لم تكن الانقلابات العسكرية في السودان، على مدى 66 سنة هي عمر السودان المعاصر بعد نيل استقلاله، تلاقيّ رفضا شعبيا فور وقوعها، بل كانت تحظى بتأييد، أيا كانت درجته، من قوى سياسية عادة ما تكون مخططة ومشاركة، كما حدث في 1969 و1989، والمصادفة وحدها جعلت الرقم (9) حاضرا برغم ألا علاقة له سوى أنهما قاما على آيدلوجية سياسية وفرت السند الجماهيري والغطاء السياسي، الأمر كان مختلفا في انقلاب 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، فقد وجد دعما من “السيدين”، الميرغني والمهدي، لكن الأثر الجماهيري كان محدودا. لكن انقلاب 25 أكتوبر 2021 الذي استولى به قائد الجيش الفريق أول عبد الفتاح البرهان على السلطة بمشاركة مجموعات سياسية وحركات مسلحة، هو الانقلاب الأول في السودان الذي وجد رفضا جماهيريا ومقاومة سلمية شديدة، منذ ساعاته الأولى وعلى مدى سنة كاملة دون توقف للحراك الجماهيري المسنود بلجان المقاومة والأجسام النقابية والمهنية والحرفية، وتتقدمهم الأحزاب السياسية في (قوى إعلان الحرية والتغيير) التي خرج عنها لاحقا الحزب الشيوعي السوداني .
لماذا وجد هذا الانقلاب رفضا مجتمعيا وسياسيا كبيرا خلافا للانقلابات العسكرية السابقة؟ هل لأنه لا يستند على رؤية سياسية وسند مجتمعيّ؟ أم أن منفذيه من العسكريين والمدنيين والحركات المسلحة لم يهيأوا ملعب الاستيلاء على السلطة جيد ؟
هنا تأتي الإجابة، ثورة ديسمبر المجيدة. برغم كونها تبنت خطابا موجها لإسقاط نظام عمر البشير وحزبه المؤتمر الوطني المحلول، بعبارة جزلة وثورية جلية “تسقط بس”، لكنها تضمنت معها رسائل مهمة، هي جوهر شعارات الثورة والتغيير السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وهي “حرية، سلام وعدالة”، وتمثلت كذلك في رفض الخطاب العنصري والتقسيم المجتمعيّ والقبائلية السياسية والزبائنية السياسية التي أطر لها الإسلاميون طيلة ثلاثين سنة مضت. ورفعت الثورة هدفا لها بأن تكون المواطنة أساسا للحقوق والواجبات وبناء دولة القانون والمؤسسات، أي أن الثورة أحدثت تغييرا مفاهيميا لدى السودانيين بجميع فئاتهم الساعية للديمقراطية، لذلك فأن القوى السياسية والمدنية والقوى المجتمعية التي تشكل الحركة الجماهيرية بتمظهراتها المختلفة، التي اسقطت نظام الحركة الإسلامية، استطاعت هزيمة الدعاية السياسية والخطاب الذي صدر عن العسكريين وشركائهم للاستيلاء على السلطة منذ يومه الأول في 3 يونيو 2019 بفض الاعتصام أمام القيادة العامة، والاعتصامات في مدن الولايات تزامنا مع ذلك، لجأ وقتها العسكريون للقبيلة والعشائرية، وهزمت الحركة الجماهيرية في 30 يونيو 2019 تلك المحاولة وتحقق الاتفاق السياسي والوثيقة الدستورية.
لذلك فإن سردية انقلاب 25 أكتوبر 2021 التي انبنت على اغلاق ميناء بورتسودان بحشد القبائل والعشائر واعتصام القصر الشهير الذي قام على ذات الفكرة، جعل العقل النقدي يشتغل لدى السودانيين بشكل كبير في تفنيد سرديات الانقلاب ودحضها في مواكب الحكم المدني 21 أكتوبر 2021، قبل ثلاثة أيام من الانقلاب، حشدت القوى السياسية والمدنية، وعلى رأسها قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة أرث الثورة والنضال السلمي وآلياته حتى قبل استيلاء البرهان على السلطة، ومع استمرار الحراك الجماهيري تم تنفيد جميع دعاوى ومبررات العسكريين وشركائهم، لتؤكد أن عهد الانقلابات العسكرية قد انتهى في السودان .
الإجابة على هذا السؤل تبدو أكبر من أن يجيب عليها كاتب هذا التحليل لوحده، ولكن لا بأس من المحاولة، على الأقل في كلمات حسب التصور الشخصي ووجهة النظر الخاصة، أشراط الثورة المفاهيمية لم تتحقق بصورة كاملة حتى قبل انقلاب 25 ولكنها تمضي للتشكل بثبات تجاه فكرة التعددية السياسية والحزبية وبناء الأجسام المدنية “النقابات”، مثلا، ومنظمات المجتمع المدني “لجان المقاومة”، بما يضمن التأسيس الديمقراطي القائم على المشاركة والممارسة الديمقراطية عبر الانتخاب، وفتح المجال للحوار بين القوى السياسية والمجتمعية على اختلافها التي تتفق أهدافها حول الديمقراطية والانتقال وتحقيق أهداف الثورة المتمثلة في تفكيك بنية نظام الإنقاذ المالية والسيطرة على مفاصل الدولة المدنية والعسكرية، وإخراج المؤسسة العسكرية من العمل السياسي تماما ونهائيا، وتوحيد القوات العسكرية والحركات المسلحة في جيش واحد، وولاية الدولة على المال العام والموارد التي تخص الشعب السوداني كاملة، إضافة لصياغة بناء دستوري جديد يستوعب مطالب السودانيين جميعا، لبناء المستقبل والتي تقوم على قاعدة العدالة الانتقالية والمحاسبة والقصاص.
هذه الأهداف التي تتفق عليها القوى الديمقراطية والثورية هي التي تقوم عليها أسس الثورة المفاهيمية تجاه قضايا الحكم والعملية السياسية التي تدير شؤون البلاد في المستقبل .
لإجابة أيضا على هذا السؤال تتطلب مشاركة واسعة من الجميع ولنتحدث عن إجابة مختصرة، وهي :
دائما ما كانت الانقلابات في السودان تتبنى خطابا سياسيا موجها بصورة مباشرة إلى الأحزاب السياسية وتحميلها أسباب الاستيلاء على السلطة برغم من أنها تستند على قوى ومجموعات سياسية تدعمها، مثل ما حدث في 1958 و1969 و1989 و2021، وتلجأ للعنف لقمع الحراك الجماهيري المناهض لها، وهو ما وجد مقاومة كبيرة في نموذج انقلاب 25 أكتوبر، حتى قبل وقوع الانقلاب ذاته من خلال الخطاب السياسي والإعلامي الذي صنعته قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة ضد الانقلابات العسكرية، وتحقيق مطالب الحكم المدني، لا يلجأ العسكر للعنف فقط، بل إلى عسكرة الحياة المدنية والسياسية، والبداية بحل الأحزاب السياسية وحظر عملها، وحل النقابات وتنفيذ حملات اعتقالات ومحاكمات سياسية وتعسفية للسياسيين والنقابيين، حصل ذلك بمجرد استيلاء عبود على السلطة، وكذلك انقلاب جعفر نميري في 1969، ولكن القمع الشديد تبدى أكثر في انقلاب الإسلاميين في 1989 وذات الأمر سار عليه انقلاب البرهان في أكتوبر 2021، وهي بذلك تؤسس لصدامات مجتمعية في الحياة العامة وتزيد من حدة الاستقطاب السياسي وإدخال الجيش كمؤسسة حزبية أكثر منها مؤسسة قومية ومهنية مناط بها حماية الشعب والدستور. علاوة على البحث عن حواضن خارجية للبحث عن السند للسلطة القائمة والتدخل في الاقتصاد ومزاحمة المواطنيين في التجارة والصناعة والزراعة لمصلحة استمرار النزاعات الأهلية، يضاف لذلك ما تحدثه الانقلابات من سيولة أمنية لديها ارتباطات بالأوضاع الاقتصادية التي تجعل فئات كبيرة تحت دائرة الفقر والفاقة فتكون الجريمة حاضرة .
إن إنهاء الانقلابات العسكرية كمطلب أساسي للثورة يتطلب بالضرورة تواضع القوى السياسية والمدنية التي ظلت تعارض نظام الإنقاذ وحزبه المؤتمر الوطني المحلول على تحقيق هذه الأهداف، أن تعمل عليها بشكل مستمر ودؤوب وتوحد جهودها على الأقل لإنهاء انقلاب 25 أكتوبر واسقاط سلطته. ورفاهية الاختلاف السياسي من الأفضل أن تكون في فضاء ديمقراطي وإطار دستوري يضمن التعددية السياسية والحزبية، يكون الضامن الأساسي في ذلك هو الشعب .