الإقناع” بجدواها، لو أنهم كانوا يرونه ممكناً (!) دَعْ الارتباك الذي أصاب حتَّى إعلاناتهم عن تلك المواقيت؛ فعلى حين كان خالد عمر، المتحدِّث باسم “العمليَّة السِّياسيَّة”، قد حدَّد، بلسانه، “الأوَّل من أبريل ميقاتاً لتوقيع الاتِّفاق النِّهائي”، انقلب، قبل يومين، فقط، من ذلك الموعد، يغالط بأن أحداً لم يقل ذلك (شريط الأخبار، شاشة “سودان بكرة، 30 مارس”) ثمَّ تأكيداً لهذا الارتباك، ضغثاً على إبالة، شدَّد الواثق البرير، النَّاطق الرَّسمي للمجلس المركزي للحريَّة والتَّغيير، في اليوم التَّالي مباشرة، على أن التَّوقيع على “الاتِّفاق النِّهائي” سيكون “في الأوَّل من أبريل (الانتباهة؛31  مارس)!

من جهة أخرى، ورغم أنني من معارضي هذه “العمليَّة”، أصلاً، كما، وبالتَّبعيَّة، من معارضي الورش والفعاليَّات التي نظَّمت في سياقها، فإنني لا أبخِّس الملاحظات التي ساقها بعض المدنيِّين في ورشة إصلاح قطاع الشُّرطة، إزاء رفض أهل هذا القطاع لمطلب الاصلاح نفسه. لكنني أرى أن تلك الملاحظات لم تكن أساسيَّة. فبدلاً من تبديد الطاقة والوقت في الاحتجاج على عدم الاهتمام بالجَّندرة، أو على احتكار الشُّرطة للمنصَّة، أو على تقليل فرص المدنيِّين في المناقشة، أو على مطالبة الشُّرطة بالاستقلاليَّة بحيث يكون وزير الدَّاخليَّة منها، أو ما إلى ذلك، فإن الأمر الذي كان ينبغي التَّركيز على إثارته، ومناقشته بقوَّة، هو أن جهاز الشُّرطة ذاته ليس “عسكريَّاً”، بل “مدني” بامتياز، وعلى هذا الأساس ينبغي أن  يكون قانونه، وأن يُستتبع للحكم المحلي .. تلك هي “المسألة”!

 

الأحد

في الثَّامن من مارس، يوم المرأة العالمي، خطر لي أن ثمَّة خمس كلمات عربيَّات ظلمنها ظلماً بيِّناً. أولاهنَّ أن الرَّجل، إذا كان على قيد الحياة، فهو “حيٌّ”، أمَّا المرأة فهي “حيَّة”! وثانيتهنَّ أن الرَّجل، إذا أصاب، فهو «مصيب»، أما المرأة فهي «مصيبة»! وثالثتهنَّ أن الرَّجل، إذا تولَّى القضاء، فهو “قاضٍ”، أمَّا المرأة فهي “قاضية”! ورابعتهنَّ أن الرَّجل، إذا تولي مقعداً نيابيَّاً، فهو “نائب”، أمَّا المرأة فهي “نائبة”! وخامستهنَّ أن الرَّجل إذا تسلَّى بعمل ما، فهو «هاوٍ». أمَّا المرأة فهي «هاوية»، و”الهاوية” من أسماء جهَّنم!


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *