“ما قد أصبح أزمة لأطفال السودان، سيتحول إلى كارثة إن لم يتم التحرك والقيام بما يلزم”، هكذا، أطلقت ممثلة اليونيسف، مانديب أوبراين، محاولة أخيرة بقصر الأمم في جنيف، لإنقاذ الموقف، لكن لا يبدو أن صوتها سيكون قادرًا على صرف أنظار المجتمع الدولي عن تحديات عالمية ليس من بينها –بالطبع- وجود سبعة ملايين من أطفال السودان خارج أسوار المدارس، أو أن نحو 325 ألف منهم سيلاقون حتفهم بسبب سوء التغذية الحاد الوخيم.
في 23 سبتمبر الماضي، قالت ممثلة اليونيسف، مانديب أوبراين، في مؤتمر صحفي خاص في قصر الأمم بجنيف “إن أطفال السودان واقعون في عين عاصفة متكاملة من الأزمات المتراكمة فوق بعضها البعض”، قبل أن تعرض حصيلة صادمة لواقع أطفالنا، مفادها أن ما يزيد عن طفل من بين كل ثلاثة أطفال في السودان يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية، أي ما يقرب من 8 ملايين منهم، بزيادة قدرها 2.7 مليون طفل، أو ما نسبته 35 في المئة، منذ عام 2020.
وقالت أوبراين في تقريرها “يعاني ثلاثة ملايين طفل دون سن الخمس سنوات في السودان من سوء التغذية الحاد، من بينهم 650 ألف يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم. وسوف يلاقي نصفهم تقريباً حتفهم دون علاج”.
كذلك، يوجد في السودان أعلى معدل للأطفال غير الملتحقين بالمدارس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وحسب تقرير ممثلة اليونسيف، فإن 7 مليون طفل في السودان لا يذهبون إلى المدرسة. 70 في المئة من الأطفال في سن العاشرة غير قادرين على قراءة وفهم جملة لغوية بسيطة.
في الأسبوع الأول من أكتوبر الماضي، صنف مؤشر منظمة (إنقاذ الطفولة) العالمية،مخاطر التعليم 2022م، السودان في المرتبة الثانية من حيث المخاطر التي تهدد وتعطل أنظمة التعليم، بعد أفغانستان، وذلك، من ضمن أكثر مئة دولة نظامها التعليمي عرضة للمخاطر. وقالت المنظمة إن المخاطر التي يتعرض لها التعليم وأنظمته تتطلب موارد متزايدة من الحكومات الوطنية والجهات الدولية الفاعلة للتخفيف من الأزمات الحالية ومنع الأزمات المستقبلية.
إضافة إلى كل هذا الواقع المأسوي يندرج السودان -أيضًا- ضمن أعلى فئة من الدول التي يتعرض فيها الأطفال إلى درجات حرارة مرتفعة للغاية، وأنه لا مفرّ من أن يقع 21 مليون طفل في السودان تحت تأثير الاحتباس الحراري، وفقًا لآخر تقرير أصدرته اليونيسف، في 30 أكتوبر الماضي، بشأن المخاطر المرتبطة بتغير المناخ التي يتعرض لها الأطفال في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
لم ينفك حال الأطفال عن الواقع السياسي والإقتصادي الماثل في البلاد، لكن ما يجعل الأمر أكثر فداحة هو عدم وجود محاولات جادة ومسؤولة للحل، في وقت باتت معه حتى ثورة التغيير التي علق عليها السودانيون آمالهم في الإصلاح، بلا إثر فعال.
عند اندلاع ثوررة ديسمبر في العام 2019م، وعلى مدى ثلاثة عقود قبلها، ظل ميزان الصرف في الدولة مختلًا بسبب الحروب، إذ يذهب 70 بالمائة من الموازنة العامة لبند الدفاع والأمن مقابل رقم آحادي من المئة مخصص للتعليم والصحة. هذه الصورة الشائهة لم تعدل حتى بعد نجاح الثورة في اقتلاع نظام عمر البشير المباد، فقد انخفضت ميزانية الصحة في السودان خلال العام الماضي من 9 في المئة إلى 3 في المئة من إجمالي الإنفاق العام، كما انخفضت ميزانية التعليم من 12.5 في المئة إلى 1 في المئة، وفقًا لتقارير رسمية.
على مر تاريخ السودان الحديث منذ الاستقلال، ظل التعليم حقلًا للتجارب السياسية التي تتجاذبه يمينًا ويسارًا، دون الأخذ في الاعتبار عجلة التقدم المتسارعة في جميع ضروب العلم والحياة في العالم من حولنا، ووفقًا لمحللين فإن إعادة صياغة الوضع المختل للموازنة كفيل بأن يحدث فرقًا في مجال التعليم، لكن ذلك، يرتبط بالضرورة مع وجود قناعة لدى جميع الأطراف -الحكومة والمعلم والطالب والمجتمع – بأهمية التعليم، واعتباره هدفًا وغاية وأساسًا لصناعة أجيال المستقبل لتحقيق التنمية والرفاة.
فـ”من حقّ جميع الأطفال الحصول على تعليم جيد”، بحسب نصوص المعاهدات والمواثيق الدولية، وهذا يقتضي بالضرورة وجود مؤسسات تعليمية لائقة ومعلمين مؤهلين، مع توفير خدمات الحماية والصحة المدرسية ومرافق المياه والصرف الصحي في المدارس.
غير أن واقع أطفالنا في السودان يبدو عكسيًا، فانعدام الأمن الغذائي، أدى إلى استمرار تفاقم سوء التغذية وأزمات المياه والصحة والتعليم بالنسبة للأطفال في جميع أنحاء البلاد، وحسب تقرير لليونسيف يفتقر حوالي 40 في المئة من السكان في السودان لإمدادات مياه الشرب الأساسية. كما يفتقر سبعون في المئة منهم إلى مرافق الصرف الصحي الأساسية.
تقول ممثلة اليونسيف “إن الرعاية الصحية الأساسية والمياه والنظافة والصرف الصحي هي أمور حيوية لإنقاذ حياة الأطفال. كما أنها من الضروريّات إذا أراد بلد ما أن يكافح الأمراض المعدية في مرحلة الطفولة المبكرة، ويضع حدّاً للحلقة المفرغة التي تربط بين سوء التغذية وتفشي الأمراض”.
ويربط العلماء بصورة مباشرة بين سوء التغذية وإعاقة التعليم في مختلف مستوياته، لدى الأطفال خصوصا في المرحلة الابتدائية، لأنه يؤثر على قدرات الأطفال على الاستيعاب والتركيز.
وحسب قانون تخطيط التعليم العام وتنظيمه لسنة 2001 تعديل 2016، تقع مسؤولية تمويل وإدارة ومتابعة المرافق العامة للتعليم ــ في الأساس ــ على عاتق الحكومات الولائية والمحليات، وعلى الولايات أن توفر لأي طفل في سن السادسة مقعداً دراسياً بالصف الأول، على ألا يزيد عدد الأطفال في كل فصل عن 40 تلميذًا، لكن في منطقة دار السلام بجبل أولياء -45كلم –جنوب الخرطوم، مثلًا يزيد عدد التلاميذ بالفصل عن مائة تلميذ، وبعض المدارس تعمل بدوامين، صباح ومساء لاستيعاب العدد الكبير، مع نقص حاد في المعلمين.
تدعو خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي التزم المجتمع الدولي بتحقيقها، إلى تعميم التعليم وتمكين الجميع من الانتفاع به في مرحلة الطفولة المبكرة، وكذلك في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي.
وحسب اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأمم المتحدة، فإن على الحكومات أن تفعل كل شيء ممكن للتأكد من أن كل طفل في بلدها يتمتع بكل حقوقه الواردة في هذه الاتفاقية، وتتعلق بخدمات التعليم والحماية والصحة المدرسية ومرافق المياه والصرف الصحي في المدارس، وهو ما لم يتحقق في كثير من ولايات السودان، فهل تفعل الحكومة السودانية شيئًا لأجل ذلك؟
ومع هذا الواقع يبقى (الأمل هو بناء عالم يكون فيه صوت التعليم والتنوير أعلى من صوت البنادق).