صحيفة الحداثة

وعي جديد لبناء حداثة وليدة الثقافة

ميثاق عرض “الخطاب السياسي السوداني”

أعمال فيروز عمر

شارك هذه الصفحة

لعل السؤال الأهم الذي تتقاصر دونه جميع الأسئلة السياسية الأخرى، في هذه المرحلة من تاريخ السودان، هو كيف يمكن أن تكون الدولة السودانية دولة ذاتها، دولة ممكنة كما يريدها السودانيون والسودانيات؟

إذن من أين وكيف يمكن للسودانيين والسودانيات الحصول، بكل وضوح، على أجوبة كافية ومقنعة ومفيدة وعادلة وشاملة ومناسبة للسياق الذي يجب أن يكون عليه اليوم نظام القيم والحريات والحقوق والحكم والإدارة العامة؟

ردا على ذلك نقول: إن الإجابة تكمن في الخطاب السياسي لا سيما الخطاب السياسي.

صحيح إن المرء قد يقترح لنفسه ولغيره عدة مظان معرفية سياسية يستقصي فيها وعبرها الخطاب السياسي، سواء كانت هذه المظان مظان فلسفية أم مظان فقهية، وهي جميعا، بكل تأكيد، مظان متاحة لمن يجتهد في تحصيلها، لكن هذه المظان نفسها هي، بطبيعة الحال، مظان مفتوحة، وواسعة المساحة، ومتباينة الأراء، وكثيرة التشعبات، كما أنها لن تكون هي في حد ذاتها، من حيث المبدأ والواقع، مرجعا سياسيا رسميا معتمدا وملزما للسودانيين والسودانيات، إلا في حدود ما أقرّوه هم منها على أنفسهم وما ارتضوه من شأنها في منابرهم وممارستهم السياسية.

وفوق ذلك كله، فإن المظان المعرفية السياسية المفتوحة، لن تكون بالقصد والتفصيل مصدرا معرفيا سياسيا مكرسا لتعريف ما يجب أن تكون عليه حال الدولة في السودان في المرحلة الانتقالية والمرحلة التي تليها.

فتعريف نظام الدولة في السودان ليس واجبا يمكن أن يضطلع به آخرون نيابة السودانيين والسودانيات، إنما هو عمل معرفي سياسي سوداني قصدي، لا يمكن أن يهم أحدا من الناس بقدر ما يهم، بالأساس، السودانيين والسودانيات أنفسهم. لذا فإنه ما لم يتم العثور على وصفٍ سوداني قصدي معتمد بشأن نظام الدولة السودانية وما يجب أن تكون عليه، فإنه من المتعذر الجزم بوجود الدولة نفسها إلا باعتبارها مجرد هياكل فارغة، وموارد بشرية تائهة، ودولاب تنفيذي يومي لا وجه ولا ساحل له، وأموالا سائبة المنفق، وأحزابا تسعى نحو عالم تجهله.

لكن هل يتطلب الحصول على تعريف لنظام الدولة السودانية بوصفه واجبا يقع مباشرة على عاتق السودانيين والسودانيين، إطلاق مشروع علمي ونقدي وفقهي لاستكتاب القادرين منهم، حتى يمكن استجلاء طبيعة نظام الدولة أو العثور، مثلا، على أفضل نظام ممكن يجب أن تكون عليه الدولة السودانية، أم ماذا؟ صحيح أنه من الممكن إطلاق مثل هذا المشروع المعرفي العام لاستكتاب السودانيين والسودانيين، لكن لماذا لا نبدأ اليوم مما هو موجود بالفعل، أو مما هو مفترض أنه موجود؟

حسنا، إذن من أين يمكن أن نبدأ؟ ردا على هذا السؤال، فإنه يمكن البدء في إطلاق ذلك المشروع من خلال (مشروع عرض الخطاب السياسي) لكل حزب من الأحزاب السودانية، القديمة والجديدة منها، وهي كثيرة ومتعددة المنطلقات.

وذلك بالطبع يستلزم إشعال “حملة شعبية معرفية سياسية” يكون هدفها هو إرساء: “ميثاق سوداني”، القصد منه هو إلزام الأحزاب السياسية كلها، ونكرر: ” إلزامها كلها”؛ بضرورة عرض خطابها السياسي، على الأقل، عن كل من نظام الدولة والمجتمع والثقافة والآخر والبيئة”.

فكرة ميثاق عرض الخطاب السياسي السوداني

ببساطة شديدة، تتلخص فكرة “ميثاق عرض الخطاب السياسي السوداني”، في أن تقوم الأحزاب السودانية مجتمعة، لكن كل على حدة، بتقديم “كتاب الخطاب السياسي” الذي يمثل الحزب ويعبر عنه، وعن ما يريد القيام به. فالخطاب السياسي هو المرجع الذي بالاستناد إليه يمضي الحزب في حياته ومشاركته في نشر الوعي وإدارة الحكومة والتشريع العمومي الذي يشرح للسودانيين والسودانيات.

فبدون الخطاب السياسي لا يمكن التعرف إلى فكرة ومنظور الحزب عن نظام الدولة ووظيفتها وبنيتها القانونية والحقوقية والمؤسسية والإدارية والمالية والاقتصادية وسياسات الاستيعاب والتوظيف والتشغيل والعلاقات الرسمية واستراتيجيات وخطط العمل في مختلف القطاعات العامة. وبدون عرض الخطاب السياسي تغيب على الناس نظرة الحزب للمجتمع، والثقافة ومنظوره للآخر، وتوجهاته نحو البيئة، وغير ذلك من الموضوعات والقضايا ذات الصلة.

الحزب السياسي بوصفه مركزا متقدما للبحث العلمي

تمضي المرحلة المعاصرة والنزوع المستقبلي، إلى ابتدار تأسيس جديد عن الدولة، حيث يعاد النظر في ماهية الدولة الحديثة نفسها، وفي أسسها الفلسفية وفي علاقتها بمشروع الحداثة التحرري، وبالإمكانات البديلة والصور المعاد إنتاجها من هذا المشروع نفسه، بوصفها إمكانات وصور تستلهم وتعمل على دمج السياقات الوطنية والمحلية لتحقيق الوظيفة السياسية في مجتمع تعددي كالسودان، حيث تبدو جلية اليوم ضرورة بناء المشروع الوطني الذي يجمع معا وبجدية كل السودانيين والسودانيات. دون أي رفض لفكرة ما مُعززة لعمومية الوطن. ودون أي تخفيض لمستوى وأنشطة الانفتاح الدائم على العالم.

وعلاوة على ذلك، فإن هذه المرحلة من تاريخ السودان تعمل الآن بقوة على إعادة تعيين المجال السياسي الرسمي بوصفه امتدادا للسلوك والكفاح الشخصي اليومي، حيث يبزغ أفق جديد حول مفهوم الدولة والفعل الحكومي والفعل المدني. فالقيم التي تعيد الآن تشكيل وضبط فكرة المؤسسة الرسمية العامة ذاتها، إنما تبني على اعتبار الفعل “السياسي” إنهماما بالفردي- الحياتي في المقام الأول، ولذا فإن المجال السياسي وفقا لهذا الاعتبار سيصبح أكثر احتداما وأشّد تنافسية على المستوى الاجتماعي.

والأحزاب السياسية السودانية ما لم تتحول، الآن، بجدية وبكل ثقلها؛ لمراكز بحثية متقدمة وعالية المستوى، تولي اهتماما متعاظما بالبحث العمومي المستمر خاصة في مجال نظام الحكم والمشاركة السياسية والاقتصاد والثقافة والميديا والذات والآخر والتعددية والحقوق والبيئة؛ فإنها ستكون مجرد هياكل حزبية فارغة، وستخرج مباشرة من المشهد السياسي والبحثي العمومي معا.

فصورة الحزب السياسي السوداني الذي سيصمد اليوم في الساحة السياسية المليئة بالمتنافسين السياسيين هي صورة تقوم اليوم على مدى قدرة ومرونة الحزب السياسي في “التمثيل الأنثروبولوجي”، للسودانيين والسودانيات، بعد أن كانت صورة الحزب السياسي تقليديا تقوم على مجرد فكرة “التمثيل النيابي”. وهذه فكرة كانت تتحرك وفقا لمنطق سياسي فئوي.

أما التمثيل الأنثروبولوجي من جهة كونه شغلا وانشغالا عموميا، فإنه يُلزِم الحزب السياسي السوداني بأهمية تحمل المزيد من العبء الهيرمنيوطيقي والتعبيري والإنابي عن المواطن في اختلافه وتعدديته، وذلك ليس على المستوى الرمزي وحده، بل كذلك على صعيد المصلحة المادية.

فالقدرة السياسية والحقوقية على التمثيل الأنثروبولوجي بوصفها استيعابا وتجاوزا لفكرة “الإنابة العامة التقليدية” هي القدرة التي تؤهل اليوم الحزب السياسي في السودان للحكم والإدارة والتعبير عن الناس، وهي نفسها القدرة التي تؤهل الحزب لابتدار مشروعات وخيارات الانصاف الاجتماعي العمومي التي تخص السودانيين والسودانيات. وعلاوة على ذلك، فإن تلك القدرة هي التي تمكن الحزب من قيادة الدولة انطلاقا من التزام مقتدر بمنظور وفكرة إقرار وتعزيز سياسات الاختلاف والتعدد وحماية البدائل الحياتية الأوفر مرونة. وهذا بالطبع تحول قيمي وسياسي وحقوقي ومؤسسي واستراتيجي لا تقدر بنية الأحزاب السودانية التقليدية اليوم على الاضطلاع به ما لم تتغير هي نفسها.

بل على العكس، وكما هو متوقع؛ نتيجة لقراءة تاريخية وتحليلية، سوف تختار الأحزاب السودانية ذات البنية الفكرية والسياسية التقليدية صورا قيمية وحقوقية ومؤسسية بائسة، من إرشيفها ومن أفقها الحزبي، والعمل على تقديمها في ثوب دعائي جديد يستفيد من انتشار الميديا وتقنياتها لكي تقنع السودانيين بقدرتها على تمثيلهم. وهذا ينطبق على أحزاب قديمة وأخرى جديدة على الساحة السياسية.

إذن، من المهم جدا أن نعي كسودانيين أننا ندخل اليوم على حقبة عالم يعلي بشدة من الشخصانية الفردية والشخصانية الجماعية أو الشخصانية الثقافية، التي تترجم نفسها سياسيا وحقوقيا وإداريا واستراتيجيا في ضرورة وجود أحزاب سياسية سودانية يتوجب عليها أن تتبنى وتتبع “منطقا سياسيا أنثربولوجيا تعدديا عموميا نقديا”؛ من أجل إعادة بناء خطابها وتنظيمها وأداء وظائفها الاجتماعية والثقافية والتواصلية والسياسية والاقتصادية والتشريعية والحقوقية والإدارية حتى تكون مؤهلة للبقاء السياسي وحتى تكون مقتدرة على المشاركة القياسية في إدارة الدولة وتنمية المجتمع.

وكل ذلك، إنما يستلزم بالأساس وجود دولة وطنية تقوم على إقرار منطق سياسي وحكومي عمومي مساواتي يشمل جميع السودانيين. ومثل هذه الدولة لا توجد ولا يمكن أن تتأسس نظريا وتطبيقيا إلا فقط استنادا إلى مفهوم المواطنة Citizenship ودولة المواطنة Citizenship State.

ولن يمكن تحديد موقع السودان اليوم بالنسبة لدولة المواطنة وواقع الاعتراف بالآخر ونموذج إقرار وانفاذ التعددية الثقافية على نحو رسمي، إلا من خلال إطلاق مشروع عام تستعرض فيه الأحزاب السودانية كلها خطابها الذي يكشف بما يكفي عن تصورها المعرفي والسياسي والحقوقي والقانوني والاقتصادي والمؤسساتي والدولي. فمن “الخزي” و”العار” أن تأمل أحزاب سياسية في إدارة الدولة السودانية وهي تستحي اليوم وتعجز عن أن تستعرض خطاب السياسي أمام السودانيين والسودانيات.

أعمال فيروز عمر
أعمال فيروز عمر

الدولة ليست مسرحا للتعلم الحزبي أو التعلم المجاني

يبدو من المتعذر قبول السودانيين والسودانيان بأي حزب سياسي لا يملك اليوم خطابا متكاملا ليقدمه لهم حتى يتعرفوا مسبقا على رؤيته بشأن الدولة والمجتمع الثقافة والآخر والبيئة والقضايا والمسائل الأخرى ذات الصلة.

أما القول بأن الحزب السياسي سيتمكن من أن يعرض خطابه على نحو جيد ومتكامل، فقط، حين يكون في السلطة مشاركا فيها أو منفردا بها، فهو قول لن يقبله اليوم أحد من السودانيين والسودانيات؛ فقط استيأسوا من منح ثقتهم مجانا لا سيما لمن لا يثق في نفسه بتقديم ما لديه.

 صحيح أن الدولة هي في الواقع محل للتفكر والاستخلاص، وهي موضع الخوطبة السياسية، لكن في الوقت ذاته فإن الدولة ليست أصلا مسرحا للمران والتعلم الحزبي.

ولم يعد هنالك وقت للتجريب والمجانية للقبول بممارسة “منهجية الخطأ والصواب” حين يتعلق الأمر بحياة باتت اليوم على المحك، وحين يتعلق الشأن بمستقبل ونهضة السودانيين والسودانيات الذين لم يعد لديهم الكثير من الفرص للمخاصرة بما لديهم من وقت وموارد.

فضلا عن ذلك كله، ليس هنالك أي هامش حياتي آمن بعيدا عن السياسة والحكومة والإدارة العامة وما تقرره من قرارات وما تتبناه من سياسات؛ إذ تجاوز التاريخ، الآن، تلك اللحظة التي يمكن فيها لأحد من السودانيين أو من السودانيات أن يفلت أو تفلت عندها من فلك السياسات الرسمية لكي يعيشوا حياتهم أو يحددوا مستقبلهم بعيدا عن مسار دولاب الحكومة وقراراتها وسياساتها.

والمفارقة في النقطة أعلاه تأتي من أن الحكومة في الأزمنة الحديثة تسيطر على عالم الحياة المعيش وتضع خوارزمية تشغيله، لكن بالنظر إلى الحالة السودانية فإن قطاعا كبيرا من الاجتماع السياسي لم يدخل حتى اليوم بكامل هيئته للأزمنة الحديثة، لكن مع ذلك، فإن تمدد سلطة الحكومة طبقا لمبدأ النيابة العامة يجعل قطاعا عريضا من المجتمع السوداني يخضع لرسمانية هذا المبدأ، فإذا ما أراد جزء من القطاع الاجتماعي السودانيان يعيد، على نحو جزئي، رسم موقعه وتوجهه الحياتي بالنسبة لمنطق الدولة الحديثة اعملت فيه الحكومة أجهزتها وآلاتها القمعية المحمية بإتيقا الدولة الحديثة وبقوة القانون.

هكذا إذن تحتشد في السودان قطاعات اجتماعية وهيئات سياسية ومسارات للحياة من أزمنةٍ شتى، تستحق اليوم أن تتم نمذجتها وخوطبتها بجدية متكاملة ثم طرحها للتداول بين السودانيين والسودانيات بما لا يؤدي إلى إعاقة حياة فرد أو جماعة.

فهل يبدو من المعقول إذن ترك حزب سياسي يتعلم ويدير السلطة بمنهجية الخطأ والصواب على حساب الشعب؟ وهل يكون هنالك أي اعتراف جدي بالمواطن وحقانيته في الدولة والحكومة والسلطة والإدارة العامة حال وصول حزب سياسي للسلطة قبل أن يفصح عن خطابه بشأن ذلك كله؟ بل، كيف يمكن السماح لأي حزب سياسي سوداني أن يصل أصلا للسلطة دون أن يكون قد عرض، على نحو كافٍ، خطابه السياسي مسبقا على الناس؟

الشرط الاكسيوماتيكي في الخطاب

ليكن واضحا إذن منذ البدء، أن فكرة “ميثاق عرض الخطاب السياسي السوداني” ليست هي فكرة متطابقة مع “فكرة البرنامج الانتخابي”. لماذا؟ لأن “البرنامج الانتخابي” الذي يطرحه الحزب كالعادة وقت الانتخابات في “منشور” أو في “مطبق” أو “لقاء إذاعي” أو “لقاء تلفزيوني”، ليس هو الشأن المقصود هنا؛ طالما أن فكرة ميثاق عرض الخطاب السياسي فكرة أكثر جذرية وأكبر وأشمل، سواء من ناحية قيمها، أم من أغراضها أم محتواها أم حججها أم منهجيتها.

فمعهود “البرنامج الانتخابي” هو أن يحمل عبارات وبنود مثل: بناء وتعزيز وحماية الديمقراطية، وتنمية وتطوير الريف، والنهوض بالاقتصاد السوداني، ورتق النسيج الاجتماعي، ومجانية التعليم، ودعم الخدمات الصحية أو مجانية الصحة. لكن هذا العبارات والبنود نفسها من منظور “اكسيوماتيكية الخطاب السياسي” لن تأتي على ذلك النحو المقتضب، إنما توضع في سياقها النظري النسقي و”المبدهن” الذي يكشف عن بنيتها وعناصرها ومنطلقاتها ومسوغاتها وأدلتها وقيمتها في مقابل بدائل وسياسات أخرى بالنظر لما يحتمله السياق السوداني اليوم.

ذلك كله يُخرِج تلك العبارات والبنود من منطقها الاختزالي والانتقائي المبتور عن الرؤية النظرية الكلية. كما يخرجها عن منطق العادة الانتخابية في السودان التي تحصر “عرض الخطاب السياسي كله” في “البرنامج الانتخابي” الذي عادة ما يتم اختزاله هو نفسه إلى قصاصات صغيرة حتى يصير هو نضيدة من البنود المقتضبة، التي يؤدي اقتضابها إلى حدوث تضليل محسوب في وعي الناخبين والناخبات، كونه يشتغل على مستوي عام جدا من الإشارات والاستعارات المنزلقة على السطح.

أما عرض “الخطاب السياسي” للحزب فهو عرض يجب فيه أن يغطي رحابا معرفيا ومنظوريا واسعا من المكونات التي من أبرزها الايدولوجيا أو النظرية أو الخلفية والأفق النظري للحزب، ونظامه الأساسي ولوائحه المصاحبة له، والخطة الاستراتيجية التي يرى من خلالها الدولة والمجتمع والآخر والبيئة والدستور والقوانين ووظيفة الدولة وكيفية إدارتها التي يتقصدها بالتشخيص والنقد بالمعالجة، بحيث يضع ذلك كله في الخطاب بوصفه نسقا واحدا متسقا مرتبا على نحو موثق ومجاز من لدن الحزب المعني.

موضوعات مفتاحية في الخطاب

يفترض في الخطاب أن يمثل روح الحزب: قيمه وثقافته ورؤيته ومساره وموقفه من كل من: إدارة المستقبل، الدين والدولة، والهويات الشخصانية والحكومة، اللغة والفكر، الذات والآخر، الجندر، الثقافة، المجتمع، الدستور، القوانين العامة، نظام الحكم والإدارة، الأمن، الجيش، الشرطة، مشاكل الحدود، الصحة العامة، الخدمات الطبية، الجندر، المرأة، الطفولة، الأسرة، الأيتام، السياسات السكانية، الهجرة والنزوح، تنظيم القري، تنظيم المدن، المدرسة، المعاهد الفنية، الجامعة، المعرفة والبحث العلمي الموجه، العولمة، الشركات العابرة للقارات، العلاقات الخارجية الرسمية والشعبية، السلام والأمن الدوليين، التعاون الدولي، الفلسفة الاقتصادية، إدارة واستخدام الأرض، العملة، السياسة المالية، السياسة الائتمانية، الزراعة، الرعي، الغابات والمصائد، الري والكهرباء والسدود، التعدين، الصناعة، التجارة، تنظيم وتخطيط الأسواق، التوظيف والاستخدام، علاقة القطاع الخاص بالقطاع العام، البيئة المحلية والاقليمية، المناخ الكوكبي، الفضاء الخارجي، البحار والأنهار، تفكيك وإنهاء الحرب، صناعة السلام واستدامته، التكنولوجيا والتكنولوجيا البديلة، الاتصالات والنقل والمواصلات… إلخ.

ما لا يستطيعه القانون يقدر عليه الشعب

لنأتي الآن لطرح سؤال مهم، وهو كم عدد الأحزاب اللازم وجودها في السودان؟ ردا على هذا السؤال فإنه يمكن القول بأن القانون لا يقدر أن يحدد عددا معينا يجب الا يتجاوزه السودانيون والسودانيات في تكوين الأحزاب. لماذا؟ لأن الدولة الحديثة التي تريد أن تسير على مبدأ الحرية والتعددية السياسية لا تستطيع من حيث الأصل والواقع أن تحدد عددا معين لوجود الأحزاب. فهذا على الضد من القيم والحس الديمقراطية.

حسنا، لكن من المعلوم أن إبقاء باب تسجيل الأحزاب مفتوحا هكذا دون تحديد إنما يثير مشكلة خطيرة لا يمكن في للواقع تفاديها، وتتمثل في أن الكثرة غير المحدودة للأحزاب تعني التعدد المزعج في الرؤى والتصورات والتصعيد المجاني للصراع حول الدولة والنزاع الشديد بين المعارضة وقيادة الحكومة وتحويل السلطة إلى محل للفوضى لحد تنقلب معه التعددية السياسية إلى مهدد أمني من المستويين: المباشر والاستراتيجي. إذن ما العمل؟

يتمثل “حفظ التوازن الحرية والتعددية السياسية والأحزاب الكثيرة” من خلال إنفاذ مشروع عرض الخطاب السياسي السوداني. كيف يكون هذا ممكنا؟

يكون عبر الوعي الشعبي النقدي. فعلى سبيل المثال، إذا كان القانون المعني لا يقدر أن يحدد عدد الأحزاب، فإنه في الوقت ذاته لا يمنع الشعب من إنشاء نموذج من المقاييس وحقل من المحاكمات النقدية يعمل بموجبه على ترتيب الأحزاب وفقا لخطابها، ومن ثم يقدر الشعب على فرض خيارات كثيرة لاستمرار أو عدم استمرار الخطاب السياسي الفلاني في الساحة السياسية، بل إن الشعب ليقدر على أن يقترح ويفرض نموذج المقاييس والمحاكمات على الساحة السياسية السودانية كلية، سواء باسم الأخلاق، أم الحق في النقد، أم ضرورة تأكيد الحس التاريخي، أم المصلحة العامة، أم إرادة الجماهير. فشهادة تسجيل الحزب إذن ليست عاصما له من ذلك كله. فالحزب هو خطاب وممارسة وأفق.

مسؤولية الناخب عن الإدلاء بصوته

علاوة على ما سلف فأنه يتوجب علينا كسودانيين وسودانيات أن نسأل أنفسنا بجدية: لماذا يجب أن يفلت من المساءلة والتحقيق والعقوبة الناخب أو الناخبة السودانية حين يدلي أي واحد منهم بصوته الانتخابي الشخصي لصالح حزب سياسي يجهل هو/ هي خطابه، أو لا يقدر هو/ هي على أن الدفاع عنه؟

إن الناخبة/ الناخب حين يجهل الخطاب السياسي فإنه يصير مُذِلا لذاته، ومعتديا على الدولة، ومزيفا للوصولية للسلطة، وخائنا للشعب. وهي أوصاف لا يقبلها سوداني أو سودانية ولا يقبلها إنسان يتميز على الأقل بالأخلاق والفهم الجيد. إذن كيف يمكن تفاديها؟ يكمن تفاديها عبر امتلاك الخطاب على نحو كاف، وهذا لا يكون ممكنا على نحو جيد إلا عبر إنفاذ مشروع ميثاق عرض الخطاب السياسي السوداني.

التكوين الخاطئ للسلطة والقيادة

بالإجمال، لن يؤدي جهل الناخب أو الناخبة بالخطاب السياسي السوداني إلا إلى مأزق كبير يتمثل في وقوع الناخب والناخبة في أربعة أخطاء خطيرة، هي: الخطأ المعرفي، والخطأ الأخلاقي، والخطأ السياسي، والخطأ الحياتي. وتلك الأخطاء كلها تقود بالنتيجة إلى حدوث “الشر الأكبر في المجال السياسي” وهو انتهاك تأسيس “النيابة العامة ذاتها” التي بموجبها تصير الدولة والحكومة والسلطة والأحزاب أنشطة اجتماعية ممكنة وعادلة وجمعية.

عليه، فإن استعادة “النيابة العامة” استعادة اجتماعية نقدية وحقوقية وتشاركية لن تكون استعادة ممكنة ومستدامة إلا تأسيسا على المعرفة والأخلاق والتداول والاتفاق والمقبولية والرضا، وهي كلها أسس اجتماعية سياسية وحقوقية وتكوينية لن تصير واقعا حياتيا معيشا إلا في الوقت الذي نبدأ فيه في السودان بإقرار وإنفاذ مشروع عرض الخطاب السياسي السوداني على نحو كاف ومتكامل ومستدام.


شارك هذه الصفحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *